الأثر الرجعي لقانون التسجيل المصري بين التأييد و الإنكار – دراسة تحليلة حديثة

الأثر الرجعي لقاون التسجيل المصري بين التأييد و الإنكار – دراسة تحليلة حديثة

 

صدر قانون التسجيل الجديد ونص على أن الملكية لا تنتقل بالنسبة للمتعاقدين ولا بالنسبة لغيرهما إلا بالتسجيل ولكنه لم يعين الوقت الذي تنتقل فيه الملكية بعد تسجيل العقد، فهل يعتبر انتقالها من يوم العقد أو من يوم التسجيل؟ وبعبارة أخرى هل للتسجيل أثر رجعي؟ هناك رأيان: رأي يقول بالأثر الرجعي للتسجيل (راجع مقالة أستاذنا الفاضل الدكتور عبد السلام بك ذهني في المحاماة سنة 6 عد 7 صـ 607) – ورأي ينكر هذا الأثر له.

أما حجج أصحاب نظرية الأثر الرجعي فتنحصر فيما يأتي:
1 – أن قانون التسجيل لم ينص على أن الملكية تنتقل من يوم التسجيل بل إنها تنتقل بالتسجيل، ويصح أن يرجع أثره ليوم العقد، فإذا بيع عقار في 10 يناير ولم يسجل إلا في 20 يناير اعتبر المشتري مالكًا من 10 لا من 20 يناير، طالما أنه لم يتقرر للغير حق على العقار من جانب البائع.
2 – ما دامت الملكية لا تنتقل إلا إذا تسجل العقد، فكأن انتقالها معلق على شرط التسجيل، فإذا تحقق الشرط كان له أثر رجعي ليوم العقد.
3 – التسجيل شرع لمصلحة المشتري فلا يصح أن يضار به ما دام لم يتقرر للغير حق على العقار.
4 – ما دمنا نقرر بوجود البيع قبل التسجيل كعقد منشئ لحقوق وواجبات فمن المتعذر تعليل هذه الآثار إذا لم يعتبر العقد موجودًا قبل التسجيل, وإلا فكيف نبرر التزام المشتري بدفع الثمن والبائع بتسليم المبيع، وعلى من يكون هلاكه إذا هلك قبل التسجيل؟
5 – الاعتبارات العملية تؤيدها، لأننا لو لم نقل بنظرية الأثر الرجعي، وحصلت تصرفات قبل تسجيل العقد فماذا يكون مصيرها؟ مثلاً بيعَ عقار في 10 يناير، وتسجل العقد في 20 يناير، ثم:
( أ ) في الفترة بين 10 – 20 يناير باع البائع العقار مرة ثانية وسجل المشتري الثاني عقده في 15 يناير.
(ب) أو في الفترة بين 10 – 20 يناير باع المشتري الأول العقار لآخر وسجل العقد الثاني في 15 يناير.
(جـ) حصلت رهون من المشتري الأول أو رهون من المشتري الثاني وسجلت في تواريخ مختلفة قبل 20 يناير، فإذا قيل بالأثر الرجعي للتسجيل اعتُبر المشتري الأول مالكًا من 10 يناير والمشتري الثاني من 15 يناير وأمكن ترتيب الرهون والعقود الأخرى بحسب تواريخها ولم يكن ثمت صعوبة.
أما إذا قلنا إن المشتري الأول لا يملك إلا من يوم التسجيل (20 يناير)، وإن تسجيل المشتري الثاني (15 يناير) لا يكسبه الملكية لأنه اشترى في وقت لم يكن البائع له مالكًا، فالتسجيل لا يفيده شيئًا ما دام اشترى من غير مالك، ولا تنتقل إليه الملكية إلا إذا تسجل عقد المشتري الأول (في 20 يناير) وحينئذٍ تنتقل الملكية فورًا وفي هذا اليوم (20 يناير) إلى المشتري الثاني – إذا قلنا بذلك فكأن الملكية ستنتقل للمشتري الأول والثاني في يوم واحد، فإذا تعددت البيوع والرهون فكيف نرتب بينها؟ أليس الأفضل أن نقول بالأثر الرجعي فينشأ كل حق وقت تقريره ويسهل التفضيل بينها؟
– إذن الأثر الرجعي له مبررات من الوجهة العملية وهو لا يتعارض مع نصوص قانون التسجيل ولا مع القواعد القانونية العامة.

ردنًا على هذه الحجج:
1 – أن الشارع لم يكن في حاجة للنص صراحةً على أن ليس للتسجيل أثر رجعي لأن ذلك يُفهم من نصوصه ومن روح التشريع.
( أ ) لقد كانت الملكية قبل قانون التسجيل لا تنتقل بالنسبة لغير المتعاقدين إلا بالتسجيل، ولم يقل أحد إنه بحصول التسجيل يرجع أثره ليوم العقد فيحتج به على الغير من يوم حصوله، فلما جاء القانون الجديد وقرر أن الملكية لا تنتقل بالنسبة للمتعاقدين أيضًا إلا بالتسجيل أصبحت الملكية لا تنتقل بالنسبة للمتعاقدين وغيرهما على السواء إلا بالتسجيل ومن يوم التسجيل.
(ب)- لم يوضع قانون التسجيل الجديد إلا ليضيق من أثر الاتفاق على نقل الملكية، فجعل الاتفاق وحده لا ينقلها بدون تسجيل حتى بين المتعاقدين أنفسهما، فليس بمعقول أن يفسر قانون التسجيل بما يخالف الغرض المقصود منه ويوسع نطاق القانون القديم بدلاً من أن يضيقه.
(جـ) إن نظرية الأثر الرجعي تتصادم مع القواعد القانونية العامة، لأنها تجعل البيع يسري على الغير من يوم تحريره ولو لم يكن ثابت التاريخ – في حين أن المبادئ القانونية تقرر أن العقد (ولو كان مقررًا لحقوق شخصية) لا يسري على الغير إلا إذا ثبت تاريخه ثبوتًا رسميًا ومن يوم هذا الثبوت.
وإذا قلنا إن البيع يسري على المتعاقدين من تاريخه وعلى الغير من يوم تسجيله (أو ثبوت تاريخه) فكأننا رجعنا للقاعدة القديمة من أن الملكية تنتقل بالنسبة للمتعاقدين قبل أن تنتقل بالنسبة للغير، وهذا ما أراد الشارع أن يتلافاه.
2 – التسجيل قيد لانتقال الملكية لا تنتقل إلا به، لا تعليق لانتقالها على شرط.
3 – عدم انتقال الملكية جزاء على عدم التسجيل، فهو عقاب مدني يحل بالمشتري الذي لم يسجل عقده.
4 – الآثار التي ترتب على عقد البيع لا شأن لها بانتقال الملكية.

لقد كان الالتزام بنقل الملكية في القانون القديم ينشأ ويتم في وقت واحد وبدون احتياج إلى إجراءات غير الاتفاق على نقلها فأصبحت الآن لا تنتقل إلا بحصول إجراءات مادية (التسجيل) فكأن القانون رجع للنظرية الرومانية القديمة في التفريق بين نشوء الالتزام بنقل الملكية وتنفيذ هذا الالتزام، وليس من مستلزمات عقد البيع Essence أن تنتقل فيه الملكية بمجرد التعاقد بل كانت هناك أحوال في القانون القديم لا تنتقل فيها الملكية إلا بعد عمل إجراءات مخصوصة ولم يقل أحد بأنه في هذه الأحوال التي لا تنتقل فيها الملكية بمجرد التعاقد لا يكون لعقد البيع أثر، فلم ينكر وجوده في القانون الجديد لمجرد قوله بأن الملكية لا تنتقل من يوم العقد؟
التاجر الذي يشتري 100 قنطار قطن – أليس له الحق في مطالبة البائع بتعيين القطن وتسليمه إليه. هذه حالة من الأحوال التي لا تنتقل فيها الملكية بمجرد التعاقد ومع ذلك لم ينكر أحد أحقية المشتري في مطالبة البائع بتسليم المبيع ونقل ملكيته إليه وكذا الحال بالنسبة للبيع بخيار التعيين والبيع المؤجل فيه نقل الملكية.
النتيجة: يجب التمييز بين عقد البيع والالتزامات الناشئة عنه، فالعقد يوجد ولو أن الالتزامات التي تنشأ عنه لم يحصل تنفيذها، بل هذا هو الترتيب المنطقي والطبيعي: أن يوجد العقد قبل الشروع في تنفيذه، فعقد البيع يوجد ولو لم تنتقل الملكية وتنشأ عنه التزامات ومن ضمنها الالتزام بنقل الملكية، والأصل أن كل هذه الالتزامات تنفذ عينًا en nature إلا إذا استحال التنفيذ العيني فتؤول إلى المطالبة بتعويضات.

بقيت إذن مسألة هلاك المبيع قبل تسجيل العقد، هل يتحمل البائع هلاك المبيع باعتبار أنه مالك له وأن الأشياء تهلك على مالكها؟ أو يتحمله المشتري الذي استلم المبيع وهلك في يده ولو لم يسجل العقد؟
للرد على ذلك:
1 – يجب ملاحظة أن ضمان المبيع التزام متفرع عن عقد البيع كما يتفرع الالتزام بنقل الملكية، وأن الضمان التزام شخص لم يتأثر بقانون التسجيل، وأن القانون المصري كان ولا يزال يحمل البائع هلاك المبيع قبل تسليمه للمشتري وكأنه يعتبر الملكية قد انتقلت إلى المشتري بمجرد التعاقد (القانون القديم) أي أنه جعل الهلاك مرتبطًا بالتسليم ولم يأخذ بقاعدة جعل الهلاك على المالك، لذا يجب أن يتحمل المشتري هلاك المبيع الذي تسلم إليه ووضع يده عليه بصفة مالك ولو قبل تسجيل العقد وانتقال الملكية إليه ولذا يجب التفريق بين:
( أ ) حصول الهلاك قبل التسليم: يكون على البائع، تسجل العقد أو لم يتسجل مع ملاحظة أن التسليم يحصل بالتخلية، فيجوز للبائع أن يحول مسؤولية الهلاك إلى المشتري إذا وضع المبيع تحت تصرفه وأخطره بذلك.
(ب) الهلاك بعد التسليم: يكون على المشتري تسجل العقد أو لم يتسجل.
2 – لأن التسجيل من واجبات المشتري لا البائع، فإذا قصد فيه عمدًا أو إهمالاً فلا يصح أن يتخذ من خطئه حجة يتمسك بها على البائع، لأن القاعدة أنه لا يصح أن يستفيد الشخص من غشه وتدليسه وأن المخطئ يكون مسؤولاً حتى عن الحوادث الجبرية ولذا يتحمل المشتري – الذي وضع يده على المبيع بدون إذن البائع – هلاك المبيع تحت يده نمرة (274) مدني.
3 – لأن الشارع أجاز للقاضي أن يحكم بالتعويضات على المتعاقد المقصر، فإذا تبين له أن المشتري أهمل في اتخاذ الإجراءات اللازمة لنقل الملكية، كان للقاضي أن يحكم عليه بالتعويضات للبائع وليس ما يمنع من تقدير هذه التعويضات بثمن المبيع أو قيمه.
4 – لأنه يمكن افتراض أن المشتري الذي قبل استلام المبيع – ووضع يده عليه بصفة مالك قبل تسجيل العقد – قد قبل ضمنًا تحمل هلاك المبيع إذا هلك ولو بقوة قاهرة، لأنه ليس في هذا التعهد ما يمس النظام العام وهو تفسير لرغبة المتعاقدين.
والواقع أن هذا التعهد لا يستلزم نقل الملكية إذ قد يتعهد المستعير أو المستأجر أو حائز الشيء على العموم بتحمل هلاكه عند القوة القاهرة أثناء وجوده تحت يده.
وإذا فرض أن شخصًا باع عقارًا لآخر قبل تكامل مدة وضع يده واكتسابه الملك، وسلم العقار للمشتري ليتمم مدة وضع اليد وامتلاك المبيع، فليس للمشتري أن يطالب البائع برد الثمن إذا هلك المبيع تحت يده ولو قبل تمام مدة التقادم.
5 – لأن المشتري لا يمكنه أن يعلل وجود الشيء تحت يده إذا أنكر البيع ووضع يده على المبيع بصفة مالك، وإلا كان مغتصبًا والمغتصب يتحمل هلاك الشيء ولو كان الهلاك بدون تقصيره.
6 – الاعتبارات العملية – لا تستلزم الاعتراف بالأثر الرجعي:
أولاً: لأن القانون الجديد اشترط لحصول التسجيل التأشير على العقد من المساحة وهي تبحث عن موقع الأرض على الخرائط واسم ملاكها (3 قانون التسجيل) فالشخص الذي يشتري عقارًا ولا يسجل عقده لا يعتبر مالكًا في نظر هذا القانون، بل تبقى الملكية لصاحبها الأصلي، وتصرفات الأخير هي التي تنفذ.
ثانيًا: استلزم القانون تسجيل كل العقود السابقة لعقد البيع ولا يكفي تسجيل العقد الأخير عنها.
فلا يمكن مع وجود هذين العقدين تصور الحالات الخيالية التي يصورها أصحاب نظرية الأثر الرجعي، من أن أشخاصًا تلقوا حقوقًا على المبيع وسجلوها قبل تسجيل عقد المملك لهم، وحتى بفرض إمكان تصور هذه المنازعات فيجب أن تحل طبقًا للقواعد القانونية:
( أ ) فإذا كانت التصرفات من البائع: لمشترٍ سجل قبل تسجيل المشتري الأول، فالعقد المسجل هو الذي ينفذ ولا يكون للمشتري الأول الذي لم يسجل إلا المطالبة بتعويضات طبقًا للمادة نمرة (1) من قانون التسجيل.
(ب) إذا كانت التصرفات من المشتري الأول قبل أن يسجل عقده وتنتقل الملكية إليه:
1 – فهي إن كانت بيوع وتمكن أصحابها من تسجيلها قبل تسجيل عقد المملك لهم، فليس ثمت صعوبة في ترتيب أصحابها حسب أسبقية تسجيلاتهم، وإلا إذا استحال التوفيق بينها آلت حقوق أصحابها إلى حقوق شخصية محضة.
2 – وإن كانت رهونًا (فهي باطلة باعتبار أنها صادرة من غير مالك، حتى ولو تعهد باكتساب الملكية في المستقبل نمرة (563) مدني ولذا تؤول حقوق الدائنين إلى حقوق شخصية أيضًا.. وأنه بفرض إمكان تصور هذه المنازعات عقلاً فإذا أمكن ترتيب هذه الحقوق حسب تواريخ تسجيلها كان بها وإلا إذا استحال التوفيق بينها تستحيل إلى التزامات شخصية بناءً على المادة (1) من قانون التسجيل الجديد…).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *