الإثبات والشروط البديهية والأساسية في القانون المدني المصري

الإثبات والشروط البديهية والأساسية في القانون المدني المصري

 

الشروط الواجب توافرها في محل الاثبات:
طائفتان من الشروط
شروط بديهية. شروط أساسية:-
الواقعة منتجة في الإثبات.الواقعة متعلقة بالحق المطالب به.الواقعة جائزة الاثبات قانونا.

 طائفتان من الشروط:
والواقعة المراد إثباتها يجب أن تتوافر فيها جملة من الشروط، يمكن تقسيمها إلى طائفتين : (1) طائفة من الشروط بداهتها تغني عن الإطالة فيها ، وهي أن تكون الواقعة محددة (déterminé) وغير مستحيلة (comteste) . (2) وطائفة أخري (انتقلت نصوص الاثبات إلى قانون مستقل هو قانون الاثبات في المواد المدنية والتجارية) نصت عليها المادة 156 من تقنين المرافعات الجديد علي الوجه الآتي : (( يجب أن تكون الوقائع المراد إثباتها متعلقة بالدعوي ، منتجة فيها ، جائزاً قبولها )) .

 شروط بديهية:
أما أن تكون الواقعة المراد إثباتها محددة فهذا بديهي ، فالواقعة غير المحددة لا يستطاع إثباتها . ولو أن شخصاً طالب بدين أو بملكية وأسس دعواه علي عقد لم يحدد ماهيته ، أهو بيع أو صلح أو قسمة أو غير ذلك من العقود التي يصح أن تكون مصدراً للدين أو سبباً للملكية ، فان الواقعة التي يريد إثباتها لا تكون محددة تحديداً كافياً ، فلا يصح السماح بإثباتها إلا بعد أن تحدد . وكون الواقعة محددة تحديداً كافياً مسألة موضوعية تخضع لرقابة محكمة النقض.

وأما أن تكون الواقعة المراد إثباتها غير مستحيلة ، فهذا أيضاً بديهي ، فالمستحيل لا يصح عقلا طلب إثباته . والاستحالة ترجع إلى أحد أمرين : إما استحالة التصديق عقلا وإما استحالة الإثبات . فالأولي كالعمي يدعي أنه رأي هلال رمضان ، والمنجم يدعي أنه أوتي علم الغيب ولا يعلم الغيب إلا الله ، ومجهول النسب يدعي بنوته إلى من لا يكبره في السن . والثانية ترجع إلى أن الواقعة المراد إثباتها هي في ذاتها قابلة للتصديق عقلا ولكن لا سبيل إلى إثباتها ، كمن يدعي واقعة مطلقة بأن يقول أنه لم يكذب قط أو أنه يؤدي فريضة الصلاة طوال حياته . فهاتان واقعتان إحداهما سلبية والأخرى إيجابية ، وكلتاهما واقعة مطلقة هي متصورة التصديق ولكن إثباتها مستحيل ، فلا يجوز قبولها واقعة للإثبات . ولا يرجع ذلك إلا إلى أن الواقعة مطلقة اي خالية من التحديد. ومن ثم تري أن استحالة الاثبات تتلاقى مع عدم التحديد ، ويصبحان شرطاً واحداً . فالواقعة يجب أن تكون محددة كما قدمنا ، فان لم تكن محددة لا يجوز قبولها للإثبات ، لا لأنها غير محددة فحسب ، بل لأنها أيضاً يستحيل إثباتها . ومن ثم نري أيضاً أن استحالة الإثبات ترجع إلى عدم تحديد الواقعة لا إلى أنها واقعة سلبية . فالواقعة السلبية المحددة ـ كالواقعة الإيجابية المحددة لا يستحيل إثباتها ، فيجوز قبولها للإثبات . مثل ذلك شخص يطالب آخر برد غير المستحق وثبت أنه لم يكن مديناً بما دفعه للمدعي عليه ، فهنا الواقعة السلبية محددة ، وهي عدم المديونية في دين معين ، وما علي المدعي إلا أن يثبت أن هذا الدين الذي دفعه مصدره عقد باطل أو عقد قد فسخ أو أن الدين قد سبق الوفاء به أو نحو ذلك. هذا وكون واقعة المراد إثباتها مستحيلة التصور عقلا أو مستحيلة الإثبات مسألة موضوعية ، ولكن محكمة النقض تستطيع أن تنفذ إلى بسط قدر من الرقابة من طريق القصور في التسبيب .

ويجب أخيراً أن تكون الواقعة المراد إثباتها غير معترف بها . وهذا أيضاً شرط بديهي ، إذ لا محل لإثبات واقعة معترف بها . فالاعتراف إقرار ، والإقرار كما سنري إعفاء من الإثبات ، فتكون الواقعة محل الادعاء قد أعفي مدعيها من إثباتها فأصبحت بذلك ثابتة  . لذلك يكون الأصح القول إن الواقعة المعترف بها قد أصبحت ثابتة ، لا أنها واقعة غير قابلة للإثبات . ويتضح الفرق بين القولين في أن الواقعة المعترف بها لا تصبح ثابتة إلا بالنسبة إلى المقر إذ الإقرار حجة قاصرة عليه ، أما بالنسبة إلى الغير فلم يقم الدليل عيها ومن ثم يصح إثباتها ، ولو كانت غير قابلة للإثبات لما صح ذلك ( . وغني عن البيان أن البت في كون الواقعة معترفاً بها مسألة موضوعية لا رقابة فيها لمحكمة النقض .

 شروط أساسية:
ونعرض الآن للشروط الأساسية التي ورد ذكرها في المادة 156 من تقنين المرافعات الجديد(انتقلت نصوص الاثبات إلى قانون مستقل هو قانون الاثبات في المواد المدنية والتجارية) ، وهي الشروط الثلاثة الآتية :
(1) أن تكون الواقعة المراد إثباتها متعلقة بالحق المطالب به (pertinent) .
(2) أن تكون منتجة في الإثبات (concluant) .
(3) أن تكون جائزة الإثبات قانوناً (admissible)  .

 الواقعة متعلقة بالحق المطالب به:
إذا كانت الواقعة المراد إثباتها هي ذاتها مصدر الحق المطالب به ، كما إذا تمسك البائع بعقد البيع لمطالبة بالثمن فيكون عقد البيع هو ذاته مصدر التزام المشتري بالثمن ، فان الواقعة في هذه الحالة لا يمكن إلا أن تكون معلقة بالحق المطالب به وهو في الوقت عينه منتجة في الإثبات . ومن ثم لا يظهر ظهوراً واضحاً أهمية هذين الشرطين ـ كون الواقعة متعلقة بالحق وكونها منتجة في الإثبات ـ في هذه الحالة وهو حالة الإثبات المباشر (prevue directe) . وإنما تظهر أهميتهما في حالة الإثبات غير المباشر (prevue indirecte) ، إذا انصب الإثبات ، لا علي الواقعة ذاتها مصدر الحق ، بل علي واقعة أخري قريبة منها . ذلك أن الإثبات غير المباشر يقوم علي فكرة تحويل الدليل (déplacement de prevue) من الواقعة الأصيلة إذ يتعذر إثباتها إلى واقعة بديلة هي التي يتيسر فيها الإثبات .

فلا بد في هذه الحالة ـ حالة الإثبات غير المباشر بتحويل الدليل ـ أن تكون الواقعة البديلة ، وهي الواقعة المراد إثباتها ، لا قريبة (voisin) من الواقعة الأصيلة فحسب ، بل يجب أيضاً أن تكون متصلة (connexe) بها اتصالا وثيقاً . وهذا الاتصال الوثيق هو الذي يجعل الواقعة المراد إثباتها متعلقة بالحق المطالب به ، إذ أن اتصالها بالواقعة الأصيلة التي هي مصدر الحق يجعل إثباتها متعلقاً بإثبات الواقعة الأصيلة ، فيصبح إثبات الواقعة البديلة من شأنه أن يجعل إثبات الواقعة الأصيلة قريب الاحتمال .

مثل ذلك أن يقدم المستأجر مخالصات بأجرة عن جميع المدد السابقة علي المدة التي يطالبه المؤجر بأجرتها ، ويرمي من وراء ذلك أن يثبت أنه يدفع الأجرة بانتظام ولم يخل بالتزامه طوال المدد السابقة . فهذه واقعة متصلة بواقعة الوفاء بالأجرة عن المدة المطالب بأجرتها ، فهي إذن متعلقة بالدعوي . ولكنها غير منتجة في الإثبات ، لن دفع الأجرة عن مدد سابقة لا يفيد دفعها عن مدة لاحقة وقد تكون الواقعة المراد إثباتها متعلقة بالدعوي ومنتجة أيضاً في الإثبات ، كأن يقدم المستأجر مخالصات بالأجرة عن مدد لاحقة للمدة التي يطالب المؤجر بأجرتها ، فهذه واقعة ليست هي ذاتها واقعة الوفاء بالأجرة المطالب بها بل هي واقعة متصلة بها فهي متعلقة بالدعوي ، ثم هي منتجة في الإثبات فإن التقنين المدني الجديد (م 587) يعتبرها قرينة علي الوفاء بالأجرة المطالب بها إلا إذا أثبت المؤجر عكس ذلك .
وكون الواقعـة متعلقـة بالدعـوي مسألـة موضوعية لا تخضـع لرقابة محكمـة النقض .

 الواقعة منتجة في الإثبات:
رأينا في المثلة المتقدمة متى تلون الواقعة متعلقة بالدعوي ومتى تكون منتجة في الإثبات . فالواقعة المتعلقة بالدعوي هي الواقعة البديلة التي يكون إثباتها من شأنه أن يجعل إثبات الواقعة الأصيلة قريب الاحتمال . والواقعة المنتجة في الإثبات هي الواقعة البديلة التي يؤدي إثباتها إلى إثبات الواقعة الأصيلة . ويتبين من ذلك أن إنتاج الواقعة في الإثبات مرتبة أعلي من تعلق الواقعة بالدعوي . فكل واقعة متعلقة بالدعوي لا تكون ضرورة منتجة في الإثبات ، ولكن كل واقعة منتجة في الإثبات تكون حتماً متعلقة بالدعوي . فمن طالب بملكية عين وتقدم بواقعة التقادم الطويل سبباً لملكية ، إذا أدعي أنه حاز العين مدة لا تقل عن خمس عشرة سنة ، فهذه واقعة منتجة في الإثبات ، بل هي الواقعة الأصيلة ذاتها ، وهي بالضرورة متعلقة بالدعوي . أما إذا ادعي أن حيازته للعين كانت لمدة تقل عن خمس عشرة سنة ، فهذه واقعة متعلقة بالدعوي ولكنها غير منتجة في الإثبات .

وقد يقال لماذا يشترط في الواقعة هذان الشرطان معاً ، وأحدهما ـ وهو الإنتاج ـ يستغرق الآخر ، فكان يكفي أن يشترط وحده ؟ وهذا صحيح من الناحية النظرية . وكان يحسن ، من الناحية العملية ، فصل الشرطين أحدهما عن الآخر . فقد يطلب الخصم إثبات هذه الواقعة قبولا مبدئياً ،حتي إذا تبين فيما بعد أنها غير منتجة في الإثبات رفض القاضي استمرار السير في إثبات الواقعة أو أضاف إلىها وقائع أخري تتساند معها . أما إذا أدمج الشرطان في شرط واحد ، وكان لا بد من أن تكون الواقعة منتجة من مبدأ الأمر ، لم يستطع القاضي قبول إثبات الواقعة قبولا مبدئياً ، فيتعطل بذلك طريق الإثبات .

وكون الواقعة منتجة في الإثبات مسألة موضوعية لا تخضع لرقابة محكمة النقض إلا من حيث قصور التسبيب . أما إذا بني عدم الإنتاج في الإثبات علي أسباب قانونية ، كأن كانت الواقعة المراد إثباتها إنما تنسب إذا صحت إلى مالك البناء لا إلى حارسه والمسئول قانوناً هو الحـارس لا المالك ، أصبــح الأمـر متعلقـاً بمسألة من مسائـل القانون مما يخضع لرقابــة محكمة النقض.

الواقعة جائزة الاثبات قانونا:
ويجب أخيراً أن تكون الواقعة جائزة الإثبات قانوناً . والقانون قد لا يجيز إثبات واقعة تحقيقاً لأغراض مختلفة . ومن هذه الأغراض ما يمت إلى النظام العام والآداب ، كالمحافظة علي سر المهنة وتحريم دين المقامرة والربا الفاحش وبيع المخدرات وعدم جواز إثبات صحة القذف ونحو ذلك . وقد تمت هذه الأغراض إلى الصياغة الفينة ، كما هو الأمر في الوقائع التي تصطدم مع قرينة قاطعة قررها القانون . مثل ذلك حجية الأمر المقضي ، فلا يجوز إثبات واقعة مخالفة لما هو ثابت في حكم قضائي . ومثل ذلك أيضاً أن يطلب حارس الشيء إثبات أنه لم يرتكب خطأ مع أن القانون يقيم مسئوليته علي خطأ في جانبه مفروض فرضاً غير قابل لإثبات العكس . وكون الواقعة جائزة الإثبات قانوناً مسألة قانون تخضع لرقابة محكمة النقض، لأن عدم جواز إثبات الواقعة يرجع دائماً إلى حكم في القانون يمنع من هذا الإثبات . وهذا بخلاف كون الواقعة متعلقة بالدعوي وكونها منتجة في الإثبات ، فقد رأينا أنها في الأصل مسائل موضوعية لا تخضع لرقابة محكمة النقض

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *