لمحات حول الوصية للأقارب غير الوارثين – دراسة مقارنة

لمحات حول الوصية للأقارب غير الوارثين – دراسة مقارنة

 

حكم الوصية للأقارب الغير وارثين
لعلماء رحمهم الله تعالى في ذكرهم لهذه المسألة على فريقين :
الأول : ذكر المسألة على أنها قولين الوجوب والجواز فقط كما فعل ابن حزم رحمه الله تعالى
الثاني : ذكر المسالة على أنها متفق بين أهل العلم في جواز الوصية للأقارب الغير وارثين ولكن اختلفوا فيمن أوصى لغيرهم وتركهم على ثلاثة أقوال كما فعل ابن قدامه رحمه الله تعالى في المغني وأبوبكر ابن المنذر رحمه الله تعالى في كتابة الأوسط
ومع هذا يمكن أن تجعل المسألة على قولين ويجعل عند القول القائل بالوجوب طريقة العمل فيمن أوصى للأجنبي وترك أقاربه الغير وارثين ولهذا ابن حزم رحمه الله تعالى لما ذكر القول بالوجوب وذكر آثار من قال بالوجوب من السلف تجد فيها بيان طريقة العمل فيمن أوصى للأجنبي وترك أقاربه الغير وارثين . وعلى هذا سيكون العمل في هذا البحث بهذه الطريقة والله اعلم

سبب الخلاف :
سبب الخلاف والله أعلم هو خلافهم رحمهم الله تعالى في قوله تعالى ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين … الآية ) هل آية محكمة فتكون عامة معناها الخصوص أو منسوخة بآية المواريث مع قوله صلى الله عليه وسلم ( إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث )

الأقوال في المسألة :
القول الأول :
تجوز الوصية للأقارب الغير وارثين فإن أوصى لغيرهم وتركهم صحت وصيته . ولكن الأئمة الحنابلة قيدوا ذلك بأن يكون القريب الغير وارث فقير وهو قول عامة أهل العلم منهم سالم بن عبدالله بن عمر وسليمان بن يسار وعطاء ومحمد ابن سيرين وعبيد الله بن عبدالله بن معمر وسعيد بن المسيب ومالك بن أنس وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبي حنيفة وأصحابه . قال ابن المنذر في الأوسط ( أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين اللذين لا يرثان المرء والأقرباء الذين لا يرثونه جائزة لا أعلمهم يختلفون فيه )

أدلتهم :
الدليل الأول : أن آية المواريث وقوله صلى الله عليه وسلم ( إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث ) نسخت حكم قوله تعالى ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين … الآية )

الدليل الثاني : حديث عمران ين الحصين أن رجلا من الأنصار أعتق ستة أعبد له عند موته ، ولم يكن له مال غيرهم . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : له : قولا شديدا . ثم دعاهم فجزأهم ، ثم أقرع بينهم . فأعتق اثنين ، وأرق أربعة . رواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى . وغيره
وجه الدلالة : أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز العتق في ثلثه لغير قرابته
أعترض عليه باعتراضين :
الأول : قال ابن حزم رحمه الله تعالى : وهذا لا حجة له فيه لأنه ليس فيه بيان أنه كان بعد نزول الآية المذكورة ونحن لا نخالفهم في أن قبل نزولها كان للمرء أن يوصي لمن شاء فهذا الخبر موافق للحال المنسوخة المرتفعة بيقين لا شك فيه قطعاً فحكم هذا الخبر منسوخ بلا شك والآية رافعة لحكمه ناسخة له بلا شك …..
الثاني : قال ابن حزم رحمه الله تعالى … وأيضا فليس فيه أن ذلك الرجل كان صليبه من الأنصار وكان له قرابة لا يرثون فإذ ليس ذلك فيه فممكن أن يكون حليفاً أتيا لا قرابة له فلا حجة لهم فيه ولا يحل القطع بالظن ولا ترك اليقين له .

الدليل الثالث : حديث يحيى بن عبدالله بن أبي قتادة عن أبيه { أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة سأل عن البراء بن معرور فقالوا توفي وأوصى بثلثه لك يا رسول الله وأوصى أن يوجه إلى القبلة لما احتضر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب الفطرة وقد رددت ثلثه على ولده ثم ذهب فصلى عليه فقال اللهم اغفر له وارحمه وأدخله جنتك وقد فعلت . رواه الحاكم وصححه والبيهقي وصححه ابن الملقن في تحفة المحتاج وابن كثير في إرشاد الفقيه وأعله الألباني بعلتين بضعف نعيم ابن حماد أحد الرواة والإرسال إرواء الغليل 3/152
وجه الدلالة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل وصيته ثم ردها على ورثته
الدليل الرابع : حديث النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث ) رواة أحمد وأبو داود والترمذي وهو حديث صحيح . إرواء الغليل 6/88
وجه الدلالة : فيه دلالة على إباحة الوصية لغير الوارث من كان قريباً أو بعيداً

الدليل الخامس : أن الصدقة عليهم حال الحياة أفضل فكذلك بعد الموت

القول الثاني :
تجب الوصية للأقارب الغير وارثين وهو قول ابن عباس و سعيد بن المسيب والحسن وجابر بن زيد ومسروق وطاوس والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد وسعيد بن جبير والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان واختاره ابن حزم والسعدي ابن عثيمين رحمة الله على الجميع
ثم اختلفوا رحمهم الله تعالى فيمن تركهم وأوصى للأجنبي على قولين
الأول : أن الوصية لا تنفذ ولا يعطى الأجنبي شيء ويعطى ما أوصى به إلى أقاربه الغير وارثين
الثاني : أن الوصية تقسم على أقاربه الغير وارثين والأجنبي وذلك بأن يجعل ثلث الثلث للموصى له الأجنبي وثلثا الثلث يكون لقرابته الغير وارثين

أدلتهم :
في الحقيقة لم أطلع إلا على دليل واحد لهم رحمهم الله تعالى وذلك بحسب المصادر التي عندي .
وهذا الدليل هو قول الله تعالى [ كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِين ]
وجه الدلالة : أن هذه الآية نسخت بآية المواريث لكن النسخ وقع في حق الوالدين والأقارب الوارثين أما في حق الوالدين والأقارب الغير وارثين بسبب حجب أو حرمان فلم ينسخ وجوب الوصية في حقهم .

الترجيح :
الذي يظهر والله أعلم هو القول الأول وذلك لما يلي
1- حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حيث قال عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ، من شكوى أشفيت منها على الموت ، فقلت : يا رسول الله ، بلغ بي ما ترى من الوجع ، وأنا ذو مال ، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة ، أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : ( لا ) . قلت : فبشطره ؟ قال :
( الثلث كثير ، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت ، حتى ما تجعل في في امرأتك ) رواه البخاري ومسلم .
فالحديث يدل على جواز الوصية للأقارب الغير وارثين من وجهين :
الوجه الأول : أن سعد رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه سلم ( أفأتصدق ) والصدقة تشمل الأقارب الغير وراثين وتشمل الفقراء والمساكين وغيرهم ولذا في بعض روايات الحديث كما في مسند الأمام أحمد وصحح أحمد شاكر ( أنه رضي الله عنه قال : فقال لي : أوصيت قال : قلت نعم جعلت مالي كله في الفقراء والمساكين وابن السبيل ) ولو كان الوصية للأقارب الغير وارثين واجبة لبينه صلى لله عليه وسلم حيث لا يجوز تأخيره
الوجه الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره أن يجعل وصيته في أقاربه الغير وارثين لأن هذا مما لا يجوز فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة وخصوصاً إذا كانوا فقراء ولا يقال لم يحتج النبي صلى الله عليه وسلم لبيانه لأنه كان معروف عندهم رضي الله عنهم لأنه لو كان معروف عندهم لكان نقل نقلاً مستفيضا حيث إن الوصية مما تعم به البلوى

2- حديث أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث )
فالحديث يدل على جواز الوصية للأقارب الغير وارثين من وجهين :
الوجه الأول : أن الوصية للقريب الغير وارث لو كانت واجبة لبين ذلك صلى الله عليه وسلم حيث لا يجوز تأخيره عن وقته وهو مما تعم به البلوى
الوجه الثاني : ما ذكره أصحاب القول الأول أن قوله صلى الله عليه وسلم ( لا وصية لوارث ) يدل على إباحة الوصية لغير الوارث من كان قريباً أو بعيداً

3- الدليل الخامس للقول الأول وهو أن الصدقة عليهم حال الحياة أفضل فكذلك بعد الموت . حيث الصدقة عليهم حال الحياة ليست واجبة فما الفارق بينهما إذاً وخصوصاً أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الصدقة حال الحياة فيها صلة وقرابة وأيضا يضاف إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما في البخاري ومسلم لما سئل أي الصدقة أعظم أجراً قال : ( أن تصدق وأنت صحيح شحيح ، تخشى الفقر وتأمل الغنى ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم ، قلت : لفلان كذا ، ولفلان كذا ، وقد كان لفلان ) فكيف نجعل الوصية لهم بعد الموت أفضل بل القول أنها واجبة
وعلى هذا تكون هذا الأمور المرجحة للقول الأول هي التي صرفت القول من الوجوب إلى الجواز
تتمة :

 الدليل الثاني للقائلين بالجواز
1- وهو حديث عمران بن الحصين رضي الله عنه فليس فيه دلالة واضحة على جواز الوصية للأقارب الغير وارثين لقوة الاعتراض الثاني للإمام ابن حزم رحمه الله تعالى أما الاعتراض الأول فلا يمكن التسليم له رحمه لله تعالى وذلك أن يتبين من كلامه رحمه الله تعالى أنه ليس ثمة دليل واضح وصريح يبين تاريخ ورود الحديث فعليه فإن كان وروده قبل نزول الآية فهو كما قال رحمه الله تعالى وإن كان بعد نزول فيعتبر ناقل من القول بالوجوب إلى القول بالجواز
ثم بعد ذلك الذي يفهم من الحديث والله تعالى أعلم أنه يتكلم عن مسألة الزيادة على الثلث في الوصية وليس في حكم الوصية للأقارب الغير وارثين ويدل على ذلك ما يلي :
أ‌- غضب النبي صلى الله عليه وسلم من فعله حيث أوصى بماله كله ولم يترك للورثة شيء ولهذا جاء في رواية الإمام أحمد رحمه الله تعالى ( أنه جاء ورثته من الأعراب فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صنع فقال : أو فعل ذلك لو علمنا إن شاء الله ما صلينا عليه ) ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد
ب‌- أن الإمام أبو داود رحمه الله تعالى بوب لهذا الحديث بقوله : باب فيمن أعتق عبيداً له لم يبلغهم الثلث .

2- الدليل الثالث للقائلين بالجواز فلا يمكن الاستدلال به لضعفه كما بين ذلك الألباني رحمه الله تعالى أحسن بيان في الإرواء الغليل 6/88

3- قال الواحدي رحمه الله في تفسيره البسيط 3/548 ( والأكثرون من العلماء _ وهو الذي يعمل به اليوم _ على أن حكم الآية كله منسوخ ولا تجب على أحد وصية لأحد قريب ولا بعيد وإذا أوصى فله ن يوصي لكل من شاء من الأقارب والأباعد إلا الوارث قال أبو عبيد : وعلى هذا القول أجمعت العلماء من أهل الحجاز وتهامة والعراق والشام منهم سفيان ومالك والأوزاعي والليث وجميع أهل الآثار والرأي وهو القول المعمول به أن الوصية جائزة للناس كلهم ما خلا الورثة غير واجبة . )

4- قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره (ومنهم من قال: إنها منسوخة فيمن يرث، ثابتة فيمن لا يرث، وهو مذهب ابن عباس، والحسن، ومسروق، وطاوس، والضحاك، ومسلم بن يَسَار، والعلاء بن زياد قلت: وبه قال أيضًا سعيدُ بن جُبَير، والربيع بن أنس، وقتادة، ومقاتل بن حيان. ولكن على قول هؤلاء لا يسمى هذا نسخا في اصطلاحنا المتأخر؛ لأن آية الميراث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصاية، لأن “الأقربين” أعم ممن يرث ومن لا يرث، فرفع حكم من يرث بما عين له، وبقي الآخر على ما دلت عليه الآية الأولى. وهذا إنما يتأتى على قول بعضهم: أن الوصاية في ابتداء الإسلام إنما كانت ندبا حتى نسخت. فأما من يقول: إنها كانت واجبة وهو الظاهر من سياق الآية فيتعين أن تكون منسوخة بآية الميراث، كما قاله أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء فإنّ وجوب الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخ بالإجماع. بل منهي عنه للحديث المتقدم: “إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث”. فآية الميراث حكم مستقل، ووجوب من عند الله لأهل الفروض وللعصبات ، رفع بها حكم هذه بالكلية. بقي الأقارب الذين لا ميراث لهم، يستحب له أن يُوصَى لهم من الثلث، استئناسًا بآية الوصية وشمولها، ولما ثبت في الصحيحين، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده”. قال ابن عمر ما مرت عَلَيّ ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي والآيات والأحاديث بالأمر ببر الأقارب والإحسان إليهم، كثيرة جدا. )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *