صور القرينة في قضاء النظام السعودي

صور القرينة في قضاء النظام السعودي.

وقيل: إنَّ القرينة هي: “الأَمَارة التي تدلُّنا على الأمر المجهول – استنباطًا، واستخلاصًا – من الأَمَارة المصاحبة والمقارنة لذلك الأمر الخَفِي المجهول، ولولاها لَما أمكَن التوصُّل إليه، فالبَعرة تدلُّ على البعير، وأثر السَّير يدلُّ على المسير”؛ الإثبات بالقرائن؛ لإبراهيم بن محمد الفايز (62).

وإعمال القرينة مشروع في الجملة؛ لأدلَّة كثيرة في الكتاب والسُّنة، وقضاء الخلفاء الراشدين وغيرهم.

وعن الأخْذ بالقرائن نقَل ابن فرحون – رحمه الله – في كتابه “تَبصرة الحُكَّام”، عن الإمام ابن العربي الفقيه المالكي قولَه: “على الناظر أن يَلحظ الأَمَارات والعلامات إذا تعارَضت، فما ترجَّح منها، مضـى بجانب الترجيح، وهو قوة التُّهمة، ولا خلافَ في الحُكم بها، وقد جاء العمل بها في مسائل اتَّفَقت عليها المذاهب الأربعة، وبعضها قال به المالكيَّة خاصَّة.

على أن ضبْطَ كلِّ الصور التي تَعمل فيها القرينة أمرٌ مُستبعد؛ إذ إنَّ الوقائع غير محدودة، والقضايا متنوِّعة، فيَستخلصها القاضي بفَهمه وذكائه، وإنما ذكَر العلماء جانبًا من الصور؛ للاستنارة بها، وللتدليل على اعتبار العلماء بالقرائن التي تولَّدت عنها، وهذا البعض منها:

الأولى: اعتماد الناس قديمًا وحديثًا على الصِّبيان والإماء المُرسَلة معهم الهدايا إليهم، فيَقبلون أقوالهم، ويأكلون الطعام المُرسل به.

الثانية: أنهم يعتبرون إذنَ الصِّبيان في الدخول للمنزل.

الثالثة: الشرب من المصانع الموضوعة على الطُّرقات؛ أي: أماكن جَمْع الماء للشرب والاستعمال من قِبَل عابري الطريق، وإن لَم يعلم الشارب إذنَ أربابها في ذلك لفظًا؛ اعتمادًا على دَلالة الحال.

الرابعة: القضاء بالنُّكول، واعتباره في الأحكام، وليس ذلك إلاَّ رجوعًا إلى مجرَّد القرينة الظاهرة، فقُدِّمت على أصل براءة الذِّمة.

الخامسة: جواز دَفْع اللُّقَطة لواصف عِفاصها ووِكائها.

السادسة: معرفة رضا البِكر بالزوج بصُماتها.

السابعة: حُكم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وخلفائه من بعده بالقافة، وجَعْلها دليلاً على ثبوت النَّسب، وليس فيها إلا مجرَّد الأَمَارات والعلامات.

الثامنة: قصة قاتلي أبي جهل، حين قال كلُّ واحدٍ منهما: أنا قتَلته، فقال – صلى الله عليه وسلم -: ((هل مَسحْتُما سيفَيكُما؟))، قالا: لا، فنظَر في السيفين، فقال: ((كلاكما قتَله، سَلَبُه لمعاذ بن عمرو بن الجموح))، والقصة في الصحيحين.

التاسعة: ما ذهَب إليه مالك وأحمد – رحمهما الله تعالى – من أنه لا يُقبل قول المرأة أنَّ زوجها لَم يكن يُنفق عليها فيما مضى من الزمان، وهما في بيتٍ واحد؛ لأن ذلك قرينة دالَّة على كذبها.

نَخلص من هذا أيها الإخوة والأخوات، إلى أنَّ إعمال القرائن في التقاضي مطلوب، فما كلُّ مُدَّعٍ يَملك بيِّنة قاطعة، ولكن قد توجَد أَمَارات وعلامات وقرائنُ، تُقوِّي الدعوى، أو تُضعِفها، فيحتجُّ بها أحد أطراف الدعوى، وللقاضي مجال رحبٌ في التعامل مع القرائن وَفْق الضوابط والشروط التي يَلزم توفُّرها في القرينة، بأن تكون واضحة الدلالة، خالية مما يُناقضها، وألاَّ يكون ثَمَّة بيِّنة أو قرينة أقوى منها، مما يَلزم الأخْذ به أولاً.

ولذا وجَب على القاضي التنبُّه للقرائن وإعمالها بعد تَمحيصها، والاطمئنان إلى عدم ما يُناقضها.

قال الإمام ابن القيِّم في الطُّرق الحكمية (1 / 4):
“فالحاكم إذا لَم يكن فقيهَ النفْس في الأَمَارات، ودلائل الحال، ومعرفة شواهده، وفي القرائن الحاليَّة والمقاليَّة، كفِقْهه في جزئيَّات وكليَّات الأحكام – أضاع حقوقًا كثيرة على أصحابها، وحكَم بما يعلم الناس بُطلانه، لا يشكُّون فيه؛ اعتمادًا منه على نوعٍ ظاهر لَم يَلتفت إلى باطنه وقرائن أحواله، فها هنا نوعان من الفقه، لا بدَّ للحاكم منهما: فقه في أحكام الحوادث الكليَّة، وفِقه في نفس الواقع وأحوال الناس، يُميِّز به بين الصادق والكاذب، والمُحق والمُبطل”.

ولندلف الآن إلى ما ورَد في نظام المرافعات السعودي الصادر عام 1421هـ في الفصل الثامن من الباب التاسع من الحديث عن القرائن.

ففي المادة الخامسة والخمسين بعد المائة:
(يجوز للقاضي أن يَستنتج قرينةً أو أكثر من وقائع الدعوى، أو مناقشة الخصوم أو الشهود؛ لتكون مستندًا لحُكمه، أو ليُكمل بها دليلاً ناقصًا، ثبَت لديه؛ ليُكوِّن بهما معًا اقتناعه بثبوت الحقِّ لإصدار الحكم).

وأوضَحت اللائحة التنفيذية للمادة أنَّ على القاضي عند استنتاجه للقرينة – أن يُبيِّن وجه دلالتها؛ وذلك لكونها خاضعةً للمناقشة من قِبَل الخصوم؛ ولذا جاء في المادة التالية لها وهي المادة السادسة والخمسون بعد المائة: (لكلٍّ من الخصوم أن يُثبت ما يُخالف القرينة التي استنتَجها القاضي، وحينئذٍ تَفقد القرينة قيمتَها في الإثبات).

وقد سبَق معنا أنَّ القرينة استنباطٌ واجتهاد من القاضي، فللخصوم الاعتراضُ على هذا الاستنباط بذِكر الأوجه الأخرى، التي تَنقض ما ذهَب إليه القاضي من الاستنتاج.

ومن أمثلة القرائن القضائية في منازعات العقار:
وَضْعُ اليد على العقار، والتصرُّف في العقار، مع مشاهدة الغير لهذا التصرُّف والسكوت عنه، فللقاضي أن يَستنبط من ذلك ثبوت تَملُّك واضع اليد والمتصرِّف فيه، وللخصم أن يَنقض هذا الاستنباط بذِكر عُذرٍ شرعي منَعه من مطالبة واضع اليد أو المتصرِّف في العقار، كما لو كان مُقيمًا خارج البلد، ونحو ذلك.

وأما المادة السابعة والخمسون بعد المائة، فقد بيَّنت نموذجًا من القرائن، التي يُمكن الاستدلال بها، ونصُّها:(حيازة المنقول قرينة بسيطةً على ملكيَّة الحائز له عند المنازعة في الملكية، ويجوز للخصم إثباتُ العكس).

وأوضَحت اللائحة التنفيذية للمادة أنَّ حيازة المنقول قرينة بسيطة على ملكيَّة الحائز، يُستند عليها في الحُكم مع يمين الحائز عند عدم البيِّنة.

وأُشير إلى أنَّ المقصود بكون حيازة المنقول “قرينةً بسيطة”؛ أي: إنها ليستْ قرينةً قاطعة كافيةً في الإثبات، وإنما قرينة متوسطة الدلالة، وهي قابلة لإثبات عكسها، فلو أثبَت الخَصم تملُّكه للمنقول ببيِّنة قاطعة، حُكِم له بها، ولَم يُلتَفت إلى قرينة الحيازة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *