دراسة لجريمة التعذيب وإستعمال القوة – بحث قانوني
اذا كانت طبيعة جريمة استعمال القسوة ذات طبيعة متنوعة بحسب مصدرها فان طبيعة جريمة التعذيب ليست كذلك ، ولذا سنبين في نقطتين طبيعة جريمة التعذيب ثم طبيعة جريمة استعمال القسوة .
أ. طبيعة جريمة التعذيب :
ان طبيعة جريمة التعذيب تستهدف الاعتداء على السلامة البدنية والذهنية للافراد باعتبارها احدى دعامات الحرية الفردية ذلك ان الاعتداء الواقع على الافراد في هذه الحالة لابد ان يكون واقعا من احد ممثلي السلطة ففي جريمة التعذيب او الامر بالتعذيب يستلزم لقيامها وقوعها من احد ممثلي السلطة.
لذلك فان التشريعات كافة تحرم التعذيب وتعاقب عليه فهو من الوسائل الوحشية التي يجب نبذها وحظر استخدامها على الاطلاق وتحريمها ومعاقبة من يلجأ اليها لانها تحطّ من كرامة الانسان وتتعرض له في حريته الفردية فتؤثر على سلامته البدنية والذهنية وتؤثر على ارادته الحرة لذلك كان تجريمه ومعاقبة من يلجا اليه مهما كانت ظروفه ومهما كان العذر الذي تحتج به السلطة
ولو كان لذلك فائدة في الوصول الى الحقيقة ، كما ان التعذيب يعد من الاساليب البدائية التي لا تتفق مع روح العصر ، وان استخدام التعذيب مع الافراد لحملهم على الاعتراف او غير ذلك لا يمثل قسوة السلطة فقط بل يقوم دليلا على العجز في الوصول الى الحقيقة بغير طريق التعذيب (1) .
وقد نص المشرع الفرنسي(2). على معاقبة الموظف الذي يستخدم العنف او يامر باستخدام العنف ضد الاشخاص دون سبب قانوني اثناء ممارسته لوظيفته او بمناسبتها . وحدد العقوبة على حسب جسامة الجريمة وفعل العنف او التعذيب الذي استخدمه (3).
وبهذا يكون المشرع الفرنسي قد اعطى الحماية لممثلي السلطة عند اداء واجبهم اذا كان استخدام العنف له سبب قانوني ، وفي نفس الوقت جرم العنف اذا كان دون سبب قانوني وقدر له عقوبة قاسية هي ضعف العقوبة المقررة للجريمة نفسها ، فاذا كان العنف يشكل جنحة كانت العقوبة ضعف العقوبة المقررة لها وهكذا . اما المشرع المصري فان التعذيب يشكل جريمة عقوبتها الاشغال الشاقة او السجن من ثلاث سنوات الى عشر ،
واذا مات المجني عليه يحكم بالعقوبة المقررة للقتل عمدا بشرط ان يكون التعذيب الذي يقوم به الموظف او يامر غيره للقيام به لحمل متهم على الاعتراف(4). والملاحظ على موقف المشرع المصري انه يواجه فقط حالة التعذيب الواقع على متهم لحمله على الاعتراف فاذا وقع التعذيب على غير متهم او على متهم ولكن دون قصد حمله على الاعتراف بل لسبب اخر فان المادة (126) عقوبات لا تنطبق بل تطبق بحق الموظف مواد اخرى (5).
وكأن ما قام به من تعذيب واقع من فرد ضد فرد اخر. واما المشرع الاردني فقد نص على انه (من سام شخصا أي نوع من انواع العنف والشدة التي لا يجيزها القانون بقصد الحصول على اقرار بجريمة او على معلومات بشأنها عوقب بالحبس من ثلاثة اشهر الى ثلاث سنوات) (6). ونص كذلك على انه (اذا افضت اعمال العنف والشدة هذه الى مرض او جرح كانت العقوبة من ستة اشهر الى ثلاث سنوات مالم تستلزم تلك الاعمال عقوبة اشد) (7).
والملاحظ على موقف المشرع الاردني انه لا يفرق بين التعذيب الذي يقوم به موظف وبين الذي يقوم به فرد من الافراد فجعل الموظف الذي يتمتع بامتياز سلطة الوظيفة كغيره من الافراد في المسؤولية والعقاب . ولم يخرج المشرع الاردني عما قرره المشرع المصري بتحديد الهدف والغاية من التعذيب وهو بقصد الحصول على اعتراف .
واما المشرع العراقي فقد نص على ان (يعاقب بالسجن او بالحبس كل موظف او مكلف بخدمة عامة عذّب او امر بتعذيب متهم او شاهد او خبير لحمله على الاعتراف بجريمة او للادلاء باقوال او معلومات بشانها او لكتمان امر من الامور او لاعطاء راي معين بشانها ويكون بحكم التعذيب استعمال القوة او التهديد) (8).
والملاحظ على المشرع العراقي وان كان قد سار على نهج المشرع المصري والاردني في تحديد قصد معين من التعذيب ، الا انه اختلف عنهما في توسيع نطاق من يقع عليهم التعذيب، وتوسيع نطاق الغاية من التعذيب . فالمشرع العراقي لم يقصر وقوع التعذيب على متهم فقط بل اضاف اليه الشاهد والخبير ، ولم يقصر التعذيب بقصد حملهم على الاعتراف فقط بل يجوز ان يكون القصد للادلاء باقوال او معلومات او كتمان امر من الامور او اعطاء راي معين ، كل ذلك في جريمة معينة .
وبهذا يكون المشرع العراقي قد قرر حماية الحرية الفردية بما قرره من حماية السلامة البدنية والذهنية للافراد عندما نص على تجريم التعذيب الواقع من الموظفين مستغلين سلطة وظائفهم. الا ان ما يؤخذ على موقف المشرع العراقي هذا انه قصر تجريم التعذيب على غاية معينة هي حمل المجني عليه على الاعتراف بجريمة او اعطاء معلومات بشأنها وكان الاولى به تجريم التعذيب دون تقييده بغاية معينة لان التعذيب يمكن ان يقع من الموظف اعتمادا على سلطة وظيفته لغايات متعددة وليس لغاية واحدة أي يمكن ان يقع التعذيب لغاية خاصة بالجاني نفسه ، كضابط شرطة يصطحب احد خصومه من المواطنين الى دائرته (مركز الشرطة) لتسوية الخصومة معه كأن تكون مالية او غير ذلك من الامور الشخصية للضابط
ثم يامر الضابط احد رجاله بتعذيب الشخص للرضوخ لما يريده او يقوم هو بتعذيبه بنفسه مستغلا وظيفته وما تمنحه من سلطة على المجني عليه . اذن وقوع التعذيب من الموظف اعتمادا على سلطة وظيفته بغير قصد حمله على الاعتراف وانما لغايات اخرى انما هو امر متصور وقوعه من الموظف لذلك كان على المشرع العراقي عدم تقييد التعذيب بتحقيق غاية معينة .ويلاحظ ايضا ان المشرع العراقي نص على تجريم التعذيب ضمن جرائم تجاوز الموظفين حدود وظائفهم (9).
ولان موضوع تجريم التعذيب الواقع من الموظف اعتمادا على سلطة وظيفته يقصد به حماية السلامة البدنية والذهنية للافراد باعتباره احد دعامات الحرية الفردية فهو يقصد به حماية الحرية الفردية فكان الاجدر بالمشرع العراقي ان يجرم التعذيب ضمن جرائم العدوان على الحرية الفردية .
ب. طبيعة جريمة استعمال القسوة :
ان طبيعة جريمة استعمال القسوة تتنوع بحسب مصدرها ذلك ان القسوة التي تقع من ممثلي السلطة ضد الافراد اما ان تقع منهم باعتبارهم افراداً وهذا ما يتحقق في سائر الحالات التي تكون فيها هذه القسوة قد وقعت منهم تحقيقا لمصالحهم الشخصية وبالاستعانة بامكاناتهم الذاتية الفردية فيكون عدوانهم في هذه الحالة قد وقع باسمهم ولحسابهم باعتبارهم افرادا وبالنتيجة تطبق بحقهم القواعد الجنائية العادية المقررة للافراد باعتبار ان الاعتداء واقع على حق الفرد في الحياة والسلامة البدنية والذهنية في ذاته وباعتباره حقا مستقلا قائما بذاته .
اما اذا كانت القسوة قد استعملت ضد الافراد من ممثلي السلطة اعتمادا على سلطات الوظيفة وباستعمال امكاناتها فان العدوان يكون واقعا باسم السلطة ولحسابها لانه واقع من احد ممثلي السلطة اعتمادا على سلطة وظيفته فلا يجوز ان تكون المسؤولية الجنائية هي نفسها اذا وقع العدوان من فرد ضد فرد اخر لان العدوان يتوجه الى حق الفرد في السلامة البدنية والذهنية باعتباره احد دعامات الحرية الفردية وليس باعتباره حقا قائما بذاته (10) .
وقد نص المشرع المصري على جريمة استعمال القسوة الواقعة من ممثلي السلطة وحدد عقوبتها فنص على ان (كل موظف او مستخدم عمومي وكل شخص مكلف بخدمة عمومية استعمل القسوة مع الناس اعتمادا على وظيفته بحيث اخلّ بشرفهم او احدث الاما بابدانهم يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة او بغرامة لا تزيد على مائتي جنيه مصري ) (11).
ونص المشرع العراقي على جريمة استعمال القسوة بنفس اللفظ للنص المصري فقرر بان (يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة وبغرامة لا تزيد على مائة دينار او باحدى هاتين العقوبتين : كل موظف او مكلف بخدمة عامة استعمل القسوة مع احد من الناس اعتمادا على وظيفته فاخلّ باعتباره او شرفه او احدث الما ببدنه وذلك دون الاخلال باية عقوبة اشد ينص عليها القانون) (12) .
والملاحظ على النصين السابقين ان المشرع لم يقصر الحماية على المتهم او الشاهد او الخبير كما فعل في جريمة التعذيب بل اطلق الحماية للافراد كافة ضد اعتداءات ممثلي السلطة ، ولم يضع المشرع قصدا خاصا او غاية معينة او هدفا محددا من استعمال القسوة فالجريمة تقع سواء اكان هناك غاية معينة ام لم يكن كما ان جريمة استعمال القسوة تتحقق بالاخلال بالشرف واحداث الالام بالبدن أي ان الايذاء يكون بدنيا ، ولا يشترط فيه ان يكون شديدا او جسيما بل يكفي لقيام الجريمة ان يكون الايذاء بسيطا (13).
——————————————————————————————
[1]– انظر : سامي صادق الملا ، المصدر السابق ، ص 413 . ومحمد علي السالم عياد الحلبي ، المصدر السابق ، ص 280.
2- انظر : المادة (186) من قانون العقوبات الفرنسي .
3- المادة 186 عقوبات فرنسي : (Lorsqu ua fonctionnaireor un officier public … ، aura ، sans motif ligitime ، use ou faiet user de violence envers les personnes daus lexercice ou a loccasion de lexercice qe ses fonction IL sera puni … )) .
4- المادة (126) عقوبات مصري .
5- مثل المواد 240-243 عقوبات مصري التي تعالج الضرب والجرح عمدا .
6- المادة (208/1) عقوبات اردني .
7- المادة (208/2) عقوبات اردني .
8- المادة (333) عقوبات عراقي .
9- نص المشرع العراقي على جرائم تجاوز الموظفين حدود وظائفهم في الفصل الثالث ضمن الباب السادس بعنوان الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة ضمن الكتاب الثاني بعنوان الجرائم المضرة بالمصلحة العامة .
0[1]– انظر : محمد زكي ابو عامر ، الحماية الجنائية للحريات الشخصية ، المصدر السابق،ص ص 54-55.
1[1]– المادة (129) عقوبات مصري .
2[1]– المادة (332) عقوبات عراقي .
3[1]– انظر : صباح سامي داود ، المصدر السابق ، ص ص 91-92.