إيضاحات حول البيع والمقاولة في ضوء القانون المصري

إيضاحات حول البيع والمقاولة في ضوء القانون المصري

 

تمييز المقاولة عن البيع:
المقاولة تتميز بسهولة عن البيع ، فهي ترد على العمل والبيع يقع على الملكية . فالمقاول الذي يتعهد ببناء منزل يبرم عقد مقاولة . أما إذا بنى المنزل لحسابه ثم باعه بعد ذلك ، فالعقد بيع .ويظهر لأول وهلة أن المقاولة تتميز بسهولة عن البيع ، فهي ترد على العمل والبيع يقع على الملكية . فالمقاول الذي يتعهد ببناء منزل يبرم عقد مقاولة . أما إذا بنى المنزل لحسابه ثم باعه بعد ذلك ، فالعقد بيع .
وقد نصت الفقرة الأولى من المادة 674 مدنى على أنه “يجوز أن يقتصر المقاول على التعهد بتقديم عمله على أن يقدم رب العمل المادة التي يستخدمها أو يستعين بها في القيام بعمله”.

ولا شك في أن العقد في هذه الحالة – إذا قدم رب العمل المادة واقتصر المقاول على تقديم عمله – يتمحض عقد مقاولة لا شبهة فيه ([1]). وإنما تقوم الشبهة في الفرض الآخر الذي نصت عليه الفقرة الثانية من المادة 647 مدني ، إذ تقول : “كما يجوز أن يتعهد المقاول بتقديم العمل والمادة معًا” ([2]) . فقد يقع أن يتعاقد شخص مع نجار على أن يصنع له مكتبًا أو مكتبة أو أثاثاً ويقدم النجار الخشب من عنده ، وهذا ما يحصل في الغالب . ويقع أن يتعاقد شخص مع حائك على أن يصنع له ثوبًا ويقدم الحائك القماش من عنده . والرسام يقدم عادة القماش والمادة التي يصور بها فيتعاقد على العمل والمادة معًا . وصانع السفينة يقوم هو أيضًا بتقديم الخشب والمواد اللازمة لصنع السفينة فيتعاقد على العمل والمادة . فهل يبقى العقد في الأحوال المتقدمة الذكر عقد مقاولة ، أو يكون عقد بيع واقع على شيء مستقبل هو الأثاث بالنسبة غلى النجار والثوب بالنسبة غلى الحائك والصورة بالنسبة إلى الرسام والسفينة بالنسبة إلى صانعها؟ ([3]). انقسمت الآراء في هذه المسألة . فرأى يذهب إلى أن العقد مقاولة دائمًا ([4])، والمادة ليست إلا تابعة للعمل . وتكون المقاولة في هذه الحالة ملزمة للصانع بصنع الشيء المطلوب فتقع على العمل ، وهي في الوقت ذاته تقع على الشيء المصنوع فتنقل ملكيته إلى رب العمل ولا تخرج مع ذلك عن نطاق المقاولة ، إذ أن “تملك رب العمل للشيء الذي ينصعه المقاول ليس إلا نتيجة ضرورية لازمة لكون المقاول يقوم بالصنع لحساب رب العمل ، والعقود الواردة على الملكية لا تقتصر على البيع فهناك الشركة والقرض والدخل الدائم واصلح ، وكذلك المقاولة إذا اتخذت صورة الاستصناع بأن كان محلها صنع شيء من مواد يقدمها المقاول” ([5])

والقول بأن المقاولة تنقل ملكية الشيء المصنوع إلى رب العمل مع بقائها مقاولة يجعل للمقاولة طبيعة أخرى تختلف تماماً عن طبيعتها باعتبارها عقدًا يرد على العمل . ولم يقل أحد قبل ذلك إن المقاولة قد ترد على الملكية فتنقلها ، وهي إذا وردت على الملكية فنقلها فذلك إنما يكون إما لأنها اندمجت في عقد آخر أو اختلطت بعقد آخر . وهذا العقد الآخر الذي نقل الملكية في نظير مقابل لا يمكن إلا أن يكون بيعًا إذا كان المقابل نقودًا ، أو إلا أن يكون مقايضة إذا كان المقابل غير نقود . وإذا كان صحيحًا أن المشروع في نصوص متفرقة قد أجاز أن يتعهد المقاول بصنع شيء يقدم فيه العمل والمادة ( م 647/2 مدني ) ، وأنه في هذه الحالة يكون مسئولا عن جودة المادة وعليه ضمانها لرب العمل ( م 648 ) ، فليس معنى ذلك أن المقاولة تبقى مقاولة محضة في هذه الظروف ، ولا يوجد مايمنع من أن تختلط المقاولة بعقد آخر هو الذي يقع على المادة دون العمل ويصح القول مع ذلك إن المقاول هو الذي قدم المادة ، ويكون له بذلك دوران ، دور البائع الذي قدم المادة ، ودور المقاول الذي قدم العمل .

ورأى ثان يذهب إلى أن العقد هو بيع شيء مستقبل ([6])
وهذا الرأي لا يدخل في الاعتبار أن المقاول إنما تعاقد أصلاً على العمل ، والمادة إنما جاءت تابعة للعمل . ولو كان المقاول قصد أن يبيع شيئًا مصنوعًا ، لجاز له أن يقدم لرب العمل شيئًا يكون قد صنعه قبل العقد . وهو إذا فعل ، وقبل منه رب العمل ذلك ، فإن ملكية هذا الشيء المصنوع من قبل لا تنتقل بموجب العقد الأصلي ، وإنما تنتقل بموجب عقد جديد يكيف على أنه بيع ، لا لشيء مستقبل ، بل لشيء حاضر .

ورأى ثالث يذهب إلى أن العقد يكون مقاولة أو بيعًا بحسب نسبة قيمة المادة إلى قيمة العمل([7]).
فإن كانت قيمة العمل تفوق كثيراً قيمة المادة . كالرسام يورد القماش أو الورق الذي يرسم عليه ، والألوان التي يرسم بها وهذه الخامات أقل بكثير من قيمة عمل الرسام ، فالعقد مقاولة . أما إذا كانت قيمة المادة تفوق كثيرًا قيمة العمل ، كما إذا تعهد شخص بتوريد سيارة بعد أن يقوم فيها ببعض إصلاحات طفيفة ، فالعقد بيع ([8]) . وهذا الرأي الذي ذهبنا إليه عند الكلام في البيع ([9]) . ونزيده هنا إيضاحًا فنقول إن الأمر ظاهر في المثلين المتقدمين ، حيث تصغر قيمة المادة إلى حد كبير بالنسبة إلى عمل الفنان فتكون تابعة للعمل ويكون العقد مقاولة ، وحيث تكبر هذه القيمة إلى حد بعيد بالنسبة إلى العمل في السيارة التي تحتاج إلى إصلاحات طفيفة فيكون العقد بيعًا . ولكن كثيرًا ما يقع أن تكون للمادة قيمة محسوس إلى جانب قيمة العمل ، حتى لو كانت أقل قيمة منه ، وذلك كالخشب الذي يورده النجار لصنع الأثاث والقماش الذي يورده الحائك لصنع الثوب ، ويصبح العقد في هذه الحالة مزيجًا من بيع ومقاولة ، سواء كانت قيمة المادة أكبر من قيمة العمل أو أصغر ، ويقع البيع على المادة وتسرى أحكامه فيما يتعلق بها ، وتقع المقاولة على العمل وتنطبق أحكامها عليه ([10]) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ^ فيكون مقاولة العقد الذي يتعهد بموجبه شخص أن يصنع سجاير لآخر على أن يورد هذا للمقاول الدخان اللازم لصنع السجاير ( بودرى وفال 2فقرة 3878 – بيدان 12 فقرة 717 – أنسيكلوبيدي داللوز 3لفظ louage d’ouv . Et d’ind . فقرة 20 – نقض فرنسي 19 نوفمبر سنة 1891 داللوز 92 – 1 – 395 – 16يناير سنة 1892 داللوز 92 – 1 – 395 – 4مايو سنة 1891 ( جنائي ) داللوز 94 – 1 – 572 ) .

[2] ^ ويسمى العقد بعقد الاستصناع (marche a facon): انظ في هذا العقد دافيد في عقد الاستصناع رسالة من باريس سنة 1937 ص221 .

[3] ^ وللقول بأن العقد مقاولة أو بيع شيء متقبل أهمية عملية تتبين في الوجوه الآتية : ( أ ) يجوز لرب العمل أن يتحلل من عقد المقاولة ويقف التنفيذ في أي وقت قبل إتمامه على أن يعوض المقاول ( م 663 مدنى ) ، أما البيع فهو ملزم لا يجوز التحلل منه بإرادة أحد الطرفين المنفردة . ( ب ) في البيع تسرى الفوائد عن الثمن من يوم إعذار المشترى بدفعة أو من يوم تسليم المبيع إليه إذا كان قابلا لإنتاج ثمرات أو إيرادات أخرى ( م458/ 1 مدني ) ، أما في المقاولة فلا يستحق المقاول فوائد على الأجر المستحق له إلا من يوم المطالبة القضائية طبقًا للقواعد العامة . ( ج ) للبائع حق امتياز على المبيع ولو كان منقولا ، أما في المقاولة فلا امتياز للمقاول إلا إذا كان العمل تشييد بناء أو منشآت أخرى أو إعادة تشييدها أو ترميمها أو صيانها ( م1148 مدني ) . ( د ) في البيع لابد من الاتفاق على الثمن وإلا كان البيع باطلا ، أما في المقاولة فإذا لم يحدد الأجر لم تكن المقاولة باطلة ووجب الرجوع في تحديد الأجر إلى قية العمل ونفقات المقاول ( م659 مدني ) .

انظر في ذلك بودرى وفال 2فقرة 3870 – محمد لبيب شنب فقرة10 ص15 هامش1 .

[4] ^ وإلى هذا الرأي ذهبت بعض أحكام القضاء في فرنسا ، مستندة إلى أن المادة 1787 مدني فرنسي لا تميز بين ما إذا كان الذي قدم المادة هو رب العمل أو الصانع ( وسنرى فيما يلي أن هذه المادة تضمن مشروعها في إحدى مراحله التشريعية فقرتين أخريين ، تقضى فقرة منهما بأن العقد مقاولة إذا قدم المادة رب العمل ، وتقضى الفقرة لأخرى بأن العقد بيع إذا كان الصانع هو الذي قدم المادة ، فحذفت هاتان الفقرتان ، وحذفهما في نظر أصحاب هذا الرأي دليل على العدول عن هذا التفريق وعلى اعتبار أن العقد مقاولة في الحالتين ) : نقض فرنسى 20فبراير سنة 1883 داللوز 84 – 1 – 32 – 18أكتوبر سنة 1911 داللوز 1912 – 1 – 113 مع تعليق بلانيول – أول أغسطس سنة 1929 سيريه – 1930 – 1 – 175 – ليون 23ديسمبر سنة 1892 داللوز 93 – 2 – 229 – نانسي أول يونيه سنة 1926 جازيت دي باليه 1926 – 1 – 360 .

[5] ^ محمد لبيب شنب فقرة15 .

[6] ^ وهذا ما يذهب إليه كثير من الفقهاء في فرنسا ( لوران 26 فقرة 5 – بودرى وفال 2فقرة 3872 – ليون كان ورينو 5فقرة 152 – هيك 10 فقرة 6 – جيوار 2فقرة 772 – ريبير في القانون البحري الطبعة الثالثة 1فقرة 319 ) ، وتذهب إليه بعض أحكام القضاء الفرنسي ( نقض فرنسي 22 يوليه سنة 1874 داللوز 75 – 1 – 303 – 7 أبريل سنة 1886 داللوز 86 – 1 – 329 – السين التجاية 8 أبريل سنة 1949 داللوز 1950 الموجز 6 ) ، وبخاصة في عقد صنع السفن ( نقض فرنسي 17 مايو سنة 1876 داللوز 87 – 1 – 97 – 10يوليه سنة 1888 داللوز 89 – 1 – 107 – 31أكتوبر سنة 1900 داللوز 1901 – 1 – 65. ويستند هذا الرأي في فرنسا من رب العمل . ويستخلص من هذا النص بمفهوم المخالفة أن العقد لا يكون مقاولة غذا كانت المادة مقدمة من الصانع ، فيكون العقد إذن بيعًا . ويعزز أنصار هذا الرأي رايهم بأن المادة 1787 مدني فرنسي – وهي تتحدث عن حالتين في الأولى منهما يقدم المادة رب العمل وفي الأخرى يقدمها الصانع – كانت تشتمل في مشروعها على فقرتين أخريين هما الفقرة الثانية والفقرة الثالثة ، يجريان على الوجه الآتي : “2 – وفي الحالة الأولى ( المادة يقدمها رب العمل ) يتمخض العقد مقاولة . 3 – وفي الحالة الثانية ( المادة يقدمها الصانع ) يكون العقد بيع شيء بمجرد صنعه” . وقد حذفت هاتان الفقرتان لأنهما أقرب إلى تقرير قواعد فقهية ، فواضعوا التقنين المدني الفرنسي إذن يكيفون من الناحية الفقهية العقد الذي يقدم فيه الصانع المادة بأنه عقد بيع .

وقد استخلص أوبرى ورو من عبارة “يكون العقد بيع شيء بمجرد صنعه” أن العقد قبل صنع الشيء يكون مقاولة ، فإذا ما تم صنعه تحول بيعًا ( أوبرى وروو إسمان 5فقرة 374 ص400 هامش 2 ) . وسنعود للإشارة إلى هذا الرأي فيما يلي .

[7] ^ وهذا الرأي يستند إلى القاعدة التي تقضى بأن الفرع يتبع الأصل ( acsessorium sequitur principale ) ، فإذا كان العمل هو الأصل تبعته المادة وكان العقد مقاولة ، وإذا كانت المادة هي الأصل تبعها العمل وكان العقد بيعًا : بلانيول وريبير وهامل 10فقرة 6 – بلانيول وريبير وبولانجيه 2فقرة 2992 – كولان وكابيتان ودي لامورانديير 2 فقرة 1088 – الهلالي وحامد زكي فقرة 67 ص68 – عبدالمنعم البدراوي في البيع فقرة 69 ص103 – سليمان مرقس موجز البيع والإيجار فقرة 12 ص24 – إسماعيل غانم ص26 – وقرب يوردى وفال 2 فقرة 3874 .

[8] ^ وتنص المادة 658/2 من تقنين الموجبات والعقود اللبناني على ما يأتي : “على أنه غذا كانت المواد التي يقدمها الصانع هي الموضوع الأصلي في العقد ولم يكن العمل إلا فرعًا ، كان هناك بيع لا استصناع” . – أما المقاول الذي يتعهد بإقامة مبنى ، فإن كانت الأرض التي يقام عليها المبنى ملكًا لرب العمل كما هو الغالب فالعقد مقاولة أيا كانت قيمة مواد البناء بالنسبة غلى قيمة العمل ، وغن كانت الأرض ملكًا للمقاول فالعقد بيع الأرض في حالتها المستقبلة أي بعد أن يقام عليها المبنى ( بلانيول وريبير وهامل 10 فقرة5 – الوسيط 4فقرة 11 ص31 ) .

ويجب هنا أن نتبعد رأيًا يقول بأن الاستصناع يكون عقد مقاولة ابتدا وعقد بيع انتهاء ، فهو مقاولة قبل أن يتم صنع الشيء فإذا ما تم صنعه وسلم إلى رب العمل انقلب بيعًا ( أوبرى ورو وإسمان 5فقرة 374 ص400 هامش2 ) . فالعقد لا تتغير طبيعته بمجرد تنفيذه ، وطبيعة العقد إنما تتحدد وقت انعقاده . فإذا ما تحددت بقيت دون تغيير قبل التنفيذ وبعده ( دافيد في عقد الاستصناع ص36 – جيوار 2فقرة 773 ص342 – بودرى وفال 2فقرة 3872 ص1075 – كوست في التكييف القانوني لعقد المقاولة رسالة من تولوز سنة 1913 ص104 – محمد لبيب شنب فقرة 12 ) . على أن أوبرى ورو القائلين بهذا الرأي يقرران مع ذلك أن عقد المقاولة تبقى بعض أحكامه سارية حتى بعد تنفيذ العقد وتسليم الشيء المصنوع إلى رب العمل ، ومن هذه الأحكام ضمان الصانع لعمله فهذا الضمان تسرى عليه أحكام عقد المقاولة ( أوبرى ورو وإسمان 5فقرة 374 ص400 هامش2 ) . والاستناد إلى نص الفقرة الثالثة المحذوفة من مشروع المادة 1787 مدني فرنسي – وهي التي تقول : “يكون العقد بيع شيء بمجرد صنعه” – لا يجدى ، إذ المقصود أن البيع يقع على شيء عند تمام صنعه ، أي على شيء مستقبل ( بودرى وفال 2فقرة 3872 ص1075 ) .

[9] ^ الوسيط 4 فقرة 11 ص30 – ص31 .

[10] ^ انظر في هذا المعنى بلانيول وريبير ورواست11 فقرة 912 ص147 – ص148 – وقرب بيدان 12 فقرة 181 – بلانيول في تعليقه في داللوز 1912 – 1 – 113 – محمد كامل مرسى فقرة 573 ص479 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *