إيضاحات حول الصك من الناحية الجنائية

إيضاحات حول الصك من الناحية الجنائية.

الصك هو ورقة تجارية تناوله المشرع الجنائي بالحماية كونه أداة وفاء تقوم مقام النقود في المعاملات وذلك للحفاظ على الثقة في التعامل لاسيما بعد تقدم الوعي المصرفي في الدول وازدياد التعامل به،

وبذلك تولدت مصلحة اجتماعية جديرة بتجريم من يعتدي عليها. وأساس بحثنا لهذه الفقرة هو تحديد هل أن مفهوم الصك في القانون الجنائي هو المفهوم ذاته في القانون التجاري؟ لم يعّرف القانون الجنائي الصك الذي يبسط حمايته عليه، كما أن قانون التجارة في غالبية التشريعات الدولية اكتفى بتحديد بيانات الصك دون أن يضع تعريفاً محدداً له(1).

وعرّفه الفقه التجاري(2) بأنه: محرراً مكتوباً ووفقاً لأوضاع شكلية استقر عليها العرف ويتضمن أمراً من الساحب إلى المسحوب عليه وهو عادة مصرف، بأن يدفع من رصيده لأمر الساحب، أو لأمر شخص ثالث، أو لحامله مبلغاً معيناً بمجرد الإطلاع على الصك.

وترتيباً على ذلك فإن هناك شروطاً يجب توافرها في الصك حتى يطلق عليه وصف الصك في القانون التجاري، فضلاً عن الشروط الموضوعي من إمضاء صحيح صادر عن شخص متمتع بالأهلية القانونية، ومحل مشروع وممكن، وسبب، فإن هناك شروطاً شكلية يجب مراعاتها(3)،

فإذا تخلف أي شرط من الشروط الموضوعية أو الشكلية كان الصك باطلاً ويخرج من دائرة القانون التجاري ليدخل في نطاق القانون المدني. فمشكلة الذاتية تُثار على اثر تخلف شرط من شروط صحة الصك في المسؤولية عن جريمة إعطاء صك بدون رصيد،

فإذا كان الصك معيباً لتخلف أحد شروط صحته في القانون التجاري، فهل يعاقب ساحبه بوصفه مرتكباً للجريمة أم يفلت من العقاب(4)، وبعبارة أخرى هل مدلول الصك المعاقب على إصداره بدون رصيد هو المدلول ذاته الذي حدد شروطه الموضوعية والشكلية القانون التجاري أم هناك مدلول جنائي للصك يختلف عن مدلوله في القانون التجاري؟

يذهب جانب من الفقه(5) إلى القول بأن المرجع في تحديد ما إذا كانت الورقة تعد صكاً أم لا هو القانون التجاري الذي يعد موضع التنظيم الأصلي للصك، ويدللون على ذلك بسكوت المشرع الجنائي عن تحديد مدلول الصك المعاقب على سحبه بدون رصيد يشير إلى الرجوع على القانون التجاري في تحديد معناه،

أي بوصفه أداة وفاء بمجرد الإطلاع، والنتيجة المترتبة على هذا الرأي هي أن مفهوم الصك في القانون الجنائي يتحد مع مفهومه في القانون التجاري، بحيث إذا أبطل الصك كورقة تجارية امتنع تجريم وعقاب من يصدره بدون رصيد.

ويذهب غالبية الفقه (6) إلى أن المحرر يعد صكاً من وجهة نظر القانون الجنائي متى ما كان له مظهر الصك، ومعنى ذلك بأن مدلول الصك جنائياً يختلف عن مدلوله المستخلص من نصوص القانون التجاري، فيرون بأن عدم استجماع الصك لشروطه الكاملة لا يجرده من القيمة القانونية له،

فيبقى معتبراً صكاً تسري على ساحبه عقوبة الصك بدون رصيد، وذلك لأن المادة (459) عقوبات لا تفرق ما بين الصك الصحيح والصك المعيب، لهذا يكفي للعقاب أن تدل ورقة الصك بظاهرها على أنها أداة وفاء وأن تكون مقبولة لدى الطرفين (الساحب والمستفيد) بأنها تعد كذلك.

وقد استقر قضاء محكمة النقض المصرية على أنه “إذا كان مظهر الشيك وصيغته يدلان على أنه يستحق الأداء بمجرد الإطلاع، وكان قد استوفى الشكل الذي يتطلبه القانون لكي تجري الورقة مجرى النقود، فإنه يعد شيكاً بالمعنى المقصود في القانون الجنائي”(7).

وكان هذا هو اتجاه القضاء السوري والمغربي في جعل الصك المعيب بسبب نقصان أحد البيانات الإلزامية لا يفقد صفته بكونه صكاً إزاء قانون العقوبات، ما دام أنه قد صدر على أساس أنه صك وقبل بهذه الصفة(8)،

وقد طبقا هذا المبدأ وعاقبا الساحب لإعطائه صكاً بدون مقابل وفاء على الرغم من عدم ذكر كلمة (صك) فيه(9). أما على صعيد القضاء العراقي فقد تناقضت قرارات محكمة التمييز في العراق من إسباغ الحماية الجنائية للصك، ففي إحدى قراراتها قد ذهبت إلى عدم معاقبة الساحب عن إعطاء صك بدون مقابل للوفاء إذا عين للصك موعداً للدفع، إذ يفقد الصك شكله القانوني، باعتباره واجب الدفع لدى الإطلاع(10).

إلا أن محكمة التمييز قد عدلت عن هذا الاتجاه، حيث قضت بأن “الصك مستحق الوفاء لدى الإطلاع وكل بيان مخالف لذلك يعتبر كأن لم يكن”(11)، حيث جعلت التاريخ المعين في الصك كموعد للوفاء في حكم عدم الوجود.والاتجاه الأخير هو الاتجاه الأجدر بالتأييد، لأنه يتفق مع المنطق الذي يفرض عدم مكافأة من يستقل علمه بقواعد القانون التجاري المنظمة للصك في الحصول على أموال الغير عن طريق الغش والتدليس،

فإذا تطلب القانون الجنائي استكمال الصك للشروط الموضوعية والشكلية المنصوص عليها في القانون التجاري فذلك يؤدي إلى إفلات الجاني من العقاب(12)، فالساحب سيء النية يتعمد غالباً إلى إغفال بعض البيانات الإلزامية في الصك مستغلاً جهل المستفيد، وبالتالي يجب محاسبته على سوء نيته،

كما أن تطلّب صحة الصك وفقاً لأحكام القانون التجاري يؤدي إلى تفويت الغاية من الحماية الجنائية للصك، وهي ضمان ثقة المتعاملين في الورقة التي يكون لها مظهر الصك، كما يخالف روح التشريع الجنائي وأهدافه.

فالقانون الجنائي يحدد بعض المصطلحات التي تشاركه بها القوانين الأُخر بمدلول خاص به حيث يسبغ حمايته عليها، لاختلاف وظيفة القانون الجنائي عن وظيفة غيره من القوانين، وبخصوص الصك تختلف غاية تنظيمه في القانون التجاري عن الغاية التي يستهدفها القانون الجنائي حين يجرم من يصدره بدون رصيد، ومن شأن الاختلاف في الغاية أن يترتب عليه اختلاف في تحديد المفهوم على نحو لا يتطابق حتماً مع معناه في القانون التجاري.

___________________________________________________________

1- ينظر: د. فتوح عبد الله الشاذلي، جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية 2002، ص580، د. رضا حمدي الملاح، ذاتية الدعوى الجنائية، أطروحة دكتوراه، كلية الحقوق/جامعة القاهرة، 2003، ص64.

2- ينظر: د. محمود سمير الشرقاوي، القانون التجاري، ج2، دار النهضة العربية، القاهرة 1981، ص451.

3- ينظر في تفصيل ذلك: المستشار محمد محمود المصري، أحكام الشيك مدنياً وجنائياً، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية 1999، ص92-105.

4- ينظر في تفصيل ذلك: حسن عودة زعال، إعطاء شيك بدون رصيد في القانون العراقي (دراسة مقارنة)، رسالة ماجستير، كلية القانون/جامعة بغداد 1983، ص81-99.

5- ينظر: د. فتوح عبد الله الشاذلي، جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية 2002، ص587.

6- ينظر د. فتوح عبد الله الشاذلي، جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال، المرجع السابق، ص588.

7- نقض 19 مارس 1973، مجموعة أحكام محكمة النقض، س24، رقم 76، ص355، ونقض 18 ديسمبر 1980، مجموعة أحكام محكمة النقض، س31، رقم 214، ص1107.

8- ينظر : حسن عودة زعال، إعطاء شيك بدون رصيد في القانون العراقي (دراسة مقارنة)، رسالة ماجستير، كلية القانون/جامعة بغداد، 1983، ص98.

9- سوريا، جنحة رقم 2816 في 13/12/1964 أشار إليه حسن الفكهاني، موسوعة القضاء والفقه للدول العربية، ج89، ص372، المغرب، الغرفة الجنائية، رقم 466 في 10/10/1959، مجلة القضاء والقانون المغربية، ع28، س3، 1960، ص239.

10- تمييز 217، 383، تمييزية ثانية/77 في 10/4/1977، مجموعة الأحكام العدلية، ع2، س8،  1977، ص204.

11- تمييز 1075، مدنية رابعة/1978 في 4/11/1978، مجموعة الأحكام العدلية،ع4، س9، 1978، ص63.

12- د. فوزية عبد الستار، شرح قانون العقوبات (القسم الخاص)، ط2، دار النهضة العربية، القاهرة 2000، ص886، د. محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات (القسم الخاص)، دار النهضة العربية، القاهرة 1992، ص1067.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *