التنظيم التشريعي لعقد الإيجار في أفق القانون المصري

التنظيم التشريعي لعقد الإيجار في أفق القانون المصري 

 

 

التقنين المدني القديم:

نظم التقنين المدني القديم عقد الإيجار في المواد من 361 / 442 إلى 400/488 تنظيما لم يلتزم فيه منطقاً في الترتيب والتبويب . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : (( ويؤخذ على التقنين الحالي ( القديم ) أنه لم يلتزم منطقاً في ترتيبه للنصوص ، فهو يكاد يستهل بتعدد المستأجرين والمفاضلة فيما بينهم ، ويبسط قواعد التنازل عن الإيجار والإيجار من الباطن قبل أن يعرض الالتزامات كل من المؤجر والمستأجر ، ويحشر النصوص الخاصة بإيجار الأراضي الزراعية بين النصوص المتعلقة بالأحكام العامة )) ( [1] ) .

وأهم عيب يؤخذ على التقنين المدني القديم بعد ذلك هو أنه جعل التزام المؤجر سلبياً ( [2] ) ، فهو ملزم بترك المستأجر ينتفع بالعين المؤجرة ، لا بتمكينه من الانتفاع بها . وعليه أن يسلم العين في الحالة التي تكون عليها وقت بدء الانتفاع ، لا في حالة صالحة للانتفاع . ولا يكلف بعمل أية مرمة كانت . ولم يشتمل هذا التقنين على نص صريح يجعل المؤجر ضامنا لجميع ما يوجد في العين المؤجرة من عيوب تحول دون الانتفاع بها أو تنقص من هذا الانتفاع إنقاصاً كبيراً .

 

التقنين المدني الجديد:

وقد أصلح التقنين المدني الجديد هذه العيوب . فهو بعد أن أورد الأحكام العامة للإيجار ، أفرد بالذكر أنواعاً خاصة من الإيجارات ، هي إيجار الأراضي الزراعية ، وعقد المزارعة ، وإيجار الوقف ، نظراً لأهميتها العملية.

أما الأحكام العامة ذاتها  فقد رتبها التقنين المدني الجديد ترتيباً منطقياً في أقسام رئيسية ثلاثة :
أولها في أركان الإيجار ، وقد عرض فيه للمؤجر والعين  المؤجرة والأجرة والمدة . والقسم الثاني في أثار الإيجار ، وقد فصل فيه التزامات المؤجر من تسليم العين وتعهدها بالصيانة وضمان التعرض والاستحقاق وضمان العيب المستأجر من حفظ العين واستعمالها فيما أعدت له ودفع الأجرة والرد ، وبين بعد ذلك قواعد التنازل عن الإيجار والإيجار من الباطن . أما القسم الثالث والأخير فقد عرض فيه لبيان الأسباب التي ينتهي بها عقد الإيجار ، فذكر انقضاء المدة موت المستأجر وإعساره وانتقال ملكية العين المؤجرة وفسخ الإيجار بالعذر .

وقد وسع التقنين المدني الجديد من التزامات المؤجر ، ونفي عنها صبغة السلبية التي كانت تؤخذ علي التقنين المدني القديم .

 

ما استحدثه التقنين المدني من التعديلات:

وقد عددت المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي ما ادخله التقنين المدني الجديد من التعديلات والإضافات علي التقنين المدني القديم، وأهمها ما يأتي :
1- من حيث أركان الإيجار وطرق إثباته : عدل مواعيد التنبيه إذا عقد الإيجار لمدة غير معينة ، وجعل الحكم واحدا في إيجار لم يتفق فيه علي المدة وإيجار عقد لمدة غير معينة وإيجار اتفق معه علي مدة معينة ولكن تعذر إثبات هذه المدة . وكذلك الأمر في الأجرة ، فالحكم واحد في إيجار لم يتفق المتعاقدان علي الأجرة فيه أو اتفقنا ولكن تعذر إثبات ما اتفقا عليه . وحذف القواعد الخاصة بإثبات الإيجار التي كان التقنين المدني القديم يشمل عليها ملتزماً فيها جانب التشدد ، فأخضع بذلك إثبات الإيجار للقواعد العامة إذ لا يوجد مقتض للتشدد في إثباته .

2- من حيث التزامات المؤجر : جعل التقنين المدني الجديد هذه الالتزامات أو سع مدي مما كانت عليه التقنين المدني القديم . فالمؤجر يلتزم بتمكين المستأجر من الانتفاع لا بتركه ينتفع بها( [3] ) وعليه أن يسلم العين في حالة صالحة لا في الحالة التي تكون عليها وقد بدء الانتفاع ، وهو ملزم بأن يتعهد العين بالصيانة وكان قبلا لا يكلف بعمل أية مرمة ،وهو ضامن لجميع ما يوجد في العين المؤجرة ومنها الأجهزة المسموح بوضعها لتوصيل المياه والنور والغاز والتليفون والراديو وما إلي ذلك ، وحدد مسئولية المستأجر عن الحريق ، وأوجب عليه إخطار المؤجر بكل أمر يستوجب تدخله ، ونقل من تقنين المرافعات حق المؤجر في حبس المنقولات الموجودة في العين المؤجرة فوضع النص في مكانه الطبيعي .

3- من حيث تنازل عن الإيجار والإيجار من الباطن : فصل التقنين المدني الجديد الأحكام المتعلق بذلك لأهميتها العملية ، وذكر بوجه خاص أنه إذا اشترطت موافقة المؤجر فلا يجوز لهذا أن يمتنع عن الموافقة إلا لسبب مشروع كما بين صلات المؤجر فلا يجوز لهذا أن يمتنع عن الموافقة إلا بالمنازل له عن الإيجار والمستأجر من الباطن ، وذكر في وضوح الأحوال التي برأ فيها ذمة المستأجر الأصلي قبل المؤجر .

4- من حيث إنهاء الإيجار : نص التقنين المدني الجديد علي التجديد الضمني ، وبين أحكامه ، وأحكام إنهاء الإيجار ببيع العين ، بيانا وافياً . وعرض لحالات جديدة لم تكن مذكورة من قبل ، تتعلق بإعسار المستأجر وبحاجة المؤجر للعين المؤجرة بسكناه أو لاستعماله الشخصي ، وذكر سببين جديدين لإنهاء الإيجار : موت المستأجر إذا كان انتقال التزامه إلي الورثة مرهقا لهم ، وفسخ الإيجار بالعذر إذا أصبح تنفيذه مرقهاً للمستأجر أو للمؤجر . وطبق هذا السبب الأخير في حالة نقل الموظف إلي مكان آخر([4])

 

التشريعات الاستثنائية :

رأي المشروع ، كما سبق القول التدخل ، في أثناء الحربين العالمتين وفي أعقابهما بتشريعات استثنائية بها بعض الأحكام العامة للإيجار  وأغلب أحكام هذه التشريعات الاستثنائية تعتبر من النظام العام لا يجور الاتفاق علي ما يخالفها ، فانتقل عقد الإيجار بذلك من نطاق التعاقد الحر إلي نطاق التعاقد الحر إلي نطاق القواعد الآمرة . وسيأتي تفصيل ذلك .

ونقتصر الآن علي الإشارة إلي أن أهم هذه التشريعات الاستثنائية هي:

1- قوانين إيجار الأماكن ، قد قيدت هذه القوانين حق المؤجر في تحديد الأجرة ، وفرضت امتداد عقد الإيجار بحكم القانون بعد انقضاء مدتها ، وذلك كله إلي حين إلغاء هذه التشريعات الاستثنائية والرجوع إلي العمل بالأحكام العامة للقانون

2- قوانين الإصلاح الزراعي ، وهذه تكلفت في الأراضي الزراعية بما تكلفت به قوانين الإيجار الأماكن في المباني ، فقيدت من حق المؤجر في تحديد الجرة ، فرضت امتداد عقود الإيجار بقيود معينة بعد انقضاء مدتها .

ولما كانت هذه التشريعات الاستثنائية تساهم الآن بنصيب كبير في إيراد الأحكام التي تسري علي عقود الإيجار ، رأينا من الواجب أن نتناولها بالشرح المفصل ، حتى يكون هذا الكتاب شرحاً وافيا لجميع أحكام التي تسري عقد الإيجار .

 

بقاء التقنين المدني القديم معمولا به في بعض عقود الإيجار :

ومن المسلم أن عقود الإيجار التي أبرمت فبل 15 أكتوبر سنة 1949 تسري عليها أحكام التقنين المدني القديم ، وبخاصة في إثبات الإيجار وفي التزامات المؤجر المحدودة المدى( [5] ) ولما كان كثير من هذه العقود لا يزال قائما بسبب الامتداد الجبري الذي فرضته التشريعات الاستثنائية ، فأنه يقع كثيرا أن يطالب القضاء بتطبيق نصوص التقنين المدني القديم علي هذه العقود( [6] ) ومن ثم سنعني عناية خاصة بالإشارة إلي أحكام هذا التقنين لاسيما ما كان منها يختلف مع أحكام التقنين الجديد …

 

———————————————————————————–

( [1] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 4 ص 467 – وقد كان التقنين المدني القديم يجمع تحت اسم الإيجار إجارة الأشياء وما يسميه بإجارة الأشخاص وأرباب الصنائع . ويرجع الأصل في ذلك إلى القانون الروماني . فقد عرف الرومان عقد الإيجار على وجهين : الأول باعتبار أنه عقد موضوعه الانتفاع بالشيء ، وسموا الإيجار في هذه الحالة إيجار (loctio rerum) والثاني باعتبار أنه عقد موضوعه الانتفاع بعمل الإنسان الحر ، وسموه عقد إيجار العمل location operarum ou operas . وهم وإن فرقوا بين الوجهين إلا أنهم اعتبروا العقد واحداً في الحالتين من حيث طبيعته ، فشبهوا عمل الإنسان بالمتاع من حيث إمكان الانتفاع به . ونحا التقنين المدني الفرنسي هذا المنحي ، فعقد بابا للإيجار قسم فيه العقد إلى قسمين : إيجار الأشياء وإيجار العمل . وأيد أنصار المذهب الفردي وجهة النظر هذه لأنهم اعتبروا العمل سلعة تباع في الأسواق ، ويتحدد سعرها طبقا لقانون العرض والطلب . فكما يقع الإيجار على منفعة الشيء ، كذلك يقع على عمل الإنسان ، وكلما كثرت الأيدي العاملة قل أجر العمل . غير أن تشبيه العمل بالسلعة لم يرق في عين أنصار المذهب الاشتراكي ، وتحرجوا أن يجري قانون العرض والطلب على العمال فيضيق من أرزاقهم تبعا للمزاخمة وكثرة العدد . فنادوا بأن العمل ليس بسلعة ، واستتبع هذا التغيير في الفكرة الاقتصادية تعديلا في الفكرة القانونية . فلم تر التقينينات الحديثة ما رآه التقنين الفرنسي منذ أكثر من قرن وما رآه القانون الروماني منذ عشرات من القرون . وفرق التقنين المدني الألماني بين عقد الإيجار وعقد الاستخدام والعمل ، وقصر الأول على إيجار الأشياء ، وجعل الثاني خاصا بعمل الإنسان إما في ذاته أو باعتبار نتيجته . فأصبح الإيجار إذا أطلق لا ينصرف إلا إلى إيجار الأشياء . وجاء التقنين المدني المصري الجديد مؤكدا لهذا النظر ، إذ جعل عقد الإيجار في الباب الخاص بالعقود الواردة على الانتفاع بالشيء ، ونظم عقدي المقاولة والعمل في الباب الخاص بالعقود الواردة على العمل ( الإيجار للمؤلف فقرة 1 ) .

( [2] ) والقول بأن التزام المؤجر سلبي لا إيجابي إنما هو تجوز في التعبير . ويراد به في الواقع من الأمر ، إذا وصف بأنه سلبي ، أن يكون أقل مدى وأضيق نطاقاً مما لو وصف بأنه إيجابي . وإلا فلا فرق بين حالتيه من حيث طبيعة الالتزام . فهو ، من حيث التسليم وضمان التعرض والاستحقاق ، التزام إيجابي في الحالتين . وكذلك هو التزام إيجابي من حيث الصيانة وضمان العيوب الخفية ، ولكنه يضيق في الحالة الأولى ، ويتسع في الحالة الثانية ( أنظر في هذا المعنى منصور مصطفى منصور فقرة 137 ص 318 – ص 320 – عبد المنعم فرج الصدة فقرة 9 ص 17 – ص 18 – عبد الحي حجازي فقرة 7 – محمد لبيب شنب فقرة 17 – وقرب محمد على إمام فقرة 7 ص 15 ) .

وقد قضى في هذا المعنى بأن واجب المؤجر ليس سلبياً بحتاً كما قد يفهم من تعريف عقد الإيجار في المادة 362 – 445 التي جاء في نصها الفرنسي أن المؤجر يلتزم بترك المستأجر ينتفع بالعين المؤجرة ، لا أن يلتزم بجعل المستأجر ينتفع بالعين المؤجرة كما قضت بذلك المادة 1709 مدني فرنسي . فتسليم المؤجر العين المؤجرة للمستأجر خالية من أي عائق ليتمكن من الانتفاع بها .. أشارت إليه المادة 369 / 452 مدني صراحة .. والفرق بين التعريفين يظهر في أمور أخرى ، مما يدل على أن واجبات المؤجر عندنا أقل فقط منها في القانون الفرنسي ، وليست كلها سلبية ( قنا الكلية 13 أكتوبر سنة 1931 المحاماة 12 رقم 506 ص 1008 ) .

( [3] ) أنظر في هذا المعني نقص مدني 7 يونيه سنة 1956 مجموعة أحكام النقض 7 رقم 94 ص 672 .

( [4] ) مجموعة الأعمال التحضيرية 4 ص 467- ص 468 .

( [5] ) وقد قضي بأنه إذا كان تاريخ عقد الإيجار هو 7 سبتمبر سنة 1949 ، كان التقنين المدني القديم هو الواجب علي جميع المنازعات التي تنشأ علي هذا العقد ، وذلك تطبيقا للقاعدة التي تقضي بأن القانون الذي يطبق هو القانون الذي انعقد في ظله العقد موضوع النزاع ( محكمة مصر مستعجل 17 أكتوبر سنة 1950 المحاماة 31 رقم 158 ص 614 ) .

( [6] ) سليمان مرقس فقرة 9 – عبد المنعم فرج الصدة فقرة 5 – محمد لببيب علي البارودي ص 8 .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *