بحث رائع في المرافعه وآدابها (هااام للمحامي حديث التخرج)

بحث رائع في المرافعه وآدابها (هااام للمحامي حديث التخرج)

 

استهلال
الحمد لله الأول بلا ابتداء, والآخر بلا انتهاء, العظيم سلطانه, الساطع برهانه, معجز البلغاء قرآنه القائل {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} والصلاة والسلام على من رفع الله له قدرا, وساد البرية طـُرّا, القائل {إن من البيان لسحرا}

أما بعد: فإن لي عشقاً قديماً باللغة العربية, وآدابها فلا يطربني شيءٌ أكثر من الشعر, ولا يشدني شيء أكثر من الخطابة. ولقد جرت الرياح بما يشتهي السَّـفِـنُ, فلقد خيرت بين خمسة مواضيع أحدها عنوان هذا البحث ولما كان له أوثق الصلة بالمعشوقة لم أتردد لحظة في اختياره.

فالمرافعة هي الكـُوَّة(1) التي يمكن لعضو ادعاء عام له شغف بالعربية أن يطل من خلالها على اللغة وآدابها, وهذا وإن لم يكن هو كل ما حملني على اختيار هذا الموضوع إلا أنه أحد أهم الأسباب.

إنني قبل الالتحاق بالادعاء العام كنت أسمع عن المرافعة من خلال الأعمال الفنية المرئية أو المسموعة أو المقروءة, ولقد رسمت تلك الأعمال صورة معينة في ذهني إلا أني لم أجدها في الواقع العملي بعد التحاقي بالعمل ومعاينة الواقع وهذا سبب آخر.

كما أنني لم ألمس – على الأقل عند زملائي – تصوراً واضحاً ودقيقاً للمرافعة بمعناها القانوني فهل ما يجري في المحاكم من مداخلات لأطراف الدعوى هي المرافعة؟ أم هي الردود التي يرد بها بعضهم على بعض؟أم هي ما يبديه المحامون وأعضاء الادعاء العام في جميع الجلسات المخصصة لقضية ما, هي المرافعة؟ أم أن المرافعة هي ذلك القالب الخطابي الأدبي القانوني الذي
فيه كل طرف من أطراف الخصومة سيف بيانه ليصل به إلى الحق الذي ينشده و يذود عنه؟ إذن هناك أسئلة عديدة… فما المرافعة؟ وما آدابها؟ وهل هي ملكة عند أشخاص موهوبين؟ أم أنها تطيع كل من أراد قبض زمامها؟ لقد وجدت هذه الأسئلة في نفسي مقدمات فعزمت أن أضع هذا البحث كجواب لها, فعساني أبلغ ما ابتغيت, وإلا فحسبي أجر المجتهد.

المرافعة القانونية كما سيأتي تعريفها لاحقاً متصورة من أشخاص ثلاثة هم: 1- عضو الادعاء العام ممثلاً للحق العام. 2- المحامي بصفته وكيلاً عن الخصوم سواء كان محامي المتهم أو المجني عليه أو المدين بالحق المدني أو المسؤول عنه. 3- الخصم نفسه إذا لم يقم وكيلاً عنه.

ومراعاة لشرط البحث المتعلق بعدد صفحاته, وتركيزاً للجهد في الوصول إلى ما يصبو إليه الباحث وما يعنيه ومجموعته في عملهم في المقام الأول، فلقد رأيت الاقتصار على تناول الموضوع من جهة مرافعة أعضاء الادعاء العام فقط.

سيبدأ البحث بتوطئة أعرض فيها لتاريخ المرافعة والتفريق بينها وبين المرافعة المدنية.
ثم سنتناول موضوع البحث من
خلال أربعة مطالب رئيسة مقسمة على النحو الآتي:
المطلب الأول نخصصه لبحث ضرورة المرافعة , وأحاول التوسع فيه لأن الاقتناع بضرورة المرافعة سيدفع القارئ الكريم إما إلى مواصلة قراءة البحث بعناية أو طي دفتيه. وسيقع المطلب في فرعين يكون الأول لبحث الجانب القانوني لضرورة المرافعة والثاني لبحث ضرورتها الأدبية.
وفي المطلب الثاني أتناول تعريف المرافعة لغة واصطلاحاً وأسهم في الموضوع بمحاولة لوضع تعريف دقيق للمرافعة.
وفي المطلب الثالث أعرض لبناء المرافعة وأقسمه إلى ثلاثة أفرع يكون الأول لدراسة لغة المرافعة والثاني لبيان عناصرها والثالث لإظهار أساليبها.
وأخصص المطلب الرابع لآداب المرافعة محاولاً تحديد الأساسي منها على شكل نقاط متوالية. وقد راعيت قدر المستطاع تسلسل الموضوع عند ترتيب المباحث ليكون اللاحق منها مكملاً لفكرة السابق.
أخيراً…وبعد ما تفتحت عيني على عظم شأن هذا الموضوع وتوافقه مع اتجاهي وميولي فإني عازم على أن يكون لهذا العمل ما بعده عملاً وقولاً.

وقبل البدء أقول:-
وأن تجد عيباً فسد الخللا فجل من لا عيب فيه وعلا(1)

ملاحظة:
خدم هذا البحث باستبيان أجريته على شريحة مكونة من بعض أصحاب الفضيلة المشايخ القضاة, وأعضاء ادعاء عام, ومحامين,وأفراد من الجمهور. وقد طرحت فيه أسئلة متعلقة ببعض محاور البحث لاستجلاء آراء المستجبين حولها بقدر ما يعينني على بحث ومناقشة المسائل الخلافية, توفيراً للوقت والجهد الذي قد يبذل في المقابلات الشخصية وعناية بأخذ قدر معلوم من الآراء في هذا المجال وقد ألحقت بالبحث عينة من هذا الاستبيان تحت الملحق الأول.
كما أخترت للقارئ الكريم مرافعات من الأدب القضائي العماني والمصري والفرنسي لما أعتبره تطبيقاً عملياً للقواعد العامة المتعلقة بعلم المرافعة, وألحقته بالبحث تحت الملحق الثاني.

توطئة
عُرفت المرافعات القضائية منذ عصور قديمة جداً, فلقد اشتهر بها البابليون والكلدانيون والفرس, وعرفها اليهود على زمن موسى عليه السلام, كما عرفها الإغريق واعتبروها من أسمى المهن ولا يتولاها منهم غير الشرفاء, وكذلك عند الرومان فقد بلغ من شأن المرافعة كفن من فنون الخطابة عندهم أن جعلوها المؤهل لتولي رئاسة الجمهورية, وعُرف منهم أقطاب في المرافعة مثل شيشرون ويوليوس قيصر وغيرهم(1) ولقد تلقفها الغربيون وعلى رأسهم الفرنسيين في العصور الوسطى وبرعوا فيها أمثال رويير وباربو, وامتدت بطبيعة الحال إلى وقتنا الحاضر.

أما عن المرافعة عند العرب, ففي الجاهلية كان يمكن للمتخاصمين أن يكلفوا شفهياً من يشاؤون لتمثيلهم أمام من يمارس القضاء سواء كان شيخاً أو ملكاً أو حكماً. وكان
هؤلاء الوكلاء يعرضون قضية موكلهم بفصاحة وبلاغة فـَدُعوا (حُجَّاج) أي أقوياء الحجة (2), ولم تكن هذه المرافعة بالمعنى القانوني المعروف اليوم.

أما في ظل الإسلام فلم تتضح معالمٌ لمرافعات قضائية في التراث الإسلامي رغم أن البيان العربي مؤهل كل التأهيل للبلاغة القضائية! ورغم أن العرب في ظل الإسلام استفادوا من علوم الإغريق والرومان في الفلسفة والطب وغيرها من العلوم ! ولكن لماذا لم يأخذوا عنهم الخطابة القضائية؟؟ سؤال لم ينقل له التراث العلمي الإسلامي جواباً (3).

أما في العصر الحديث عند العرب فظهرت المرافعة القضائية بالمفهوم المعاصر ابتداءً في مصر إبان عهود الانتداب الفرنسي لها, وتلقاها المصريون فبرعوا فيها وبذوا أقرانهم وكان منهم أعلام مبرزون كأمثال سعد زغلول, وإبراهيم الهلباوي, وعبدالعزيز باشا فهمي وغيرهم كثر من السابقين والمحدَثين, ومنها إلى جميع الأقطار العربية التي خرجت من تحت ولاية الدولة العثمانية فظهر فيها التنظيم القانوني الحديث بعد التحول من نظام القوانين العرفية إلى نظام دولة القانون والمؤسسات, ومنها بطبيعة الحال السلطنة بعد بزوغ فجر النهضة المباركة وإرساء دعائم الدولة الحديثة بالتشريعات القانونية سيما المتعلقة بنظام الخصومة والتقاضي.

على أن المعني بهذا البحث هي المرافعات الجزائية القائمة على مبادئ كمبدأ شفوية إجراءات المحاكمة, وقناعة القاضي الوجدانية, وعلانية الجلسات, وغيرها. تفريقاً لها عن المرافعات المدنية التي تكون على شكل مذكرات مكتوبة يسطر فيها كل طرف من أطراف الخصومة ما يريده, فيسلم منها نسخة لمحكمة الموضوع وأخرى لخصمه الآخر، ليرد عليه الأخير بنفس الطريقة دون أن يلزم التقاؤهما وتقارعهما شفاهة أمام قاضي الموضوع.

كما أن للادعاء العام دور محدود في الدعوى المدنية – كما جاء بقانون الإجراءات المدنيةوالتجارية – لا تكون فيه مرافعة شفوية.

المطلب الأول : ضرورة المرافعة
سنعرض لدراسة ضرورة المرافعة في فرعين نخصص الأول لاستجلاء ضرورتها من الناحية القانونيةمن واقع النصوص القانونية التي عنيت بالأمر ثم في المطلب الثاني نستبين ضرورتها من الناحية الأدبية من الشريعة الغراء والتراث.

الفرع الأول: ضرورة المرافعة من الناحية القانونية
لقد وضع النظام الأساسي للدولة الصادر بالمرسوم السلطاني رقم 101/96 القواعد الأساسية لبناء دولة المؤسسات وسيادة القانون. ونظم الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين, ووضع آليات وضمانات لتنفيذ ذلك منها أن أناط بالادعاء العام مهمة تولي الدعوى العمومية ومباشرتها حين نص في المادة (64) منه على أن: يتولى الادعاء العام الدعوى العمومية باسم المجتمع, ويشرف على شؤون الضبط القضائي ويسهر على تطبيق القوانين الجزائية وملاحقة المذنبين وتنفيذ الأحكام, ويرتب القانون الادعاء العام وينظم اختصاصاته , ويعين الشروط والضمانات الخاصة بمن يولون وظائفه)

وفعلاً صدر قانون الادعاء العام رقم 97/99 وبين مهام الادعاء العام فلقد جاء في المادة (1) منه: ” يتولى الادعاء العام الدعوى العمومية باسم المجتمع ويشرف على شؤون الضبط القضائي ويسهر على تطبيق القوانين الجزائية وملاحقة المذنبين وتنفيذ الأحكام وغير ذلك من الاختصاصات التي يقرها القانون”.

ثم جاء قانون الإجراءات الجزائية ليقر تلك الإختصاصات المذكورة ويبين جميع الإجراءات القانونية العملية التي يجب على الادعاء العام التصرف بموجبها قِبَلَ الدعوى العمومية ومنه ما ورد في المادة (4) حيث جاء فيها ” يختص الادعاء العام برفع الدعوى العمومية ومباشرتها أمام المحكمة المختصة”.

ثم جاء وقرر أن الادعاء العام إذا أحال الدعوى إلى المحكمة المختصة فإنه يقوم بمباشرتها أمام تلك المحكمة حتى صدور حكم فيها سواء بالبراءة أم بالإدانة , ومن
خلال تلك المباشرة يستطيع تقديم الطلبات وابداء ما يرى من أقوال وعلى المحكمة واجب سماع أقواله والفصل في طلباته. (م 178 إج)وله مناقشة الشهود وتوجيه ما يراه من الأسئلة لهم سواء أكانوا شهود نفي أم أثبات ( م 197 إج )(1).

وعلى ضوء ذلك فإن المشرع أوجب حضور عضو الادعاء العام لصحة تشكيل المحكمة ( م 178 إج ) ومتى كان حضوره واجباً فإن أداءه لواجبه يكون واجباً عليه كذلك(2).

ومن هنا كانت حتمية المرافعة ثابته بنص القانون, بل أن نص المادة آنفة الذكر 178 وسياق عباراتها تؤكدان ذلك إذ أوجبت على المحكمة أن تسمع أقوال عضو الادعاء العام وتفصل فيها(3) .”

وفي هذا الشأن فإن لقضاء النقض مقولة وردت في (مجموعة الأحكام الجنائية, السنة الخامسة, المكتب الفني لمحكمة النقض, القاعدة 43, في الصحيفة 132) بخصوص الواقعة الآتية : محكمة إستئنافية سمعت الشهود وسمعت المرافعة وأجلت النطق بالحكم أسبوعاً, وحين حل موعد النطق بالحكم تغيّر التشكيل فكان من قاضيين ممن سمعوا المرافعة وانضم إليهم قاض جديد مكان القاضي الغائب وبدلاً من إعادة إجراءات المحاكمة أمام الهيئة بتشكيلها الجديد قررت فتح باب المرافعة والحكم آخر الجلسة. وفي آخر الجلسة صدر الحكم دون أن تسمع مرافعة , عرض هذا الحكم على محكمة النقض فوصمته بالبطلان, لأن الهيئة بتشكيلها الجديد لم تسمع المرافعة “(1)

وبصدور التعليمات القضائية للإدعاء العام بالسلطنة وكونها أُفردت للمرافعة باباً خاصاً فقد صرحت المادة (168) لأعضاء الادعاء العام بأمر مباشر حيث نصت على الآتي:” على أعضاء الادعاء العام ضرورة المرافعة أمام المحاكم لما لها من أهمية في إظهار الحقيقة وتأكيد ثقة المجتمع في حكم الإدانة الذي يصدر بعد عرض الادعاء العام لأدلة الثبوت في الدعوى(2).

الفرع الثاني: من الناحية الأدبية
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إنما أنا بشر, وإنكم تختصمون لدي, ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض, فأقضي له على نحو ما أسمع, فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه, فإنما اقتطع له قطعة من النار” (3)

وفي هذا القول أبلغ الدلالة على أن القاضي من شأنه أن يتأثر بطريقة عرض الخصوم لدعواهم مهما بلغ من التحوط والحيدة , وأنه ربما يقضي لغير صاحب الحق كما أشار الحديث الشريف, عليه فلابد لعضو الادعاء العام وهو ينهض بمسؤولية الدفاع عن حق المجتمع أن يقابل لحن (1) دفاع المتهم بلحن أفضل منه إحقاقاً للحق وإزهاقاً للباطل.

هذا علاوة على أن المرافعة الشفوية تمكن القضاة من الوقوف على دقائق الدعوى ومغزى ما تتضمنه الأوراق, وتبث الحياة والحركة في إجراءات الدعوى وتكسب الجلسات الروعة والبهجة
التي تجذب الجمهور والمتقاضين فتحقق رقابتهم على سير العدالة, ولقد جاءت التعليماتالقضائية للإدعاء العام بالسلطنة لتؤكد هذه المعاني(2).

هذاعلاوة على أنه من المبادئ المقررة في الفقه والقانون مبدأ شفوية إجراءات المحاكمة (3) و يصح القول أن عماد هذه الإجراءات هوالمرافعة إذ أن مبدأ الشفوية هو الأساس المنطقي لمبادئ أخرى تسود نظام المحاكمة الجنائية في القانون الحديث. فهو السبيل إلى تطبيق مبدأ المواجهة بين الخصوم, فلكي يتاح لكل طرف في الدعوى أن يواجه خصمه بما لديه من أدلة ويعرف ما لدى الخصم منها, ويبدي رأيه فيها, يتعين أن تعرض هذه الأدلة شفهياً في الجلسة وتدور في شأنها المناقشة بين أطراف الدعوى, وأكدت ذلك محكمة النقض المصرية بقولها: “من المقرر في قواعد تحقيق الجنايات أن المحكمة لا تكون اعتقادها على وجه العموم إلا من المرافعة الشفوية التي تحصل أمامها” (1).

ومن هذا نستنتج أن مبدأ الشفوية متصل بمبدأ الاقتناع القضائي . إذ أن القاضي يستمد قناعته من جملة المناقشات التي تجري أمامه. كما أن مبدأ الشفوية أيضاً يحقق رقابة للمحكمة على أعمال التحقيق الابتدائي, فما تولد عنه من أدلة تقدره المحكمة وتزنه أثناء عرضه عليها, ومناقشته شفوياً أمامها.

وقد رتب المشرع جزاء البطلان على مخالفة مبدأ الشفوية في إجراءات المحاكمة”.(2)

المطلب الثاني: تعريف المرافعة
المرافعة في اللغة مصدر على وزن مُفـَاعَلـَة, وأصلها ثلاثي على وزن رَفَعَ يقال رفع فلاناً إلى الحاكم رفعاً ورِفعاناً أي قدمه إليه ليحاكمه.(1) ولقد جاء في القاموس المحيط للفيروزأبادي قوله: رافعه إلى الحاكم أي شكاه إليه ويقال أيضاً ترافعا إلى الحاكم تحاكما لديه, وترافع المحامي عن المتهم أمام القضاء أي دافع عنه بالحجة, ولقد ورد تعريف المرافعة بحسب رأي ثلة من أرباب اللغة والقانون في معجم القانون بأنها ” الأقوال الشفوية التي يبديها الخصوم أو وكلاؤهم في جلسات المحاكمة”(2).

أما عن تعريف المرافعة في الإصطلاح القانوني فقد اجتهد مجموعة من الفقهاء ورجال القانون ووضعوا تعريفات للمرافعة أورد بعضها الأستاذان الأريبان سمير ناجي وأشرف
هلال في مؤلفهما ” آداب مرافعة الادعاء” مثل تعريف الفرنسي مارشال للمرافعة بأنها (مناجاة العقل والقلب)
وتعريف الأستاذ أحمد بك رشدي بأنها (ليست الفصاحة وحدها ولا هي العلم بالقانون وحده ولكنها سياسة يقظة واستبصار في الدعوى وحذق في الأداء) ولكنهما خلصا إلى تعريف جديد محاولين الجمع بين تلك التعريفات حيث عرفا المرافعة بأنها ” قوة تغري (آذان القاضي بالإستماع إليك والإنصراف بوجدانه وسمعه لك) ثم تحول (رأي القاضي إلى الانعطاف إلى رأيك) ثم ترغم (بأن يصدر حكمه على ما ابتغيت أنت) وغاية المرافعة أن تخرج قاضيك من رأي خصمك الخاطيء إلى رأيك أنت الصائب” (1)(2)

ولكني بكل تواضع لا أساير الأستاذين الجليلين فيما خلصا إليه كونهما عرفا المرافعة ابتداءً أنها ” قوة … تغري ثم تحول ثم ترغم” ومن المعروف في علم المنطق أن الحدّ(3) إنما يكون منصباً على ماهية الشيء وكنهه لا على أثره أو وصفه. كما يجب أن يكون جامعاً لكل عناصره مانعاً غيره من الدخول فيه, وعليه فإن ماهية المرافعة ليست قوة وإنما هي خطاب. كما أن قولهما أنها ” ترغم القاضي على …” لا يتوافق مع ما يجب أن يكون عليه وضع المترافع من الإلتماس والطلب من هيئة المحكمة بما يستميل القاضي.

ثم أنهما حصرا المخاطب بالمرافعة في شخص القاضي إلا أنه وإن كان فضيلة القاضي أو القضاة هم أول المخاطبين وإليهم يوجه الخطاب بشكل أساسي لكن المترافع يجب أن يضع الجمهور والخصوم في اعتباره عند المرافعة وذلك لتأكيد ثقة المجتمع في حكم الإدانة واقتناع أطراف الخصومة ووكلاؤهم بالحكم الذي تصدره المحكمة.

وأأسس على نقد هذا التعريف والإطلاع على غيره محاولة ً لتعريف المرافعة معتنياً بتفادي القصور في التعاريف السابقة فأقول أن المرافعة هي: ” خطاب يلقيه صاحب الحق أو وكيله بحضرة القاضي ليقضي له به, مجسداً بالعرض لوقائع الدعوى حسب ما خلص إليها ومفنداً ما يثار في الدعوى المعروضة من دفوع بالحجة البينة والإستدلال المنطقي مستخدماً قوة البيان ومحتكماً إلى الحق والصدق والقانون في وسيلته وهدفه,ومتفاعلاً مع ما يستجد في الدعوى أثناء عرضها على المحكمة, ومختتماً بالمطالبة بما يراه حق له أو بإنزال الموجب القانوني على المتهم سواء بالإدانة أم بالبراءة”.

فالمرافعة إذن هي خطاب يُلقى, وهذا قيد يخرج المذكرات المكتوبة من حدّ المرافعة, وقولنابحضرة القاضي لا يحصر المخاطبين به في شخصه بل يتعداه إلى كل من حضر معه من دفاع
المتهم أو المتهم نفسه أو المدعين بالحق المدني أو المجني عليهم أو الجمهور.

وقولناليقضي له به, لبيان الهدف من المرافعة, وقولنا محتكماً إلى الحق والصدق والقانونفي وسيلته وهدفه, قيد يُخرِج كل عمل غير قانوني أو غير مأطر بأطر الحق والإنصاف من
حد المرافعة الصحيحة التي ابتغاها المشرع.

لذلك أخلص في هذا المقام إلى القول بأني وجدت للمرافعة من أدبياتها, والقوانين التي ذَكرَتْها مفهومين: واسع, وضيق. أما المرافعة بالمفهوم الواسع هي كل إجراء يأتي به عضو الادعاء
العام أو المحامين أو الخصوم بصدد دعوى معينة من مناقشة شاهد أو الردّ على دفع, أو تفنيد اشكال أو غيره وهذا ما يسمى بمباشرة الدعوى وهو المقصود كشرط لصحة إجراءات المحاكمات الجزائية. أما بمفهومها الضيق فهو المقصود بتعريفنا المختار, وهو موضوع بحثنا, والمراد بالحديث أين ما ورد مصطلح المرافعة بهذا البحث لاحقاً.

المطلب الثالث: بناء المرافعة
سنعرض في هذا المطلب لموضوع بناء المرافعة بمفهوميه الضيق والواسع من خلال ثلاثة أفرع نتناول في الأول ما يجب أن تكون عليه لغة المرافعة , وفي الثاني عناصر المرافعة المكونة لها, وفي الثالث أساليب أدائها في ساحات القضاء وذلك على النحو الآتي:-

الفرع الأول: لغة المرافعة
لقد نص القانون العماني على أن تكون لغة التقاضي هي اللغة العربية, وفي حالة كون أحد أطراف الدعوى أو الشهود لا يجيد العربية يحضر معه مترجم يقسم اليمين على الترجمة إلى العربية بالصدق(1).

هذا عن لغة المرافعة بمفهومها الضيق, أما عن لغة المرافعة بمفهومها الواسع فلها جوانب عدّة نحاول تفصيلها في النقاط الآتية:-
أولاً: أنها لغة حديث لا لغة كتابة.
ومؤدى هذا أن المرافعة وإن سطرها المترافع قبل حضوره لجلسة المحاكمة إلا أنه إن أراد إتيانها بحسب أصولها فلا بد له أن يلقَى بها السامع وجهاً لوجه, فيستعين على اقناعه بلسانه وعينه, وبصوته وإشارته, وبحركته وسكونه, وببديهته ودقة ملاحظته, وبما فيه من قوة مغناطيسية كامنة, وهو بحكم ضرورة الموقف مضطرٌ إلى الإبتكار السريع والكلام المرتجل ومواصلة الحديث من غير توقف ولا تردد. فلا ريب أنه سيعتمد بساطة التعبير في بناء مرافعته ليتجنب التلعثم والزلل.

أما لغة الكتابة فللكاتب أن يستعمل فيها اللفظ المنمق, وأن يحتال على المعاني البعيدة, وأن يطلق العنان للخيال فيؤاتيه بصور شعرية رائعة, كما يمكن أن يستعين بنقول مدبجة من أمهات الكتب الرصينة يستخرج منها ما شاء مما يخدم فكرته وموضوعه بهدوء بال, وسعة وقت. ” ففي المسموع أنت دائما بحاجة إلى أن تستأثر بإذن سامعك ولا تدعه ينصرف عنك أما في المقروء فإن كنت مجهد الذهن وعسر عليك الاستيعاب, طويت الصفحة وعدت لها في وقت تكون فيه أقدر على الاستيعاب”(1)

ثانياً: لغة المرافعة لغة التماس
فيجب أن تكون لغة المترافع يحوطها الاحترام الكلي للهيئة التي يترافع أمامها عضو الادعاء, وقد يكون العضو أغزر من سامعيه علماً, وأظهرهم فضلاً, وقد يكون كلامه في مضمونه تعليماً ولكن عبارته يجب أن تكون عبارة إكبار وإعظام دون تذلل ولا ضِعه.(2)

ثالثاً: يجب أن تكون لغة المرافعة رصينة وسلسة ومفهومة
ووجوب كونها رصينة وسلسة يقتضي ذلك من المترافع أن يلم بقدر غير ضئيل من قواعد النحو والصرف والبيان. فذلك مما يُسلِس إلى بلوغ المقصود من المباني في توضيح الدلالات والمعاني. ” فليس أزرى بالمرافعات ولا أضيع لبهجتها ولا أفلُّ لسلاحها من سفه لغتها ” (3)

كما يقتضي أن يحرص المترافع على النهل(4) من معين مضان اللغة سيما من كتاب الله العزيز الذي أنزل قرآنا عربياً قال تعالى : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(1), وسنة سيد البلغاء والفصحاء النبي الأمي الذي لم ينطق عن الهوى وفيه قال أميرالشعراء :
وإذا خطبت فللمنابر هزة تعروا النَديّ وللقلوب بكاء

وعليه العَـلُّ (2) من الحكم والمواعظ والآثار والخطب الشهيرة من طيوف الإرث الإنساني اللغوي. وجدير بالذكر هنا أن ذخيرة المترافع من الفصاحة والبيان تعينه على التدليل والاستشهاد للمواقف والآراء التي يتبناها في مرافعته. وفي هذا المعنى جاءت المادة 173 من تعليمات الادعاء العام بالسلطنة فنصت على الآتي:- ” على أعضاء الادعاء العام العناية بدراسة قواعد اللغة العربية والاستزادة من آدابها والإطلاع على مختلف نواحي المعرفة حتى يساعدهم ذلك على أداء واجبهم في المرافعة أمام المحاكم”.

وهنا ربما يتساءل متسائل عن جدوى الاعتناء إلى هذا الحد بلغة المرافعة حيث أنها محكومة بغايتها, وهي ظهور الحق وإنفاذه فإن كان الزخرف لقلب الحق باطلاً أو العكس فذلك مذموم, وإن كان الحق مجرداً فإنه يجب أن يُبَلّغْ بمجرد الطلب, ولا حاجة لزخرف اللغة.

أقول هذا تصور خاطيء !!! لأن الألفاظ والمباني قوالب الدلالات والمعاني, وإن من البيان لسحراً كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم, وإن الحَكـَم والجمهور في قاعة المحكمة بشر يتأثرون بما يسمعون وإن من شأن بلاغة العضو المترافع أن تجلي للمحكمة مكامن الغموض في الدعوى وتُدَعِّم مواطن الضعف فيها, وتبرز الأدلة الخافتة منها, وتفند وترد الإشكالات التي وردت عليها, وتبين أثر جريمة المتهم على المجتمع, وإساءته إلى قيمه ومبادئه, وتستثير غضب القاضي, وتستنهضه لتحقيق واجبه كذائد عن الهيئة الإجتماعية, وكونه ملجأ المظلوم وسند المهضوم, ومورياً للجمهور عن سبب الإدانة في حال صدورها لترسيخ ثقتهم بالعدالة وتعميق شعورهم بالإنصاف.

وأما عن وجوب كونها – أي لغة المرافعة – مفهومة, فهذا يقتضي أن تكون المرافعة بلغة سهلة العبارة, ومباشِرة الدلالة, جزلة المعنى, دون تكلف أو إسفاف.

ولقد خصصت سؤالاً في الإستبيان عن مستوى اللغة الواجب التخاطب بها في قاعة المحكمة وكذلك طرحته على من قابلته من أصحاب الفضيلة المشايخ القضاة وأعضاء الادعاء العام والمحامين فجاءت آرائهم متباينة, فمنهم من قال أنه يجب أن تكون لغة فصيحة, وآخرون قالوا بأنها يجب أن تكون عامية دارجة(1), وآخرون رأوا أن تكون خليطاً بينهما. ولقد برر الفريق الأول رأيه بأن الفصاحة في اللغة تضفي على القضاء الهيبة والوقار إلى جانب أنها أجزل في معانيها. وبرر الفريق الثاني بأن العامية في متناول الجميع بينما تعسر الفصحى على البعض خصوصاً من الجمهور والخصوم. ورأى الفريق الثالث أن تكون لغة المرافعة بالعامية المحسنة.

وفي هذا الصدد أرى وجوب التفريق بين اللغة التي يُخَاطـَبُ بها الخصوم أو الشهود بشكل مباشر سواء من قبل القاضي أو المحامي أو عضو الادعاء , وبين اللغة التي تدور بين هؤلاء الأطراف. ففي الأولى يجب أن يكون الخطاب بقدر ما يفقه المخاطـَب, كما يجب التحري والعناية من قبل المتحدِث بأن ما يقوله مُدرَك من قبل سامعه.

ولقد أتحفني فضيلة الشيخ ماجد بن عبدالله العلوي نائب رئيس المحكمة العليا عند سؤالي إياه عن هذا الموضوع بقوله: ” لقد عنيت منذ توليت القضاء بإجادة اللهجة الدارجة في كل منطقة أنتقل إليها للعمل, لجسر ما بيني وما بين المتقاضين من عامة الناس من هوة, فأدرك مغازيهم من أقوالهم, ويشعرون هم بذلك فينطلقون بما يشاؤون في ادعائهم أو دفاعهم”.

أقول مصداقاً لذلك لو قيل لعاميّ أميّ ” وأيم الله أنك لمان ٍ فيما فهت به ” لرفع عقيرته بالشكر للقائل ظناً منه أنه يمدحه في حين أنه يكذبه.

إلا أن فضيلته عاد وأكد على أهمية اللغة العربية الفصحى كلغة للتقاضي وأنها المحببة إليه عند المرافعة إذا ما صدرت ممن يعيها سيما أعضاء الادعاء العام والمحامين (1).

أما المرافعة التي تعارف عليها الأدب القضائي فإنها إن صدرت من عضو الادعاء أو المحامي فالمقصود المباشر بها هو فضيلة القاضي, ولا شك في أنه لن يعزب عن ذهنه ما أراده المترافع, ولن تصعب عليه لغته وإن كانت فصيحة.

الرأي:
أرى أن المرافعة القضائية من العضو يجب أن تكون بلغة عربية فصيحة. فمن قال أن اللغة الفصيحة عصية على الفهم؟ فالجميع يسمع نشرات الأخبار وخطب الجمعة ويقرأ الصحف ويدرس الكتب بلغة عربية فصيحة, ويمكن القول أن هذا مقياس الرجل العادي(2), ولقد انتشر التعليم في مجتمعنا ولله الحمد بما يؤهل المتلقين إلى إستيعاب اللغة العربية الفصيحة. كما أني أشايع بعض المستجيبين للاستبيان من كون اللغة الفصحى تضفي مهابة ووقاراً على المحكمة وأنها أجزل في التعبير عن الأفكار. كما أني أؤمن بأنها ستكون – إن طبقت – عاملاً مهماً في إحياء اللغة العربية الفصحى, ودافعاً للاهتمام بها, ومَعيناً للبلاغة القضائية, وعامل محافظة على الهوية من معاول الغزو الثقافي والتغريب, كما تجنب قاعات المحكمة هرج ومرج واختلاط اللهجات. على أن يكون ذلك دون تكلف أو تصنع, فلا يعمد المترافع إلى المعاني القاموسية الغريبة. فقد ذم من قال لخلق تجمعوا عليه: ” ما لكم تكأكأتم عليّ كتكأكئكم على ذي جنةٍ , هيا افرنقعوا عني” وذلك رغم صحة قوله إلا أنه لو قال اذهبوا عني لبلغ مراده.

وعليه فحرِّي بنا كرجال قانون أن نحفظ لغة القرآن ووعاء كلام رب العزة, بإعمالها لا سيما في ساحات العدل القدسية دون إغفال لمبادئ القانون الذي نستمد منه شرعية إجراءاتنا والذي قضى بأنه في أحوال معينة يجب أن نورد قول القائل كما جاء على لسانه كائناً من كان دون تدخل بزيادة ولا نقصان أو تعديل. ولو كانت ألفاظاً تعافها النفس, وتمجها الأسماع بل قد يقتضي الموقف ترديدها في بعض الأحيان لغاية سامية.

كما أن الجميع مقرٌ – وأنا معهم – بانحدار مستوى اللغة العربية المتداولة بين الناس لأسباب عديدة لا يتسع المقام هنا لذكرها, ونسلم تبعاً لذلك بتكلف دوام المحادثة بها, فإني لا أرى بأساً في الاستعانة باللهجة العامية المحسنة في تخفيف ما قد تنوء به أسماع المتلقين من فصاحة القول الموجه لهم وذلك في قالب مُلحة جميلة غير خارجة عن الموضوع, أو تعليق قصير, أو مثال توضيحي, أو إيراد قول عامي ورد في التحقيق, أو غير ذلك مما يسمح به الوضع. أي معاملة اللهجة العامية معاملة الاستثناء الوارد على الأصل في المرافعة وهي كونها بلغة فصيحة. ويوجه الدكتور حامد الشريف نصيحة إلى المحامي فيقول: ” ليس ضرورياً أن تكون كل المرافعة بألفاظ مقعرة وباللغة العربية الفصحى, ولكنه يتعين الجمع بين الاثنين بحيث يستطيع المحامي أن يدفع الرتابه بعيداً عن قاضيه”(1) وهذا ما يجب أن يكون عليه شأن عضو الادعاء العام.

رابعاً: أن تكون مطابقة لمقتضى الحال
قول الجاحظ رحمه الله : ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني, ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين, وبين أقدار الحالات فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاماً, ولكل حالة من ذلك مقام, حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني, ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات, وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات, وكما لا ينبغي أن يكون اللفظ عامياً, فكذلك لا ينبغي أن يكون غريباً وحشياً “(2)

فالمترافع يجب أن يكون وثيق الصلة بالأدب, عالم بطبائع الناس عارف لمواقع الكلام متصرف في أنواعه على ما يشتهي, فلا يسهب في موضع الإيجاز إسهاباً مملاً, ولا يوجز في موضع
البسط والبيان ايجازاً مخلاً. يستعمل اللفظ المجلجل مرّة والسهل البسيط أخرى, يغلب المنطق هنا ويرجح العاطفة هناك على حسب الظروف والأحوال.

على أن خروج المترافع عن هذه القاعدة في مرافعته هو أدعى ما يكون للنفور منه, والاستخفاف به, والالتفات عمّا يخلص إليه من مطالب.

وأخذاً بما سبق فإني أرى أن مراعاة مقتضى الحال تستلزم من العضو إبتداءً تقدير شكل وحجم المرافعة التي سيعدها على حسب الدعوى المعروضة إن كانت جناية أو جنحة(1) , وكذلك قيمة ما تشكله من أهمية للرأي العام, أو جسامة في الفعل, أو خطورة جرمية, أو تفرع من ظاهرة جرمية بدأت تنتشر في المجتمع, أو باعتبار شخصية المتهمين أو المجني عليهم فيها كأن يكونوا رموزاً وطنية أو من كبار موظفي الدولة , أو نوعية الجمهور المعتني بالقضية المعروضة, فهذه العوامل وغيرها يجب أن يراعيها العضو عندما يعد مرافعته التي سيبديها بصدد الدعوى.

الفرع الثاني: عناصر المرافعة
ليس للمرافعات في الواقع العملي قالب واحد جامد, ولكننا اذ نحاول تحديد عناصر المرافعة نقصد قوامها, وعلى ذلك فالمرافعة النموذجية تتألف من مقدمة وموضوع وخاتمة, ولنبين مضمون كل جزء أو ما يجب على المترافع أن يضمنه تلك الأجزاء سنعمد إلى التقسيم الآتي:-
أولاً: المقدمة
وهي بالغة التأثير على ما بعدها من القول, فإن جاء بها المترافع كما يجب فتح لنفسه من السامعين باب القبول, وإن تنكب فيها وجاء بها على غير أصولها أوصدت عنه الآذان والتفتت عنه العقول وجفته قلوب سامعيه. لذلك وجب على المترافع أن يفتتح مرافعته بمقدمة مثيرة وبشيء يأسر الإنتباه في الحال, والخطيب الفطن من يحفظ المقدمة بداية ويفضل لطبيعة الزمان المطبوع بطابع السرعة أن تكون المقدمة موجزة إيجازاً لا يخرجها عن كونها مقدمة, كما يجب أن يراعي المترافع في المقدمة ارتباطها بموضوع المرافعة ويجعلها توطئة ومدخلاً للموضوع.

ثانياً: الموضوع
في هذا الجزء من المرافعة يلزم من المترافع أن يرتب أفكاره, ويعرض لموضوع الدعوى بكل جوانبه ابتداء من تجسيد وقائع الدعوى للسامعين بعرضها عرضاً تصويرياً أكثر منه وصفياً, ومبيناً لأركان الجريمة التي تشكلها الواقعة, ومعرجاً على ما تشكله تلك الوقائع من ألم وعوار للمجتمع وقيمه, ومثـَنِّياً على إسقاط تلك الوقائع على نصوص القانون المنطبقة عليها, ومثبتاً لأدلة الإثبات ومفنداً لأدلة النفي, ومورياً عن الظروف القانونية أو الشخصية التي صاحبت وقائع الدعوى سواء كانت مدعاة للتشديد أم للتخفيف كما يقتضي مبدأ حياد الادعاء العام, ومجلياً للمحكمة بواعث المتهم التي حملته لإرتكاب جريمته, ومحللاً لنفسيته حين ارتكاب الجرم وقبله وبعده بمقتضى قواعد علم النفس, مستمداً تحليله من وقائع الدعوى متجنباً التخرص والتخمين, ومعتمداً السياسة المنطقية في الإستنتاجات التي يبديها أمام المحكمة ومبصراً إياها بما خفى وغمض من وقائع الدعوى كما حصلها هو(1) أو زميله عضو الادعاء من التحقيق الذي أجراه الادعاء العام.
وفي هذا المعنى جاءت المادة (171) من تعليمات الادعاء العام بالسلطنة حيث نصت على أن : يراعى أن تتضمن المرافعة شرحاً لواقعات(1) الدعوى وأركانها وظروفها وأدلة الثبوت فيها
…”

وكذلك المادة 1136 من تعليمات النيابة المصرية حيث نصت على ” … وعليه عندما يترافع في القضية أن يبين ظروفها وأن يسرد الأدلة القائمة في الدعوى تبعاً لترتيب أهميتها مع بيان الظروف المشددة والمخففة في القضية”

ثالثاً: الخاتمة
“إن الخاتمة في الحقيقة هي أكثر الأجزاء استراتيجية في المرافعة”(2) فما يقوله الإنسان في النهاية هو ما يبقى يرن في آذان المستمعين وهي ربما الكلمات التي تبقى عالقة في آذانهم. لذلك فالمترافع الحاذق من يخطط للخاتمة مسبقاً, ومن باب الاحتياط عليه أن يُعِدَ ويحفظ خاتمتين أو ثلاث يواجه بها التعديلات التي تطرأ على سير الدعوى خصوصاً إذا كانت مرافعته مرتجلة.

لذلك يجب على المترافع أن يجلي للمحكمة ويصرح بطلبه من كل القول الذي أدلاه سابقاً, وهو طلب إدانة المتهم بحسب الأصل, أو طلب براءته على وجه الاستثناء. وإن كان يطالب بالإدانة
فليبين نوع العقوبة التي يطالب بها إن كانت العقوبة بها مجال للخيار وفق القانون وخصوصاً عند وجود مجال للعقوبات الفرعية, وكذلك الظروف التي يطلب أخذها بالاعتبار عند الحكم سواء المخففة أم المشددة وأرى من الناحية العملية وجوب ذكر رقم المادة القانونية والقيد والوصف واضحين مع عدم الخلط في حالة تعدد المتهمين وتعدد القيود.
“على أن خاتمة المرافعة ينبغي أن تكون منفصلة عن المرافعة غير مرتبطة بها ولا متصلة. أي بمنزلة الصدر, ولكن تكون موجهة نحو الكلام الذي سلف” (1).

الفرع الثالث: أساليب المرافعة
على هدى ما تقدم في الفرع السابق وباستقراء الواقع القضائي فإن المرافعة القضائية لن تخرج عن أربعة ضروب تحكم أداءها سنعرض لها بإيجاز محاولين إبراز مزايا كل أسلوب وعيوبه.
أولاً: أسلوب التسميع
مُتَبِّعُ هذا الأسلوب بعد أن يفرغ من دراسة قضيته ويلم بجزئياتها يُعمِلُ فيها التصور والتوقع لما سيقع من خصمه من دفوع ولما سيثيره الشهود من إشكالات وغير ذلك فيعد لذلك جواباً في مخيلته أو يفرغه في أوراق فيحفظهُ وإذا جاء موعد المحاكمة ذهب بدون أوراق فانطلق بما في مخيلته مما حفظه يسمعه للقاضي. وأكثر ما يؤخذ على هذا الأسلوب أنه يبعث الملل والسأم, فهو ميت بلا روح, ولأن هدف المترافع يتعدى أذن القاضي السامعة إلى وجدانه وقناعته المعول عليها في الحكم, هذا علاوة على أن أي مفاجئة غير محسوبة خلال المحاكمة ستوقع المترافع في يديه(1) فيحير فلا يدري جواباً في معظم الأحيان أو على الأقل تربكه فتخلط عليه أوراقه التي رتبها في مخيلته.

ثانياً: التلاوة
وفي هذا الضرب من المرافعة يأتي المترافع وقد كتب مرافعته فيبدأ بقرائتها ورقة ورقة. ولا شك أن ذلك يفقد المترافع القدرة على التأثير في سامعيه حيث ينصرف وينهمك فيقراءة مرافعته فيلتفت عنه سامعيه إن لم يكن بآذانهم السامعة فبآذانهم الواعية المستجيبة مما يضفي على أداء المترافع فتوراً غير محمود. يقول هنري روبير: ” إن الذي يتلو مرافعة مكتوبة إنما يلقي مرثية”

ثالثاًً : الارتجال
سُئل الأستاذ أحمد رشدي: كيف تؤدى المرافعة؟ فقال: ” كل ما يعنيني في دعوى هو أن أعرف الثوب الصحيح اللائق بهذه الوقائع من الأثواب التي فصلها القانون وأسانيده, وأن أعرف ما يعدّه خصمي أو أتخيله, وبعد أن أعرف هذا أذهب إلى قاعة الجلسة غير مختط خطة معينة للدفاع, بل أضعها وأنا في الجلسة تبعاً للظروف التي تحيط بالخصومة وبالمرافعات وبأشخاص المترافعين والقضاة”(1)

ومن مزايا هذا الأسلوب هو تفادي بعض مثالب الأسلوبين السابقين, فهو يُكسب المترافع قوة التأثير وعطف القاضي وتجاوبه ومتابعته له ويؤخذ عليه أيضاً ما يؤخذ على أسلوب التسميع من عدم الاستعداد للمفاجئات الغير محسوبة أثناء المحاكمة والاسترسال في الارتجال بما يرضي المستمع في نقطة ولو على حساب النقاط الأخرى في القضية.

ولا شك أن هذا الأسلوب يحتاج إلى موهبة عظيمة من المترافع فهو يقتضي أن يلقي المترافع خطابه إلى السامعين وفي نفس الوقت يقيس مدى تأثرهم وقبولهم لما يقوله فإن لمس إعراضاً تعامل معه كما يجب وإن وجد تجاوباً أمعن القول فيما يقول من غير استرسال مخل. هذا علاوة على ما يجب أن يكون عليه المترافع من عظيم الإلمام بقواعد القانون ومواده وأحكامه والسوابق القضائية وواسع ثقافته العامة وعميق إلمامه بدقائق القضية المعروضة, ممتطياً صهوة البلاغة التي ألانت أعنتها له فطاوعته حيثما وجهها.

رابعاًَ: الارتجال المكتوب
أسلوب الارتجال المكتوب أسلوب محمود, حيث أنه تلافى عيوب الأساليب السابقة كما أنه يتوافق مع طبيعة التقاضي في الزمن المعاصر, وتعقيد القضايا, والظروف العملية التي تحكم إجراءات التقاضي, وطبيعة بعضها حيث يكون للأرقام الحسابية الكبيرة والعمليات المصرفية أو الأجهزة التقنية فيها دور بارز على سبيل المثال. وكذلك يراعي – هذا الأسلوب – مستوى القائمين على المرافعة من الناحية العلمية أو الفطرية فهو في متناول كل مجتهد ويسهل فيه الرجوع للمرافعة لمن فاته منها شيء خصوصاً القاضي الذي إذا اختلى بنفسه في محراب العدالة ليصدر حكمه فربما سقط عنه بعض ما ورد في مرافعة العضو لكن إن كانت المرافعة مكتوبة وقدمت للقاضي بعد إلقاءها لضمها بملف الدعوى سَهُلَ عليه الرجوع إليها متى شاء. وهذا الأسلوب يقتضي أن يُعِد المترافع مرافعته بعد دراستها دراسة مستفيضة وافية سواء قبل تداولها أو مما يَعِنُّ له أثناءه, فيكتبه أو يمليه كتابةً أو يمليه تسجيلاً – وفيهذا دُرْبَة ٌ له وتوطيداٌ للسانه على حسن الإلقاء في المحكمة – ويراجع ذلك مراراً, فإن جاء موعد المرافعة وضع ما أعد أمامه, ولمجرد شعوره أن ما أعده موجود أمامه, ويمكن الرجوع إليه وقت شاء يمنحه ثقة تغنيه عن الرجوع إليه, فينطلق مرتجلاً
ومرتباً أفكاره حسب ما أعد ولا بأس إن عاد بنظرات قصيرة إلى ما أمامه ليقرأ ما يعسر على الحفظ أو يتذكر ترتيب الأفكار فيتفادى الاسترسال في غير محله أو فوات ما يجب بيانه.

فكما قيل أن هذا الإعداد المكتوب خادمٌ جيد وسيد ضار, بمعنى أنك إن تركت الأوراق تمتلك زمامك انصرفت إلى التلاوة فهي السيد الضار, وان جعلتها في خدمتك ترجع إليها إذا اقتضت الحاجة فهي الخادم النافع”(1)

الرأي:
وأرىأن هذا الأسلوب علاوة على ما فيه من المحاسن سالفة الذكر فهو متوافق مع أهداف إقرار المرافعة فقهاً وقانوناً. فلو لم يكن هناك مرافعات مكتوبة لما عرفنا اليوم شيئا يسمى بالأدب القضائي, ولقصرت فائدة ما يقال في المحكمة على حضورها ولكن الكتابة تحفظه وتعمم الفائدة منه, فقديماً قالوا: ” كل سر فارق الإثنين شاع وكل علم ليس في القرطاس ضاع”

وحسناً فعل واضع التعليمات القضائية بالسلطنة حين وجه إلى حفظ مرافعة العضو التي يعدها في قضية ما بملف خاص لتكون من أسباب تقدير كفايته عند التفتيش القضائي. ولهذا حسنات
كثيرة حيث أنه سيشحذ همم الأعضاء في هذا المجال وينظر بعين التقدير للوقت والجهد اللذان بذلهما العضو في تلك المرافعة. ولقد فضل أسلوب الارتجال المكتوب جماعة من المستجيبين للإستبانة التي خُدم به هذا البحث وأبرزوا محاسنه.

المطلب الرابع : آداب المرافعة
سنحاول في هذا المطلب عرض أهم الآداب الأساسية التي يجب أن يتحلى بها المترافع سواء في مرحلة الإعداد للمرافعة أو مرحلة دراسة الدعوى أو مرحلة عرضها على شكل مرافعة أمام
المحكمة.
أولاً: الإلمام التام بقانوني الجزاء والإجراءات الجزائية خصوصاً والقوانين الأخرى عموماً وبالأحرى المرتبطة بمجال العمل.
فلابد للمترافع أن يهتم بقانون الجزاء والإجراءات الجزائية والقوانين المكملة واللوائح والقرارات التي يُعنى الادعاء العام بمباشرة الدعاوى الناشئة عن مخالفتها, وكذلك الأحكام القضائية الصادرة من محاكم الموضوع أو أحكام المحكمة العليا ومبادئها والشروحات الفقهية الواردة على القوانين العمانية منها أو العربية أو الأجنبية أن كان مجيداً للغتها – وحري به ذلك – وكذلك عليه أن يطلع بتوسع على علم الطب الشرعي وعلمي الإجرام والعقاب وعلم النفس الجنائي لما لهذه العلوم من وثيق الصلة بعمله كمحقق أو مترافع.

ثانياً: الإلمام بقواعد اللغة العربية والاهتمام بآدابها
وقد تقدم في هذا البحث الحديث عن ضرورة الاهتمام باللغة العربية كونها عصبُ المرافعةِ الرئيس(1) إلا أنه لا يفوتنا هنا الإشارة إلى أن أكبر مُعين للعضو في ذلك هو القرآن الكريم, وتفاسيره, وكتب الحديث النبوي الشريف, والسيرة العطرة, ثم الكتب التي عنيت بخدمة جوانب اللغة وآدابها, ككتب النحو, والصرف, والبلاغة, وكذلك الروايات, والخطب المشهورة, والمقالات الأدبية, وكتب
الأمثال, والحكم, والقواميس سيما الحديثة منها.

ثالثاً: يجب أن يكون المترافع ذا ثقافة عامة واسعة
وذلك من خلال التطوير المستمر لنفسه عن طريق تزويدها بكل جديد من العلوم المختلفة. وعليه أن يتقن التعامل مع وسائل التقنية الحديثة كالحاسوب والانترنت ويسخرها لخدمة أهدافه المتمثلة في الاستزادة من العلوم المختلفة, أو الاستعانة بها في مجال عمله(1), كما عليه أن يضع نصب عينه وجوب إجادة لغة رديفة للغة العربية وعلى رأسها اللغتان الإنجليزية والفرنسية كونهما لغة العلوم الحديثة. كل ذلك دون أن يلتفت عن الثقافة الإجتماعية التي يجب أن يكتسبها من خلال معايشته لمجتمعه والتفاعل معه. خلاصة القول أن على العضو أن لم يلم من كل فن بطرف.

رابعاً: يجب على العضو المترافع أن يتحلى بالهيئة الحسنة والوقار والسمت وأن يحافظ على المواعيد(2)
ولقد وضع الباحث حول هذا الموضوع سؤالاً في الإستبانة سالفة الذكر, ولم يحصد سؤالاً غيره إجماعاً في الإجابة كما حصده هو. إذ أجمعت جميع الشرائح على وجوب الظهور بهيئة حسنة أمام القضاء وبرروا ذلك – وقد أصابوا – بالحفاظ على هيبة المحكمة وتعزيز الشعور بقدسية القضاء وكذلك لتتميز هيئة المحكمة عن المحامين والجمهور.

ولقد استقر العمل على أن يرتدي عضو الادعاء العام عند حضور المحكمة الخنجر العماني والبشت العربي علاوة على الزي الرسمي العادي(1) ومؤخراً أضيفت البطاقة التعريفية التي يتوشحها العضو على صدره وتحمل اسمه ورتبته ليعرفه بها كل من شاهده سواء في المحكمة أو مقر العمل أو مراكز الشرطة أو مواقع المعاينة أو غيره, وإني أرى لهذا الأمر في نفسي بالغ التأييد. فذلك أدنى أن يعرف العضو فينزل منزلته اللائقة أنّى ولّى وجهه.

خامساً: يجب أن يكون المترافع قوي الملاحظة, حاضر البديهة, طلق اللسان, رابط الجأش, مراعياً لمقتضى الحال الذي يتحدث فيه.
فقوة الملاحظة تفيده في براعة الإستنتاج ومراقبة تأثير قوله في السامعين. وحضور البديهة يمكنه من التعامل مع كل مفاجئة غير محسوبة تظهر في الجلسة. وطلاقة اللسان تعينه على إنفاذ معاني قوله إلى قلوب سامعيه لذلك عليه أن يدرب نفسه على الخطابة وحسن الإلقاء وأن يأخذ بأسباب ذلك العلمية والعملية, وأن يتخلص من لوازمه الكلامية, إن كان ممن ابتـُلي بها, ورباطة الجأش تمنحه الثقة بالنفس والثبات, ومراعاة مقتضى الحال تجنبه الشطط والتجاوز كما تجنبه التقصير والتخاذل.

سادساً: الالتزام بالآداب العامة وحفظ هيبة الجهة التي ينتمى إليها
سواء كان ذلك متعلقاً بحياته الشخصية أو الوظيفية, فعلى عضو الادعاء أن ينأى بنفسه عن مواضع الريبة ويترفع عن كل دنيئة, فلا يُرى ولا يُسمع إلا في المواضع اللائقة بأمثاله. وكذلك في حياته الوظيفية ينبغي عليه إلتزام النزاهة والحياد في عمله, وعليه في قاعة المحكمة تجنب الدخول في مهاترات أو خدش الخصوم أو التعريض بالمتهم سواء كان ذلك إبتداء منه أو دفعه إليه محامي المتهم أو جره إليه المتهم نفسه لأن موقعه وصفته يقيدانه.

وأرى أنه في سبيل ذلك يجب على العضو أن لا يغشى الاجتماعات العامة للجمهور إلا بقدر ما تستلزم الضرورة. فلا يغرق نفسه في التعارف وفتح باب العلاقات الشخصية معه للجمهور؛ ليجنب نفسه حرج طلب الشفاعات مستقبلاً. ويكون ذلك من غير تفريط فلابد له من التعاطي مع مجتمعه كما أسلفنا ليكتسب الثقافة الإجتماعية التي تخوله فهم مجتمعه والتعبير عنه.

ولقد تفضل جلالة السلطان المعظم وأصدر أوامره السامية بأن يعامل أعضاء الادعاء العام معاملة أصحاب الفضيلة المشايخ القضاة في المحتفلات الرسمية للدولة كل بحسب رتبته الموازية في القضاء حسب قانون السلطة القضائية فعلى الأعضاء أن ينزلوا أنفسهم حيث أنزلهم ولي الأمر إذا ما غشوا تلك المحافل, وإن غُمّ هذا الأمر على احد – لحداثة هذه الوظيفة – فعلى العضو بحسب رأيي أن يُعلِم المعنيين بذلك, وهذا وإن ظهر في ثوب امتياز للعضو إلاّ أنه في حقيقته رفعة من شأن العدالة بتقدير القائمين عليها.

كما على العضو المترافع أن يحفظ للقاضي مقامه فيقف منه موقف الملتمس كون الأخير يمثل المحكمة وهي الجهة الأعلى كما عليه أن يبتعد كل البعد عن أسلوب المحاضر أو المعلم عند مخاطبته إياه.

سابعاً: طلب حكم الإعدام عند إيمانه بتوفر موجباته وكذلك طلب البراءة للمتهم الذي ظهرت في جلسة المحاكمة أدلة قاطعة على براءته.(1)
ففي كلا الأمرين تجسيد لمبدأ حياد الادعاء العام, ونيابته عن الهيئة الإجتماعية بما يحقق مصالحها وذلك بالنظر إلى عموم الهيئة الإجتماعية عند طلب الإدانة , ومصلحة المتهم كعضو فيها عند طلب البراءة.

ولقد رأينا من خلال بحثنا أن هذين الأمرين قد حازا جدلا بين المشتغلين بالقضاء والادعاء العام والفقهاء والمحامين على النحو الآتي:
أولاً: في طلب الحكم بالإعدام: يرى الفريق الأول أن حكم الإعدام يتعارض مع النواميس الطبيعية،حيث أنه لا ينزع الروح إلا واهبها. ويراه الفريق الثاني أمرا طبيعيا يقره التاريخ(اذ قامت عليه فكرة الحروب منذ القدم)، والعقل والمنطق والشرع والقانون.

أقول أن رأي الفريق الأول قد جانبه الصواب وجافى المنطق،إذ أن الشارع الحكيم أنزل في محكم كتابه قوله تعالى:”ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب “صدق الله العظيم. فالقصاص(إذا كان بالإعدام) وإن كان فيه إزهاق لروح إنسان إلا أن فكرته وهدفه وأثره منصب على إحياء الأنفس الأخرى.

ونمثل لذلك بحكم الله الذي أجراه على لسان الصحابي الجليل سعد ابن معاذ عندما حَكـّمه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلفائه السابقين من يهود بني قريضه حين خانوا المؤمنين فقضى بقتل الرجال منهم بعد أن قال مقولته الشهيرة التي ملأت الأرض والسماء”لقد آن لسعد أن لا يخشى في الله لومة لائم”.فنفذ أمر الله فيهم على يد المؤمنين المستخلفين من الله في أرضه،المنوط بهم إصلاح الفاسد وتقويم المعوج، فأعدم يومها ستمائة رجل منهم.

لذلك أرى أن على العضو ألا يخشى في الله لومة لائم, فلا يتراخى في طلب توقيع عقوبة الإعدام على من آمن أنه مستحق لها وفق القانون, بعدما يكون قد استفرغ وسعه وبذل أقصى عنايته في تحري الحق والإنصاف للمتهم ومنه.

ثانياً: في طلب البراءة
هناك انقسام في الآراء حول ما يجب أن يكون عليه موقف عضو الادعاء العام عند إحالة متهم إلى المحكمة بموجب أدلة اعتقد العضو ابتداءً أنها قادرة على تحصيل حكم الإدانة في حق المتهم إلا أنه في المحكمة تهاوت تلك الأدلة, فهل يطالب للمتهم بالبراءة؟ أم يفوض الأمر إلى المحكمة؟ أم يصر على طلب الإدانة كما ابتدأ الأمر ؟؟ وربما وضحت شقة الإختلاف من خلال الإستبيان
الذي أجريناه فلقد انقسمت الآراء على الوجوه سالفة الذكر. ولكن يمكن القول بأن أوضح الأقوال في هذه المسألة هي:

القول الأول:
أن عليه أن يفوض الأمر إلى المحكمة. لأن عضو الادعاء العام ممثل للمجتمع يحمل أمانة الدعوى العمومية فلا يجوز له التنازل عنها كما لا يجوز له التنازل عن استئنافه في الجلسة, وفي طلبه من المحكمة إعلان براءة المتهم تنازل عن الدعوى العمومية. وكون عضو الادعاء يمثل سلطة الاتهام فيجب أن لا يحيد عن ذلك الدور،وعليه أن يقدر الدليل قبل إحالة الدعوى إلى المحكمة فإن رأى أن أدلة الإدانة ضعيفة وغير كافية فعليه حفظ الدعوى وفق أحد أوجه الحفظ المقررة قانوناً, إلاّ أنه حين أحال الدعوى إلى المحكمة فلا أقل من أن يفوض الأمر إلى المحكمة إن تهاوت أدلة الاتهام ولا يطالب بالبراءة. ففي ذلك قطع منه بخطئه على مرئً ومسمع من الجمهور. كذلك على العضو أن يحسب حساب أن المحكمة ربما لن تسايره في طلبه للبراءة فتحكم بالإدانة وفي ذلك بالغ الحرج له وتصادم مع مجرى الأمور العادي, وتناقض أمام الجمهور بين المحكمة والادعاء العام.

كما أن هذا يثير إشكالية أخرى وهي في حالة طلب العضو للبراءة فهل سيلزم عليه استئناف الحكم الصادر بإدانة المتهم؟

أفاض علينا سعادة المدعي العام برد على هذا التساؤل بقوله: ” أن المحكمة هي صاحبة الرأي الأول والأخير وإليها منتهى الأمور في الدعوى, فالعضو في هذه الحالة غير ملزم بالاستئناف وإنما هو جوازي له يقرر به إن اقتنع بمسوغاته واستقامت لديه مبرراته”(1).

القول الثاني:أ
أن يطالب بالبراءة. لأن عضو الادعاء العام هو أمين على الدعوى العمومية وهو خصم شريف يهدف إلى تحقيق العدالة في المجتمع, وليس من العدالة في شئ أنه إذا سقطت أدلة الاتهام التي بموجبها أحيل المتهم للمحاكمة أن لا يطالب العضو الحاضر ببرائته كونه أحد أفراد المجتمع الذي يتحمل العضو مسؤولية تمثيله, ومراعاة مصالحه, وهذا ما حصل فعلاً في الواقع العملي حيث صدع بعض الزملاء من الأعضاء بطلب البراءة حين تهاوت أدلة الاتهام ضد المتهم. وإلى هذا الرأي مال أغلب المستجيبين في الاستبيان, كما رجحه الأستاذان سمير ناجي وأشرف هلال وبررا ذلك بأن فيه مداوة لنفس المتهم (المظلوم) الذي سقطت أدلة اتهامه.(1)

على أن الجدل قد حسم بالنسبة للواقع العملي القضائي في السلطنة فقد جاءت المادة 174 من التعليمات القضائية ونصت على أنه:- ” إذا كانت ظروف الدعوى تستوجب الحكمبالإعدام يتعين على عضو الادعاء العام أن لا يتراخى في طلب توقيع تلك العقوبة. وإذا ظهرت أثناء نظر الدعوى أدلة جديدة نافية للاتهام يتعين على عضو الادعاء العام طلب البراءة “.

الرأي:
أرى – بعد مشايعة الرأي الثاني – أن هناك فارقاً جوهرياً بين قولنا على العضو طلب البراءة إذا ما تهاوت أدلة الاتهام, وبين قولنا على العضو طلب البراءة للمتهم إذا ما ظهرت أدلة جديدة نافية للاتهام. عليه ربما يحيل الادعاء العام متهماً بموجب أدلة معينة, وفي الجلسة تسقط تلك الأدلة، ولكن ربما كانت هناك أدلة لم يتوصل إليها الادعاء قبل الإحالة, فتعجل العضو بطلب البراءة فيه تفويت على المحكمة في تحقيق الدعوى فلربما تصل لأدلة جديدة مثبتة للاتهام غير الأدلة التي سقطت. وإن قيل أن المحكمة غير مرتهنة برأي عضو الادعاء وإن طلب البراءة … أقول أن ذلك سيكون له تأثير كبير جداً على المحكمة في عدم مواصلة التحقيق في قضية تراجعت فيها سلطة الاتهام عن اتهامها لا بل طالبت بعكسه.

وعليه فإني أبارك دقة واضع التعليمات القضائية بالسلطنة حيث نص على أن ” طلب البراءة يكون عند ظهور أدلة جديدة نافية للاتهام ” لذلك أرى أن على العضو أن لا يتعجل في طلب البراءة لمجرد تهاوي أدلة الاتهام بل لابد من التمهل حتى إذا ظهرت أدلة جديدة تـُظهر براءة المتهم ظهور الشمس في رابعة السماء, أدلة لا تقبل إثبات العكس كما لا تقبل التأويل أو التحوير, عليه حينها أن يصدع بطلب البراءة للمتهم. ذلك أراه يحقق مزايا الرأي الأول ويتلافى عيوب الرأي الثاني ويتسق مع طبيعة رسالة الادعاء, أما إن كان الأمر دون ذلك – أي عند تهاوي أدلة الاتهام فقط – فعليه أن يفوض الأمر إلى عدالة المحكمة.

التوصيات
إن للمرافعة ضرورة بالغة نابعة من وثيق صلتها بإظهار الحق وتحقيق العدالة من جميع جوانبها, لذلك على عضو الادعاء الاهتمام بلغتها وإتقان أساليبها والإلتزام بآدابها وإيلائها قدراً عالياً من اهتمامه وفي سبيل ذلك أوصى بالآتي:
1- أن يرفع الادعاء العام توصية إلى مجلس التعليم العالي المشرف على كلية الحقوق بالسلطنة بوضع مساق دراسي يدرب فيه طالب الحقوق على المرافعة فهذا الطالب هو غداً أحد ثلاثة, إمّا قاضياً, أو عضواً, أو محامياً, ولا غنى للثلاثة عنها. وهذا أمر فاتنا عند دراستنا في الكلية رغم وجود قاعة محكمة مهيئة إلا أننا لم ندخلها إلاّ متفرجين على جدرانها حتى تخرجنا.

2- أوصي بتعُهد تدريب معاوني الادعاء العام على المرافعة على وجه الخصوص, وتأهيلهم في هذا الصدد بتمكينهم من أدواتها, سواء من باب الذخيرة اللغوية أو القانونية عن طريق الدورات المنهجية المتخصصة في البابين, أو الجوانب التطبيقية العملية من خلال ورش عمل تُجسَد فيها قاعة المحكمة ويتم توزيع الأدوار فيها حسب ما يراه القائمون على التدريب كفيلاً بتحقيق الغرض المنشود.

3- أن ينسق الادعاء العام مع أصحاب الفضيلة المشايخ القضاة لقعود معاوني الادعاء على جانب العضو بمنصة القضاء أسوة بمساعدي القضاة. لما في ذلك من إجهاز على الرِهاب الذي يمكن أن يتملك المعاون عند مواجهة القضاة والمحامين والجمهور لاحقاً بعد تعينه وكيل ادعاء عام ثان, كما أنه يحقق تواصلاً مباشراً للمعاون مع العضو الحاضر للجلسة لتلقي التوجيهات, والملاحظات المباشرة, ويعمق تجربة المعاون, ويزيد من خبرته سيما وأن فترة تدريب المعاونين طويلة جداً في السلطنة مقارنة بالدول الأخرى, ولو كان ذلك بعد إكمال السنة الأولى من التدريب على أقل تقدير.

ختاماً
أسال الله العلي القدير أن يقدر الخير كله لكاتبه وقارئه ومن أصاخ إليه سمعه وأصغاه. وأن يبلغنا منه ما رمنا من الغايات أنه أهل ذلك ووليه .. والحمد لله في الآخرة والأولى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع

1- النظام الأساسي الصادر بالمرسوم السلطاني رقم
(101/96)

2- قانون الإجراءات الجزائية الصادر بالمرسوم
السلطاني رقم (97/99).

3- قانون السلطة القضائية الصادر بالمرسوم
السلطاني رقم (90/99).

4- سمير ناجي وأشرف هلال, آداب مرافعة الادعاء
أصول وممارسات, ط1,المطبعة الذهبية, القاهرة, 2002م

5- الكتاب الذهبي للمحاكم الأهلية 1883-
1933,الجزء 1و2, ط2, مطبعة نادي القضاة,1990م.

6- د/الشريف, حامد, فن المرافعة أمام المحاكم
الجنائية, ط1, دار الفكر الجامعي, الإسكندرية, 2003م

7- التعليمات القضائية للادعاء العام , سلطنة عمان.

8- سمير ناجي , آداب مرافعة الاتهام للدورات
التدريبية لأعضاء النيابة العامة, سلسلة دراسات قضائية (1), المركز القومي
للدراسات القضائية بمصر.

9- كارينجي, ديل,
فن الخطابة كيف تكسب الثقة وتؤثر في الناس, ط1, الأهلية للنشر والتوزيع,
الأردن, 2001م.

10- هليل, فرج علواني, النيابة العامة والتعليمات
الصادرة إليها وقانون السلطة القضائية, دار المطبوعات الجامعية, الإسكندرية.

11- د/ مزهر جعفر عبيد, شرح قانون الإجراءات
الجزائية العماني, ج1, ط1, 2004م

12- ابن رشد, تلخيص الخطابة, وكالة المطبوعات
(الكويت), دار العلم (بيروت).

13- الحبسي, إبراهيم, آداب مرافعة الاتهام, بحث غير
منشور.

14- د/ محمود نجيب حسني, شرح قانون الإجراءات
الجزائية, ط3, دار النهضة العربية.

15- المعجم الوسيط.

16- أحمد رضا, معجم متن اللغة, المجلد الخامس, دار
مكتبة الحياة.

17- أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا, معجم مجمل
اللغة, ج4, مؤسسة الرسالة.

18- معجم لسان العرب.

19- المشعلاني, فؤاد, مرافعات مختارة (كتاب مصور).

20- د/ فوزي غرايبة, د/ نعيم دهمش, د/ ربحي الحسن,
د/ خالد أمين عبدالله, د/ هاني أبو جبارة, أساليب البحث العلمي في العلوم
الإجتماعية والإنسانية, الطبعة الثالثة, دار وائل للنشر والتوزيع, عمان/الأردن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *