بحث واسع حول المسؤولية القانونية للمحامي في الجلسة

بحث واسع حول المسؤولية القانونية للمحامي في الجلسة

مجلة المحاماة – العدد الأول السنة العاشرة 1929

نصت المادة (89) مرافعات بما يأتي: (تكون المحكمة مختصة بإصدار الحكم بالحبس مدة أربع وعشرين ساعة على من يقع منه
تشويش في الجلسة، وينفذ حكمها في الحال، وبإصدار الحكم بالعقوبة على من تقع منه جنحة في الجلسة سواء كانت في حق المحكمة أو أحد أعضائها المأمورين الموظفين بالمحاكم).
قد يقوم بين المحامي – وهو يترافع وبسبب هذه المرافعة – وبين القاضي جدل، يتحول إلى مناقشة تأخذ من مظاهر الحدة ما لا يحسن، فيعتقد القاضي أن المحامي قد أهانه، ومن حقه أن يحكم عليه تطبيقًا للمادة (89) – فهل هذا العمل صحيح – وبعبارة أبسط، هل يجوز للمحكمة أن تحكم على المحامي بالعقوبة بسبب موقفه في الجلسة وهو يترافع ؟
لا بد أن نبين من الآن أننا لا نقصد بوضع السؤال أن المحامي غير مسؤول إذا اعتدى على القاضي، فهذا مما لا نرضاه لكرامة المحاماة، فضلاً عن كرامة القضاة، بل إنها لمنقصة لمن يرجو أن يكون في حل من المسؤولية إذا اعتدى.
إن شرف المحاماة مرتبط بأن نؤكد بأعمالنا أننا حقيقة شركاء القاضي – في أداء العدالة – لا نريد امتيازًا لمن يخطئ خطأ يدخل في حدود المسؤولية التي قررها القانون.
إنما نريد بالسؤال أمرًا بسيطًا محدودًا، هو مع تأكيد المسؤولية بسبب الاعتداء إذا وقع، هل يجوز أن تكون محاكمة المحامي في نفس الجلسة التي يترافع فيها، ومن نفس القاضي الذي يترافع أمامه، أو يجب أن تكون محاكمته أمام المحكمة المختصة العادية، وبمعرفة قاضٍ غير الذي حصلت الحادثة في جلسته، فكانت عراكًا بينهما ؟
البحث في هذه الحدود نراه بسيطًا سهل الحل، لكنه قد أخذ مظاهر المباحث المعقدة، فاختلفت فيه الآراء، وتناقضت الأحكام.
وما كان هذا – على ما نعتقد – لغموض في الموضوع أو لصعوبة في حله حلاً يتفق مع المبادئ القانونية ومع مصلحة العدالة، ومع كرامة القضاء، بل كان لأن للشهوة فيه دخلاً عظيمًا، فإن القاضي يأبى إلا أن يكون له الحق في عقوبة من اعتدى عليه، وألفاظ المادة أمامه، عامة صريحة.
أما المحامي فيريد أن لا يكون مهددًا في تأدية واجبه، وفي نفس اللحظة التي يؤديه فيها، ودعوى الاعتداء، إلا ما ندر والنادر، لا حكم له، مأخوذة بلا شك بسبب تأدية هذا الواجب ولأجله. وواضح أن أحكام القضاة كانت قضاء في حق أنفسهم وتأكيدًا لسلطتهم.
لأجل هذا فلا عجب أن نرى هذا الاضطراب يتمشى في طريقة الاستدلال عند كل من الرأيين، لأن الحرج في المناقشة من شأنه أن يفسد عند الجانبين سلامة التقدير، وأنك لا ترى في حجة كل من الفريقين ما يفيدك إثباتًا ونفيًا، وإذا أردت أن نرجح بينهما كأن الترجيح تعقيدًا فوق تعقيد.
يرى أصحاب البنديكت أن المادة لا تنطبق على المحامي، ويسندون رأيهم (جزء 11 صفحة 129 فقرة 538)، إلى أن المادة قد وضعت لحماية المحامي لأنه داخل ضمن الأشخاص المعبر عنهم بكلمات (المأمورون الموظفون بالمحاكم)، يقولون ولا يقول إن تكون المادة قد وضعت لحماية المحامي، ومع هذا يجوز أن تكون مقررة لعقوبته.
غير أن الضعف في الاستدلال ظاهر، إذ ليس من الهين التسليم بأن المحامي داخل في من أرادهم الشارع بقوله.
(المأمورون الموظفون بالمحاكم officiers de justice).
بل لو سلمنا بأنه يدخل فيهم، فلا نفهم معنى تلك الحجة الكلامية التي تصاع في أنه لا يعقل أن يكون القانون الذي يحمي هو بذاته الذي يعاقب، فإن هذا على ما نفهم هو شأن القوانين جميعها فإنها وضعت لحماية من لا يعبث بها، ثم لعقوبة من يعبث بها من أولئك الذين وضعت لحمايتهم:
أما الرأي الثاني فالضعف في إسناده أظهر، تراه قائمًا على أن المحامي في الجلسة مثله مثل الأفراد لا يمتاز عنهم في شيء، على أن هذه القضية بذاتها هي محل البحث فإعادتها لا تصلح للتدليل عليها.
ثم تراه بعد هذا مسندًا إلى ضرورة المحافظة على كرامة القضاء، وهيبته، وهذا كلام لا دليل فيه غير أنه يرضي.
ولأنه يرضى فهو خطر، يجب استبعاده من الاستدلال، ولولا أنه خطر لظهر عند التأمل أنه غير صحيح في واقعته لأن كرامة القضاء لا تتأثر بواقعة اعتداء أيًا كانت، بل هي باقية، ثابتة بعد أي اعتداء كما كانت قبله، ولعل الذي يفهم معنى كرامة القضاء يسلم معنا بأن الرأي الأول أليق بكرامة القضاء على وجهها الصحيح كما سنبين ذلك في موضعه.
هذا مظهر الرأيين فإذا وقفنا في بحثنا عند استدلال كل من الفريقين كان في الترجيح بينهما شيء من الصعوبة فلا بد أن نرجع إلى أصل النظام القضائي، وإلى قواعد القانون الكلية، وإلى المبادئ العامة لنصل إلى حقيقة قضائية مقنعة.
قد يقال إنه لغرور ظاهر !!! لكن الذي يؤدي واجبًا لا يعنيه ماذا يقال، وإلا فقد وقف دون الواجب، على أني أعرض ملاحظات يستطيع كل من فكر ودقق، في مواقف المحامي، وفي عمله، وفي أحكام القوانين المتعلقة به، أن يصل إلى الحقيقة في أمرها.
ولعل غيري كان قادرًا أن يقدمها للناس بأحسن تدليل فلست أطمع في أكثر من توجيه البحث إلى طريقه الصحيح على ما وصل إليه نظري، ولمحكمة النقض أن تحل هذا الأشكال بحكمتها تقريرًا للواجبات وتأكيدًا للتضامن بين عنصري العائلة القضائية، على ما يجب أن يكون.

البحث الأول: مركز المحامي في الجلسة
– إنه يمثل مأمورية عامة لا يملك القاضي تعطيلها.
ليس من الضروري أن يكون المحامي داخلاً ضمن الذين تشير إليهم المادة (89) بكلمات (المأمورين الموظفين بالمحاكم) كما يقول الرأي الأول، ولكن المحامي مع هذا ليس فردًا من الأفراد يستوي حكمه إذا حضر في الجلسة مع أفراد الجمهور الحاضر كما يقول الرأي الثاني.
إن المحامي يحضر في الجلسة على أن له مأمورية اجتماعية، حسبها المشرعون من قديم ركنًا من الأركان الضرورية لتوزيع العدالة، وعمادًا في البناء القضائي، فليس هو في الجلسة فردًا بل تقرر على الدوام ومع اختلاف الأزمنة أنه شريك للقاضي في حدود الدعوى التي يحضر فيها، وأنه ممثل لفكرة أرادها الشارع ومنفذ لغرض اجتماعي مقرر.
المحامي يمثل الخصم الذي يترافع عنه – ظاهرًا – لكنه في الواقع يمثل مأمورية المناقشة اللازمة، لتنوير الدعوى، وظهور الحقيقة، وتكوين فكرة للقاضي، ولا يمنع هذا أن المحامي، يترافع باسم أحد المتقاضين، لأن هذا التخصص كان لازمًا من باب، توزيع العمل، وتقسيم المأموريات، لتتساعد الأفكار المختلفة في نواحي المناقشة، والبحث، فيكون من مجموع جهودها ما يوصل إلى الحق بقدر المستطاع.
القاعدة التي لا نزاع فيها أن المحاماة مأمورية مقررة، وضع نظامها لمصلحة عامة، وإن ظهرت عند التنفيذ في شكل مصلحة خاصة.
نريد أن تظهر هذه الحقيقة، لا من طريق التدليل النظري، فقد لا يكون ملزمًا لإسناد الأحكام، بل من طريقها القضائي، ومن طريق الأنظمة الموضوعة، والنصوص المكتوبة.
إنك لتجد هذه الحقيقة مكتوبة في معناها إذا لم تجدها في لفظها إذا تصفحت أي قانون من قوانين العالم، وأينما وقع نظرك، ومهما كان القانون الذي تقرأه.
1 – خذ قانون المحاكم المختلطة مثلاً، وقد اخترناه لأنه أقدم تشريع نظامي صدر في مصر، تجد المحامي في لائحة تنظيم القضاء ركنًا من أركان بنائه العام، وتجده محوطًا بثقة خاصة، ليست لأحد سوى فريق من الموظفين القضائيين، فتجده يحتكر حق الكلام أمام محكمة الاستئناف ثم تجد مقامه في تأسيس المحاكم المختلطة مع القضاة، والمستشارين، وموظفي المحاكم، في مستوى واحد، وتحت حكم واحد فيما يختص بالتأديب بغير تمييز ولا فارق، وفي هذا تصريح بأن مأمورية المحامي، ركن من النظام القضائي، في وجودها، وفي زوالها، إذ هي توجد وتزول، بنفس الطريقة التي توجد وتزول بها وظيفة القاضي سواء بسواء.
قلنا إن لقوله في حدود وظيفته ثقة خاصة، لا تتحقق إلا في شأن المأموريين الرسميين، فنجد تفريغًا لهذا الأصل وتنفيذًا لحكمه، إن المحامي يحضر في الواقع ممثلاً لمأمورية اجتماعية وكلت إليه، وتأكدت له الثقة من أجلها، فهو مصدق بمجرد قوله إنه وكيل عن أحد الخصوم، فلا يطلب منه توكيل.
وأنك تقدر هذه الثقة، وأثرها على الحق المتنازع فيه، فإن المحامي يترافع في الخصومة والقاضي يقضي بناءً على تلك المرافعة، فهي عماد الحكم، وقد يعترف المحامي، وقد ينكر، والقاضي ملزم بأن يأخذ هذه التقريرات مجردة عن كل دليل فيما يختص باتخاذها حجة على الموكل وعمادًا لحكمه.
أرأيت مثل هذه الثقة مقررة في حق موظف من الموظفين، كيفما كان مركزه ؟!
إن القاضي إذا قرر واقعة فهي لا تعتبر صحيحة إلا إذ دونها في محضر وساعده في التدوين كاتب، ثم وقع صاحب الشأن معه.
أما المحامي في تقريره بوكالته، فهو مصدق بقوله مجردًا عن كل دليل، وعن كل محضر، ولا سبيل لتعليل هذا إلا بأنه في نظر القانون مأمور حقيقة بخدمة عامة، فحققت له تلك الثقة المقررة للمأمورين جميعًا، بل كان مظهرها في حقه أبلغ.
2 – يدلك على أنه لا يحضر في الجلسة رسولاً عن الموكل الذي يترافع عنه، أن الموكل ليس له أن يبعث من يريد، بل لا بد له أن يلجأ إلى من أولاه الشارع ثقته، واشترط في تقريره محاميًا شروطًا خاصة، هي بذاتها الشروط التي يقتضيها في حق القاضي بلا فرق.
فالشارع حينئذٍ يضع مهمة القضاء بين جهتين، يستلزم لهما من شروط الكفاءات شروطًا واحدة، ومن شروط التأديب شروطًا واحدة، ومن شروط الاستقامة شروطًا واحدة، ثم بعد هذا تراه يوزع عليهما العمل، فللمحامي الأعمال التمهيدية، وللقاضي الكلمة الفاصلة والقول الحاسم، فتصوير المحامي وهو في الجلسة يترافع بأنه فرد من الأفراد أو قائم مقام الفرد صاحب الخصومة إنما هو خروج عن الواقع، وعن المقرر بنصوص القوانين.
3 – إن مأمورية المحامي في الجلسة لا تتوقف على توكيل أحد المترافعين، بل يريد القانون لو أنها تؤدي على الدوام – وفي كل القضايا – ورغمًا عن إرادة المترافعين أصحاب الشأن، ولهذا كان من أجمل موقف المحامي أن يتطوع في الجلسة للدفاع عن مترافع يراه صاحب حق، ويراه عاجزًا عن التدليل عليه، وفي هذا الظرف لا يستطيع القاضي أن يقول له، مالك ولهذا ؟ ولم يوكلك الخصم ؟!
ليس لهذا معنى، غير أن مأمورية المحامي، هي في الواقع مأمورية تقررت على أنها من كفالات العدالة وشروطها، فكلما ظهر المحامي في الجلسة، بتوكيل أو بغير توكيل، ليؤدي هذه المأمورية، تعين سماعه، ليكون نظام العدالة أدق وأكمل.
بل إنك لو رجعت إلى تلك العصور الأولى التي قامت فيها المحاماة، قبل أن توجد لها أنظمة وقواعد، وقوانين، وجدتها قد تأسست على أنها ظاهرة من ظواهر الطبيعة التي لا تقبل المناقشة فقبلها القاضي على أنها نور يرشده ولجأ إليها المترافعون كأنها سفينة النجاة، ولا يزال أثر هذا القديم حاصلاً كلما تطوع محامٍ في الجلسة لمساعدة عاجز عن المرافعة فشكره الناس بل كان القاضي أول من يشكر.
4 – كذلك عملاً بهذا الأصل وتنفيذًا له، تجد أنظمة المحاماة في كل بلد مجمعة على أن مأمورية المحامي، ملك للمتقاضين جميعًا وبدون استثناء، فهي ليست تجارة للربح، ولا طريقة للعيش، فلا ينتفع بها إلا من كان قادرًا على دفع الأتعاب، بل هي مأمورية عامة، مثلها مثل مأمورية القضاء بالضبط، للفقير فيها حظه كالغني، فكل من لا يستطيع أن يعين محاميًا لفقره من حقه أن ينتفع بهذه المأمورية الاجتماعية، وليس عليه سوى أن يقصد المحامي أو مجلس النقابة، أو القاضي فيجد حالاً محاميًا يتحمل المشاق للدفاع عنه، بلا مقابل، ولا مصلحة غير نصرة الحق !!
باسم من يحضر هذا المحامي ؟! وما هو ذلك الواجب الذي يلقى على كاهله فلا يستطيع أن يتمايل، سوى أنه واجب العدالة الاجتماعي يطالبه بأداء حقه، وقد تخصص له، فوجب عليه تلبية النداء كلما سمعه، لا فرق بينه وبين جندي وهب نفسه للدفاع عن بلده غير أنه جندي السلام يقاتل الباطل ويدافع للحق، وما هي المصلحة الاجتماعية التي تفضل هذه المصلحة ؟!!
لا سبيل لتعليل هذا غير أن المحاماة مأمورية عامة حقًا، وواجب اجتماعي لا نزاع فيه، تقررت شرطًا لعدالة القاضي فليس للقاضي أن يهدم ركن عدالته بيده ؟
5 – عملاً بهذه القاعدة أيضًا، تجد القوانين، صريحة في أن القاضي غير كفؤ وحده للفصل في قضايا معينة، بل لا بد للثقة بحكمه، وللاطمئنان إلى رأيه أن يكون معه المحامي، شريكًا، عاملاً، فتجد بعض القوانين تشترط هذا في الجنايات، وبعضها تشترطه في الجنايات، وفي الجنح أيضًا، وبعض القوانين يجعل لهذا العمل أتعابًا تدفعها الخزينة العامة، وبعضها تجعله مجانًا وبلا مقابل.
أترى أن الحكومة تكلف خزانتها أن تدفع المال للمحامي ليشترك مع القاضي عبثًا ولهوًا ؟!
ولمجرد أن يزيد في عدد الحاضرين بالجلسة فرد من الناس يستوي حكمه مع حكم أفراد الجمهور فيما عدا أنه يلبس رداءً أسود ؟!! أو لا بد أن تكون هذه الأنظمة نتيجة لتلك القاعدة الثابتة وهي أن المحامي يؤدي مأمورية اجتماعية، هي أساس لاطمئنان الناس على العدالة بينهم، فهي جزء أصلي لمأمورية القاضي يتحقق حكمها وأثرها، كلما وجد ظرفها وحضر المحامي فعلاً.
6 – تجد أثر هذه القاعدة أيضًا، في نص بعض القوانين على أن المحامي يؤدي يمينًا بأن ينفذ مأموريته بالصدق والنزاهة، فهو في هذا مثله مثل القاضي، فيمين كل منهما واحدة، كما كانت شروط الكفاءة عندهما واحدة.
ولو أن المحامي يمثل الخصم، لاستحال أن يكلف باليمين على هذه الصورة.
7 – كذلك، تجد أثر القاعدة في تدوين الواجبات التي على المحامي، وفي أسباب تأديبه، فإن واجباته ثقيلة الكلفة واسعة المدى، تكاد تجرده من كثير من حقوق الإنسان، بل تكاد تخنقه خنقًا، إذ المبالغة فيها تتدفق من كل ناحية، حتى لقد كان من أسباب محو الاسم في بعض الأنظمة أن يطلب المحامي تقدير أتعاب ضد موكله.
ومهما قلت بأن هذا أثر باقٍ من أصل نشأة المحاماة حيث كانت مروءة ونجدة، لكنها قد تطورت، وأصبحت عملاً لا بد من تقدير أتعابه، مهما قلت هذا فإن ذلك الأصل القديم دليل على أن المحاماة ليست تظاهرًا بالبلاغة ولا تجارة، ولا طريقًا للعيش، بل هي مأمورية، اجتماعية، حقيقية، تشكلت في أول عهدها على قدر الإفهام، بالمروءة والنجدة، أي بأحسن نزعة في قلب الإنسان، ثم تشكلت مع تقدم الفكر القضائي بأنها شرط للعدالة، وركن لفهم القاضي، وهذا هو مقامها في القوانين العصرية تراه مكتوبًا في جميع النصوص معنى وحكمًا.
لهذا لا تزال واجبات المحامي، من حيث النزاهة، والاعتدال، والرفق، والصدق، واصلة به إلى أسمى مراتب الفضيلة، لا فرق بينه وبين القاضي.
بل نجد من واجباته أن لا يعمل لتوسيع رزقه، في دائرة الحلال والاستقامة، فليس له أن يتاجر، وليس له أن يكون موظفًا في الحكومة، وليس له أن يكون عضوًا في شركة، إلى آخر ما تعلم من تلك الواجبات، التي تنقص من حقوقه المدنية العادية، كأنه قد تجرد من أهم حقوق الفرد أو كأنه قد زهد في متاع الحياة، فأصبح بقوته، ونشاطه، ومقدرته، وقفًا على تمهيد سبل الحكم في حقوق الناس، فكان لا بد له أن لا يشتغل بغير هذا، ولا يفكر في غير هذا، وأن فكر فقد خان واجبه المقرر.
8 – تحقيقًا لهذا الأصل أيضًا، تجد المحامي إذا ترافع لا يرتبط بأقوال الذي يدافع عنه، خصوصًا في قضايا الجنايات والجنح، فإن المتهم قد يعترف بالجريمة، لكن المحامي يعارضه، ويدلل على كذبه وهو في هذا الموقف، ذو ولاية عامة، تلقاها من القانون، وهي ولاية تضعه في موضع قاضي، لا نظير له بين القضاة، لأنه هو وحده الذي يملك أن يقول إن المتهم كاذب، وهو وحده الذي يمهد هذا السبيل للقاضي، بحيث إذا لم يقترح المحامي هذا الاقتراح خرج بحثه عن ولاية القاضي، والمحامي يعرضه كما رأيت من تلقاء نفسه !!! بل ورغم المتهم الذي يدافع عنه، وعلى عكس أقواله، فهي ولاية اجتماعية لا شك فيها، ولا نظير لها !!!
حينئذٍ هو خطأ جسيم أن يقال إن المحامي يحضر عن صاحب الشأن، ويعمل لمصلحته، بل هو قول باطل، تنقضه كل مواقف المحامي، كيفما تأملتها، ولا بد لنا أن تقف عند هذه الحقيقة المؤكدة:
وهي أن المحامي، يمثل واجبًا اجتماعيًا، ومأمورية اجتماعية، علم الناس ووثقوا أنها ركن من أركان العدالة، فوضعت الأنظمة لتقرير أحكامها، وبيان حقوقها وواجباتها.
وحينئذٍ هو خطأ أيضًا أن يقال إن المحامي يدخل ضمن الأشخاص المشار إليهم في المادة (89)، بكلمات (المأمورين، الموظفين بالمحاكم)، بل إن تقاليده وواجباته ولائحته بنصها الصريح، كل هذا يمنع أن يكون من الموظفين، أو من المأمورين، وإنما هو رسول القانون، وممثل الركن الأول من أركان العدالة في مجلس القاضي، يحمل ويؤدي واجب البحث والمناقشة، ويحمل ولاية العاجز عن الدفاع لقصر، أو جهل، وولاية كل من قهره البؤس فطوح بنفسه إلى جحيم المجرمين اعتباطًا.
هذا هو مركز المحامي في الجلسة، وذلك موقفه القانوني بلا فلسفة، وبلا إجهاد في النظريات، فما أغنانا، عن البحث، كما بحث أصحاب البنديكت، وغيرهم، في هل هو يعتبر ضمن المأمورين القضائيين أو لا يعتبر منهم.
بناءً على هذا نستطيع أن نؤكد أنه لا يمكن أن يكون شأن المحامي في الجلسة هو بذاته شأن كل فرد من الأفراد الذين شرعت المادة (89) لحماية المحكمة من تشويشهم واعتدائهم.
ذلك، لأنه متى تقرر، والأمر واضح، أن المحامي لا يمكن أن يستوي بأفراد الجمهور الحاضر، فقد خرج من حكمهم، وخرج من حكم المادة (89)، الموضوعة بنصها الصريح لهذا الجمهور وحده.
إن المحامي، بحكم مهمته الاجتماعية حر في تأديتها كما يملي عليه ضميره، لا يخضع فيها لأحد، وإذا قلنا لا يخضع لأحد فلا نعني بهذا غير القاضي الذي يسمعه أولاً وبالذات، فليس لقاضي الجلسة أن ينازعه في طريقه الذي وضعه لتأدية تلك المهمة، وليس له أن يطلب منه أن يوجه بحثه إلى غير التوجيه الذي يراه.
نقصد ليس له ذلك أي من باب السلطة والأمر، ولكن له طبعًا، من باب التفاهم، ورغبةً في الإقناع، أن يسأل وأن يناقش، وللمحامي أن يصر على رأيه، وأن يزيد في التدليل، على ما أراد، وأن يصمم على الغرض الذي يرمي إليه.
المسألة هنا واجبان يتلاقيان، وقد يُحدث هذا التلاقي حرجًا، وقد يثير الغضب، فيولد الاتهام من الجانبين، ويرى كل منهما أن الآخر قد تجاوز واجبه، فانتقلت المسألة من جنحة جلسة مادية صرفة إلى أنها نزاع بين فريقين، تستلزم بحثًا وتحقيقًا لمعرفة مَنْ مِنْ الاثنين قد تجاوز ذلك الواجب، ومَنْ مِنْ الاثنين كان غير مصيب، وهذا لا يتحقق منه شيء بالنسبة لفرد من الجمهور، فخرجت هذه الواقعة المعينة بحكمها، وطبيعتها، وموقف كل من القاضي والمحامي فيها، من حدود المادة (89).
إنما وضعت هذه المادة للجمهور الذي لا رابطة بينه وبين القاضي، غير أن يسكت، وأن لا يتكلم إلا بقدر ما يريد القاضي، وفي حدود سماحه، وهذا لا ينطبق على المحامي بحال من الأحوال ما دمنا علمنا أنه عضو قانوني، يؤدي مأمورية اجتماعية تريدها القوانين لمصلحة عامة، لا يملك القاضي تعطيلها، أو توجيهها إلى عرض معين، أو الوقوف في سبيلها، وإن فعل فقد اعتدى على النظام الذي يسند إلى سلطته.
وفي الواقع، فكيف تتولد على وجه العموم وفي أكثر الحالات، حوادث الاعتداء في الجلسة بالنسبة للمحامين إلا من باب تأدية الواجب ؟
يترافع المحامي فيقول قولاً على غير ما يرى القاضي، يعترضه القاضي فينشأ بين الاثنين مناقشة، تأخذ حدودًا لم تكن في الحسبان، يكون من حدتها ما يدفع بالفريقين أو بأحدهما، إلى ما يغضب، ومتى غضب القاضي فالمادة (89) في يده، والسلطة له مطلقة، فما أسرع من تطبيقها على المحامي، لهذا تتعطل سير العدالة، وينتقم القاضي لنفسه وهو في حدة الغضب انتقامًا لا راد له.
لست أريد بهذا، أن القاضي هو المعتدي، وأنه الغضوب المتسرع في كل حالة، لكني أقول، وأرجو دائمًا، أن لا يبرح هذا من الذهن، أننا في هذه الحالة الدقيقة لسنا أمام قاضٍ وفرد من أفراد الجمهور، بل أمام واجبين متعارضين، في الظاهر، وأمام مأموريتين اجتماعيتين لا بد لهما من التضامن في العمل، لتصلا إلى العدالة المقصودة، فإذا كان أحد الجانبين يؤدي واجبه وهو حر في تأديته، فهو مقدس ما د أنه يؤديه، وهناك بالنسبة له، نظرة تعصمه عن سلطة القاضي المقررة لأفراد الجلسة، وهناك احتمال أن يكون القاضي هو الذي بدأ بالعداء، وهناك احتمال أن يكون القاضي هو المسؤول دون المحامي، فأصبح القاضي أحد الفريقين المتناظرين، وهذه الحالة من المحال أن تتحقق في حق فرد من الناس الذين شرعت لأجلهم المادة (89).
أنه لا يوجد من أعمال المحامي في الجلسة، ما يصعب جريًا مع المنطق، والاستعداد النفسي، أن تنتزع منها واقعة إهانة للمحكمة، فإن مأمورية المحامي تؤدي من طريق اشتراكه مع القاضي مباشرةً، ومن طريق مجاهدته في الرأي، ليسير في طريق معين.
هذا في واقعته وفي جوهره أكثر من التشويش، بل هو مجاهدة، وتصادم بين رأيين، وقد يكون من شأنه إحراج النفس ثم تحويلها إلى توهم السخرية بالرأي، فجنحة الاعتداء سريعة التكوين في نفس القاضي من مجرد القيام بالواجب وبدون أي سبب خارجي.
إذا علمنا أن مأمورية المحامي، شرط لازم لعدالة القاضي، فالنتيجة اللازمة لهذا حتمًا أن المحامي وهو يؤدي هذه المأمورية لا تدخل عقوبته في حدود سلطة القاضي لأن هذه السلطة نفسها شرطها احترام مأمورية المحامي، وتمكينها إلى آخر حدودها.
ولا يجوز للقاضي أن ينقض بعمله، شروط عدالته، فيمنع المحامي من تأدية عمله بحجة أنه قد اعتدى.
إن هذا الاعتداء إذا وقع لا يذهب أثره، ولا بد أن نتذكر دائمًا أن عقوبته محققة باقية لا تضيع سُدى، ونتذكر دائمًا أننا هنا أمام واجبين اجتماعيين، والواجبات الاجتماعية، لا تتعارض ولا تتناقض، فيجب أن يترك المحامي يؤدي واجبه، ثم للقانون، بدون تعجل ولا انتقام، أن يقتص منه بعد ذلك فيقدم إلى السلطة المختصة لمحاكمته على الاعتداء الذي وقع منه.
هب أنك أمام محكمة جنائية، وأهم ما فيها بحث في شهادة شهود وتدوين لأقوالهم، وهب أن الرئيس قد اعتقد أن الشاهد قد أجاب بكذا، فأملاه على الكاتب، والواقع أن الرئيس أخطأ في السماع، فاعترضه المحامي بأن الشاهد قال غير هذا، أفلا يكون من هذا تهمة اعتداء، أبسط ما يقال فيها إن المحامي قد اتهم الرئيس بأنه يزور محضرًا رسميًا، أو بأنه لاه عن سماع الشهود، والاعتداء قائم في الحالتين ؟!
حينئذٍ تكون النتيجة، أن هذا المحامي، ووجوده شرط لصحة عمل القاضي، ووجوده إنما لوحظ لأجل هذا الواجب الذي يؤديه، ولأجله فقط، تكون النتيجة أنه قد استحق الحكم بالحبس، لا لشيء سوى أنه أدى واجبه، فكان في تأديته إيلامًا للقاضي، ومن ذا الذي يعطي سلطة الانتقام إذا غضب فلا يستعملها ؟!
لا شك عندنا في أن الرأي القائل بجواز استعمال المادة (89)، في حق المحامي يخرج بنا عن كل ما يدركه العقل، إذ تذكر هذه الواجبات المقررة، وعن كل ما يحققه القانون في نصوصه المختلفة من وجود المحامي، ومن القيام بمأموريته:
قد يجوز أن يكون اعتداء المحامي واضحًا وضوحًا لا ريب فيه، بحيث لا يحتمل الموضوع تأجيلاً ولا محاكمة يجب تحويلها على محكمة أخرى، وعلى هذا فقد يعترض: ما معنى ضرورة التأجيل هنا، ولماذا لا ينفذ القاضي سلطته المقررة في المادة (89).
هذا اعتراض، لا يضعف شيئًا مما تقدم، بل هو رجوع بنا إلى الوراء، كأننا لم نتقدم بالبحث خطوة، فإن الاعتراض قائم على التسليم بأن المادة (89)، يدخل في حكمها المحامي حتمًا، وهذه هي المسألة المراد بحثها وتقديم الدليل عليها، فإذا ما دللنا، على أن المحامي لا يمكن أن يدخل في حكم المادة، فلا معنى للاعتراض، بجواز أن يكون خطأ المحامي واضحًا، لأن هذا الوضوح موضعه هناك أمام القاضي الذي يحكم في الموضوع وليس من شأنه أن يدخل في حكم المادة ما لم توضع لأجله.
على أن هذا الاعتداء المفترض خيالاً والمجرد عن كل ملابسة، لتأدية الواجب، هو بالطبع من الوقائع النادرة الشاذة، والشذوذ لا حكم له.
إنما توضع القواعد للحوادث الغالبة، وحكمها أن تهمة الاعتداء إذا وجهت للمحامي فإنما هي ناشئة من تأدية واجبه وبسبب ذلك الواجب ما يتبعه من تصادم الرأي بين القاضي والمحامي.
على أن هذا الاعتراض يرد عليه بمثل حجته، وذلك بافتراض الحالة الشاذة، التي تقابله، وهي أن القاضي، وهو قوي، قد يغتر بسلطته، فيعتدي على المحامي اعتداءً واضحًا، فيكون المحامي في حل من رد الاعتداء بمثله، ولا يجوز للقاضي، أن يحكم في حق نفسه، فينتقم بعد أن كان معتديًا ؟!!
الصواب أن هذه الاعتراضات، الافتراضية، تتلاشى وتستقيم شروط العدالة، إذا قلنا إن هذه الحالة حالة خاصة، بمظهرها، وبحكمها، وبنتائجها ولا سبيل لتطبيق المادة (89) عليها، بل هذه مناقشة، بين فريقين، فلكل منهما الحق في أن يناقش، فإذا تحولت المناقشة إلى اتهام متبادل، فلكل منهما أن يحتمي ضد الآخر بواجبه، والواجبات لا تتعارض، فلا بد من تحويل خصومتها للمحكمة المختصة لتفصل فيها، تحقيقًا لمسؤولية كل منهما.
بقيت كلمة أخيرة يجب أن تكون ختامًا لهذا البحث.
قد يقال، نسلم إن للمحامي مأمورية مقررة في الجلسة، نسلم أنه رسول القانون، وأنه شريك القاضي في عمله، لكن هذا قد لا يحل الإشكال لأن للقاضي شركاء آخرين في الجلسة هم الموظفون معه، وهم أيضًا أصحاب مأمورية اجتماعية، ومع هذا جاز للقاضي أن يحكم عليهم إذا اعتدوا، فلماذا لا يجوز له أن يحكم على المحامي ؟!
قيمة هذا الاعتراض كلامية أكثر منها جوهرية.
أولاً: لأن البحث في هل للقاضي أن يحكم على الموظف بالعقوبة طبقًا للمادة (89) لا يزال باقيًا كله، ولا ندري هل تنطبق هذه المادة على الموظف أو لا تنطبق، فالاعتراض أساسه افتراض غير مسلم به أو عقدة غير محلولة، فهي لا تحل عقدة أخرى.
وثانيًا: لأن المادة (86) التي قررها الشارع لأجل الموظفين وحدهم لا تسمح بغير توقيع الجزاء التأديبي – دون العقوبة – فالاستدلال بها يؤيد رأينا.
وثالثًا: لأنه قد يكون الاعتداء من عضو من المحكمة فتسقط ولاية الباقين في الحكم، فالظاهر المادي أن المادة (89) لم توضع لهذه الحالة فهي حينئذٍ لا يجوز تطبيقها على الموظفين.
ورابعًا: لأن المادة (86) قاصرة على التشويش لا على أية جنحة أخرى، ومن هذا أيضًا تدليل صريح على أن المحكمة لا تملك الحكم على الموظف إذا أسندت إليه جنحة، فهي حينئذٍ لا تملك الحكم على المحامي لا لأنه موظف ولكن لأنه يؤدي واجبًا في الجلسة كالموظف.
وخامسًا: لأن الموظف عند إصدار المادة (89) كان خاضعًا في المسؤولية التأديبية للمحكمة، فلا غرابة في أن تؤدي هذه السلطة في الجلسة كما تؤديها خارج الجلسة.
هذا أما إذا أردنا التمثيل بالموظف، ليكون القياس كاملاً، فيجب أن تفترض الواقعة الآتية:
كاتب الجلسة أمين على محضر الجلسة، يدون فيه الوقائع كما تحصل، كما أن المحامي أمين على طريقة الدفاع يرسمه كما يريد، فهب أن القاضي والكاتب اختلفا في تدوين الوقائع في محضر الجلسة فرأي القاضي تدوين واقعة، ورأي الكاتب أن الواقعة ليست بالشكل الذي يريد القاضي إثباته فرفض الإثبات، فقامت المناقشة بين الفريقين، وكان من نتيجتها حدة أغضبت القاضي، فهل له أن يتهم الكاتب بالإهانة والاعتداء، ثم يحكم عليه لأنه لم ينفذ أمره، فيما لا يجوز أن يأمر فيه ؟!!
لا يمكن لأحد أن يتوهم أن هذا الكاتب الحريص على واجبه، والصادق في تأديته يصبح بسبب هذا الصدق، مهددًا بالعقوبة، ويكون الذي يعاقبه هو نفس ذلك القاضي الذي طلب إليه أن يثبت في محضره واقعة قد يجوز أن القاضي أساء الفهم فظن أنها وقعت كما فهم، وهي لم تقع !!
هذا هو الحال بالضبط بالنسبة للمحامي، فإننا أمام واجبات تتلاقى، كل من الفريقين أمين على واجبه، وليس بينهما سوى التفاهم بالحسنى، فإذا تعذر التفاهم، واحتد أحدهما على الآخر، فلا بد لهما بمن يفصل بينهما.
على هذا تكون المادة (86) الخاصة بالتشويش بالنسبة للموظفين فقط، والمادة (89) الخاصة بالتشويش والاعتداء بالنسبة لغيرهم إنما الغرض منهما، هو ذلك التشويش الذي يصدر من شخص لا تربطه مع القاضي – رابطة مقررة – وفي ظرف لا يكون يؤدي فيه لدى القاضي واجبًا مقررًا، كان من شأنه حصول ذلك النزاع الذي اعتبره القاضي إهانة، وهو تأدية واجب ليس إلا، وإن شذ عن الحد، فما كان للشذوذ في الواجب غير المحاكمة التأديبية إن وجد سببها.

البحث الثاني
في أن العمل الواحد قد يكون واجبًا إذا صدر من المحامي وهو اعتداء إذ صدر من الفرد
لا شك في أنه لا يجوز لأحد من الجمهور الحاضر، أن يتقدم إلى القاضي، ليبدي اعتراضًا على عمله، أو ليقدم نقدًا، أو ليبين أنه أخطأ، وإذا صدر هذا من واحد من الجمهور، فقد اعتدى على القاضي طبقًا للمادة (89)، وحقت عليه العقوبة. أما المحامي، وهنا يظهر لك الفارق العظيم بينه وبين الجمهور، ويظهر لك أن المادة (89) لا تعنيه أصلاً، فإنه بحكم مأموريته المقررة، من حقه بل يجب عليه أن يقول للقاضي لقد أخطأت كلما اعتقد أنه في الواقع قد أخطأ. نقول هذا واجب، ولا ينازعنا في هذا القول منازع، وهو مع هذا قول فيه شيء من الإيلام، وإن شئت أن تنزل إلى إفهام طبقة الحاضرين في الجلسة من الشعب ففيه تصغير وإهانة، فهو اعتداء بالمعنى اللفظي للمادة (89).
لكنه عمل مشرف، عند من يدركون الواجبات، الموزعة على شخصين، يتفاهمان في دائرة واجب سامٍ، لا ينقص من قدره أن إفهام بعض الطبقات لا تدركه.
تتحدث النيابة في مذكرتها (بكرامة القاضي)، وضرورة أن يحاط بسياج من التقديس والاحترام، (والمهابة، حتى يتمكن من أداء واجبه)، ثم تكتب (إن الشارع لهذه الغاية قد وضع من النصوص الصريحة، ما يكفل للقاضي وهو على عرش العدل المحافظة على احترام، وهيبة ذلك المجلس المقدس).
هذا صحيح، لا يعارض فيه أحد، غير أنه في الوقت نفسه، كلام عام مرسل، هو إلى الأسلوب الخطابي أقرب منه إلى البحث القانوني، ونبرئ واضع المذكرة من احتمال أنه قصد بوضع هذه الكلمات حمل القضاة على العقيدة بأن كرامتهم مرتبطة بسلطة حبس المحامين في الجلسات، واعتبارهم جناة إذا هم نطقوا بكلمة لا ترضيهم.
نريد أن نبحث هل من معاني احترام القاضي، أن تتلاشى أمامه إذا أخطأ، كل الحقوق والواجبات، فتسقط حقوق الأفراد وتبطل الأنظمة الموضوعة للمصلحة العامة، بل نذهب الضمانات المقررة لاحترام أحكامه، فلا يبقى من كل هذا إلا أن القاضي يتمتع بسلطة استبدادية مطلقة لا حد لها، فلا يجوز لأحد أن يعترض وإلا حقت عليه العقوبة !
ولا نظن أن النيابة تريد شيئًا من هذه الفوضى، بل لا نظن أن القاضي العليم بموجبات كرامته، والمؤمن بجلال مهمته، يرضى لنفسه أن يكون ذلك المستبد المعصوم من الخطأ، فلا يقبل على عمله اعتراضًا !!! من محامٍ جاء إلى الجلسة بحكم القانون للمعاونة على إدراك الصواب وطريقه.
قررت في صدر بحثي أنها مسبة للمحاماة أن يطلب المحامي امتيازًا هو خروج على القانون وامتهان لحقوق الناس، فلا لوم علينا إذ قلنا إننا نرجو للقاضي ما نرجوه لأنفسنا من الكرامة فجلال القاضي أو (قدسيته) كما تعبر النيابة مرتبطان بمظهر تنفيذ القانون، واحترام حقوق شركائه في العمل، وتحمل أداء الواجبات التي فرضت على كل من يساعده في أعماله التمهيدية الموصلة للحكم قبل أن يؤدي مأموريته التي يمتاز بها ولا يشاركه فيها أحد وهي إصدار الحكم.
أما قبل هذا فلا مأمورية، ولا واجب له، سوى السماع، واستيفاء إجراءات القانون كاملة !! وبحث كل اعتراض يوجه إليه، فربَّ اعتراض يؤلمه، لكنه يعصمه من الخطأ !!
بناءً على هذا يجب أن نقول إن واجبات المحامي إزاء القاضي هي بذاتها، المقررة عليه بحدودها، وشروطها، قبل زملائه، وقبل الشهود، وقبل الخصوم، وقبل الخارجين عن الخصومة، وذلك مع ملاحظة الفارق الذي يقتضيه مراكز كل من هؤلاء. إن المحامي في جلسة القاضي لا غرض لمأموريته إلا إلفات النظر إلى مواضع الخطأ في جميع أشكاله، ومقاتلته في جميع أسبابه كيفما كانت أقواله، ومهما ألبسها من مظاهر التلطف في التعبير، أو البلاغة في الإقناع، فهو يعمل على توجيه فكرة القاضي إلى غرض معين.
والفائدة الاجتماعية من تنظيم مهنة المحاماة إنما تنحصر في احتمال أن يكون ذلك الغرض الذي يوجه المحامي فكر القاضي إليه لم يرد على خاطره، ولم يحسب له حسابًا، فالقاضي يجلس محاطًا بكل أنواع الاحترام والإجلال، إلا أنه إنسان، معترض للخطأ، بل هو لا يهمه إجلال الناس إذا لم يكن إنسانًا مثلهم – معرضًا للخطأ مثلهم – لكنه يمتاز عنهم في سمو مأموريته، ويفضلهم حقيقة في إخلاصه لإقامة العدل، وهذا الإخلاص بعينه يقتضي أن يتقي مواضع الخطأ، وأن يشكر من يلفته إليه،، فإن العصمة ليست من أقدار الإنسان.
1 – يواجه المحامي القاضي بأنه أخطأ في حكم صدر منه غيابيًا، أو في أمر صدر على عريضة، وقد يكون الخطأ في مسألة قانونية فُهمت على غير ما يجب، فيدلل المحامي علنًا، وعلى ملأ من الناس أن وجه الصواب فيها على غير ما فهم القاضي، فيشرح النقطة المقصودة، ويبين حدودها وأركانها، وأصولها وفروعها، ولم يقل أحد أن هذا يعتبر تعديًا على مركز القاضي لأن المحامي قد وصفه بالجاهل لأحكام القانون، بل يفرح القاضي لهذا فرح العادل بإدراك الحق، ثم يعدل عن رأيه وينضم إلى رأي المحامي، وفي هذا العدول جلاله وشرط احترامه.
2 – كذلك المحامون أمام محكمة الاستئناف يدللون على خطأ القضاة بكل قوة، وتصدر أحكام الاستئناف معلنة أن القضاة قد أخطأوا، ومهما كان الخطأ جسيمًا، فلم يخطر على فكر أحد إن في إعلان هذا الخطأ اعتداء على كرامة من أخطأ.
3 – ألا ترى، فضلاً عن حالات الحكم الغيابي، والأوامر التي تصدر على العرائض، إن المحامي يواجه المحكمة، بأنها أخطأت، عند المرافعة بعد حكم تمهيدي صدر، وبعد تنفيذه فعلاً فيدلل على أن هذا الحكم قد صدر خطأ، ويطلب إلى نفس القاضي أو إلى نفس المحكمة التي أصدرته، أن تعدل عنه في مبدأه، وأن تمحو الأثر الذي صدر عنه، وأن تعلن بنفسها في حكم جديد، أنها قد أخطأت في قضائها الأول وأنها تعدل عن ذلك القضاء إلى قضاء جديد !!!
4 – ثم ألا ترى أن المحامي يواجه محكمة الاستئناف بأنها أخطأت في حكمها، ويطلب إليها أن تعدل عنه من طريق الالتماس ؟! ولا يدور في خلد أحد أن الشارع أراد في هذه الحالة الاعتداء على كرامة القضاة، والعبث باحترامهم !!
أين هذا الجلال، الصحيح، المُجسم، من القول بأن المحامي إذا قال للقاضي إن هذا خطأ فقد خرج عن حدود مأموريته واعتدى على ذلك الجلال الوهمي اعتداءً ؟!!
قلنا إن الاعتراض بالمواجهة يخالف الواقع، ونقول بعد هذا إنه يخالف ما نفهمه من آداب القاضي على وجهها الأكمل، لأن التفريق، بين القول بالخطأ مواجهة، والقول به في غيبته أمام محكمة أخرى، إلى حد جعل الأول اعتداء والثاني عملاً شرعيًا واجبًا، إنما معناه عجز القاضي عن إصلاح خطئه، وضيق نفسه عن سماع ملاحظة صادقة مهما كان الواجب فيها واضحًا !!
ثم نقول ثالثًا إن الاعتراض بالمواجهة وعدمها إنما يرجع في الواقع إلى أن القول بالخطأ في حالة الغياب لا يثير غضب النفس كما يثيره في حالة المواجهة، فينتقل بنا النظر إلى أن القاضي إذا غضب كان من حقه أن ينتقم، فنخرج بهذا عن أصول عقوبة الاعتداء، وحكمة تشريعها، وشرط تطبيقها، لأنها مقررة، لا إرضاء لشهوة الغضب، والغضب لا تشريع له، وليس من حق المخطئ أن يغضب، وليس من مظاهر العدل من جهته أن ينزل نقمته على من يرجو لخطواته السداد ويريد أن يبعده عن مواضع الزلل.
المسألة ترجع بنا دائمًا إلى التساؤل، هل وظيفة القاضي تتحمل التفاهم مع المحامي بيانًا للصواب والخطأ أو لا تتحمل ؟!
وقد وضح أنه لا مأمورية للمحامي غير هذا، ولا مأمورية للقاضي أيضًا غير سماع اعتراضات المحامي.
لا نقول إذن وجب أن نطلق العنان في الجلسة إلى حد التجاوز عن اللائق، فلا شك في أن المحامي من أدق واجباته، في أداء مهمته أن يكون حكيمًا، كلما وجد التصادم في الجلسة بين رأيه وبين رأي القاضي أو عمله، فعليه أن يختار من العبارات أحسنها فيكون إلى إدراك غرضه في الحادثة المعينة أقرب، وإلى اكتساب ثقة القضاة وتقديرهم لحسن أساليبه أمكن.
غير أنه إذا أخطأ السبيل فالمسألة مهارة فنية، ومقدرة في صناعة الكلام، لا تعلق لها بقانون العقوبات، ولا تتصل بحوادث الاعتداء، وقد يكون الخطأ بسيطًا فلا مسؤولية عليه غير أن يُعرف عن المحامي بأنه محدود الكفاءة في مهنته، وقد يكون الخطأ جسيمًا، فتبدأ المسؤولية التأديبية.
ومن هنا يظهر لك أيضًا أن حسن النية أصل مقرر في مناقشة المحامي، مهما ظهر في ألفاظها من دلائل الحدة، لأنه يؤدي واجبًا، وهذا هو قصده، وغرضه، فتحويل هذا القصد الشريف قانونًا، ونظامًا، إلى قصد سيئ، يستحق العقوبة، خروج بنا عن الموقف المقرر إلى نقيضه، وهو موضوع قضية معقدة، لا يتيسر لقاضي الجلسة أن يكون هو الفاصل فيها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *