حقيقة دستورية جريمتي السب والقذف في ظل التنظيم التشريعي

حقيقة دستورية جريمتي السب والقذف في ظل التنظيم التشريعي

 

المقدمة
يثير التنظيم القانونى المصرى لجريمتى السب والقذف إشكالية تنظيم الدولة لممارسة حرية التعبير وما تتضمنه من حريات فرعية: مثل حرية الصحافة، والحق فى المعرفة، والحق فى الإعلام، والحق فى النقد. كما تثير أيضا علاقة هذا التنظيم بنوعية القيود المقبولة على هذه الممارسة ومداها. وبعبارة أخرى يبرز أمامنا – فى هذا الصدد – السؤال التالى:
إلى أى مدى استطاع المشرع المصرى أن يحدد نقطة توازن مناسبة ومعقولة ومبررة اجتماعيا (أى مقبولة دستوريا) بين هذه الحريات والحقوق من ناحية، وبين الحق فى السمعة والاعتبار والحق فى الخصوصية من ناحية ثانية، وذلك عند تنظيمه لجريمتى السب والقذف؟
ويمكن إجمال خطتنا فى معالجة هذه الإشكالية على النحو التالى:
نفرد الفصل الأول لتبيان التنظيم التشريعى لجريمتى السب والقذف، وما يثيره من إشكاليات تفصيلية. ونبلور فى الفصل الثانى المبدأ المحورى الناظم لوجهة نظرنا، والذى يشكل نقطة انطلاق لتحديد زاوية رؤيتنا لموضوعنا. ونقصد به المبدأ القائل بأن على الدولة عند تصديها لتنظيم ممارسة الفرد لحقوقه وحرياته الأساسية أن تلتزم بالحد الأدنى المقبول فى الدول الديمقراطية. ومن ثم يترتب على ذلك ضرورة البدء بتحديد كيفية تنظيم هذه الأمور على صعيد القانون الدولى العام، وخاصة من خلال الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وتطبيقاتها القضائية؛ وهو ما يتناوله الفصل الثالث. وننتقل خطوة إضافية فى الفصل الرابع حيث نستعرض أحكام الدستور المصرى، والمبادئ التى استقرت عليها محكمتنا الدستورية العليا فى هذا المجال.
وبعد الانتهاء من تحديد الإطار العام وزاوية الرؤى ننتقل لدراسة اللوحة فى تفاصيلها؛ وذلك من خلال دراسة مقارنة للجوانب المختلفة للتنظيم القانونى لجريمتى السب والقذف فى النظم القانونية المختلفة، وخصصنا الفصل الخامس لهذه المهمة.
وبذلك نصبح مؤهلين لبلورة نظرة تقيمية لموضوع بحثنا، فنختتم دراستنا بالفصل السادس المخصص لهذا الغرض.

الفصــل الأول
تحديد نطاق الإشكالية
مقدمة:
فى البداية سنعرض للنصوص القانونية المصرية المنظمة لجريمتى السب والقذف. ثم ننتقل لصياغة ما يثيره هذا التنظيم من تساؤلات.
أولا: التنظيم التشريعى المصرى لجريمتى السب والقذف:-
1- المادة 302 من قانون العقوبات:-
“يعد قذفا كل من أسند لغيره بواسطة إحدى الطرق المبينة بالمادة 171 من هذا القانون أمورا لو كانت صادقة لأوجبت عقاب من أسندت إليه بالعقوبات المقررة لذلك قانونا أو أوجبت احتقاره عند أهل وطنه.
ومع ذلك فالطعن فى أعمال موظف عام أو شخص ذى صفة نيابية عامة أو مكلف بخدمة عامة؛ لا يدخل تحت حكم الفقرة السابقة إذا حصل بسلامة نية وكان لا يتعدى أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، وبشرط أن يثبت مرتكب الجريمة حقيقة كل فعل أسنده إليه. ولا يغنى عن ذلك اعتقاده صحة هذا الفعل.”
2- المادة 303 ع:-
“يعاقب على القذف بالحبس مدة لا تتجاوز سنة، وبغرامة لا تقل عن 2500 جنيه وبما لا تزيد عن 7500 جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.
فإذا وقع القذف فى حق موظف عام أو شخص ذى صفة نيابية عامة أو مكلف بخدمة عامة، وكان ذلك بسبب أداء الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة؛ كانت العقوبة الحبس مدة لا تتجاوز سنتين، وغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.”
3- المادة 306 ع:-
“كل سب لا يشتمل على إسناد واقعة معينة بل يتضمن بأى وجه من الوجوه خدشا للشرف أو الاعتبار يعاقب عليه فى الأحوال المبينة بالمادة 171 بالحبس مدة لا تتجاوز سنة، وبغرامة لا تقل عن ألف جنيه ولا تزيد على خمسة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.”
4- المادة 307 ع:-
“إذا ارتكبت جريمة من الجرائم المنصوص عليها فى المواد من 182 إلى 185، 303، 306 بطريق النشر فى إحدى الجرائد أو المطبوعات رفعت الحدود الدنيا والقصوى لعقوبة الغرامة المبينة فى المواد المذكورة إلى ضعفيها.”

ثانيا: تساؤلات تمهيدية:-
ويثير هذا التنظيم التشريعى لجريمتى السب والقذف عدة أمور حول مدى دستورية عناصره المختلفة؛ وذلك على التفصيل التالى :
1- هناك مسألة أولية حول منطق التجريم ذاته، هل هناك ضرورة اجتماعية ترجح اللجوء إلى المسائلة الجنائية للحفاظ على الحق فى الشرف والاعتبار، والحق فى الخصوصية؟، وألا يكفى اللجوء إلى منطق المسائلة المدنية لتحقيق هذه الأغراض؟ (لمواجهة ظاهرة الإفراط فى التجريم، والتعسف فيه).
2- هل الأغراض المتوخاة من العقاب الجنائى بسلب الحرية (ردع عام، وردع خاص، وإعادة تأهيل الجانى) لا يمكن تحقيقها بوسائل أخرى سواء جزاء مالى جنائى أو تعويض مالى مدنى؟ (لمواجهة ظاهرة الإفراط فى العقاب السالب للحرية، والتعسف فى تقريره).
3- هل كل صور القذف والسب على قدم المساواة فيما يختص بالخيار بين الطريق الجنائى والطريق المدنى؟
4- إشكالية تحديد الموضوعات التى تؤثر فى المصلحة العامة، وما هى الضرورة الاجتماعية فى اتخاذ معيار الأشخاص وليس الأفعال لتحديدها؟
5- ما هى الضرورة الاجتماعية الداعية للخروج على القواعد العامة فى الإثبات الجنائى، ويتمثل هذا الخروج فى نقل عبء الإثبات من على جهة الاتهام ليثقل به كاهل المتهم؟
6- ما هى الضرورة الاجتماعية للتضييق من نطاق الحق فى النقد؟
7- ما هى الضرورة الاجتماعية للتضييق من نطاق قواعد الإباحة؟
8- ما هى الضرورة الاجتماعية لعدم التعويل على حسن نية القاذف أو اعتقاده فى صحة ما نسبه إلى المقذوف فى حقه؟
9- كيف يمكن إقامة التوازن بين الحق فى حماية السمعة والاعتبار، والحق فى الخصوصية من جانب، وحرية الصحافة، والحق فى الإعلام، وحـق النقد (حرية التعبير بطابعها الـمركب)؟ وأى جـانب أجـدر بتغليب حـمايته عنـد تعـذر إقـامـة هذا التوازن؟
10- ما هى الضرورة الاجتماعية الداعية إلى عدم التعويل على صحة الوقائع المنسوبة للشخصية العامة منفردة لإباحة القذف؟
وسوف نتناول هذا التنظيم من خلال هذه الإشكاليات معتمدين أساسا على المعيار الذى سنته محكمتنا الدستورية العليا؛ والقاضى باستجابة تنظيم الدولة للحريات العامة للمقتضيات الديموقراطية، وهو ما يقتضى معالجة الأمر على الصعيد الدولى، ثم على صعيد الدستور المصرى؛ لبلورة نظرة تقييمية لتلك النصوص.

الفصل الثانى
مبدأ ضرورة استجابة الدولة عند تنظيمها للحريات العامة للمقتضيات الديموقراطية
يثير موضوع جريمة القذف إشكالية حرية التعبير وحرية الصحافة، والحق فى المعرفة والإعلام، والحق فى الخصوصية، والحق فى النقد، وبعبارة أخرى يتصل بالتنظيم الدستورى للحريات العامة باعتبار أن حرية التعبير عن الرأى هى الحرية الأصل، وهو ما يحدونا – طالما تعلق الأمر بالحريات العامة – إلى استهلال ورقتنا بالمبدأ الدستورى العظيم الذى أرسته محكمتنا الدستورية العليا، والذى يشكل فتحا باهرا ليس فقط لمجتمعنا، وإنما أيضا للمجتمع البشرى ككل، لما تمثله أحكام المحاكم الدستورية من أهمية تتجاوز الأقطار التى تنتسب إليها تلك المحاكم. كما تزداد أهمية هذا المبدأ باعتباره أداة تحليلية تساعدنا ليس فقط فى تحديد مادة بحثنا ومجالها، أو بعبارة أخرى تحديد زاوية الرؤية؛ وإنما يساعدنا أيضا فى وزن وتقييم الجوانب المختلفة للتنظيم القانونى محل البحث.
أولا: تحديد مبدأ التزام الدولة فى مجال حقوق المواطن وحرياته الأساسية بالحد الأدنى المقبول فى الدول الديموقراطية من واقع أحكام محكمتنا الدستورية:
استقر قضاء المحكمة على صياغة هذا المبدأ على النحو التالى:
“وحيث إن الدستور ينص فى مادته الأولى على أن جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديموقراطى اشتراكى، وفى مادته الثالثة على أن السيادة للشعب، وهو يمارسها ويحميها على الوجه المبين فى الدستور، وفى مادته الرابعة على أن الأساس الاقتصادى لجمهورية مصر العربية هو النظام الاشتراكى الديموقراطى
وحيث إن مؤدى هذه النصوص – مرتبطة بالمادة 65 من الدستور – أنه فى مجال حقوق المواطن وحرياته الأساسية، فإن مضمون القاعدة القانونية التى تسمو فى الدولة القانونية عليها، وتتقيد هى بها، إنما يتحدد على ضوء مستوياتها التى التزمتها الدول الديموقراطية باطراد فى مجتمعاتها، واستقر العمل بالتالى على انتهاجها فى مظاهر سلوكها المختلفة، وفى هذا الإطار، والتزاما بأبعاده، لا يجوز للدولة القانونية فى تنظيماتها المختلفة أن تنزل بالحماية التى توفرها لحقوق مواطنيها وحرياتهم عن الحدود الدنيا لمتطلباتها المقبولة بوجه عام فى الدول الديموقراطية، ولا أن تفرض على تمتعهم بها أو مباشرتهم لها قيودا تكون فى جوهرها أو مداها مجافية لتلك التى درج العمل فى النظم الديموقراطية على تطبيقها، بل أن خضوع الدولة للقانون محددا على ضوء مفهوم ديموقراطى مؤداه ألا تخل تشريعاتها بالحقوق التى تعتبر التسليم بها فى الدول الديموقراطية مفترضا أوليا لقيام الدولة القانونية، وضمانة أساسية لصون حقوق الإنسان وكرامته وشخصيته المتكاملة.”1

ثانيا: تحديد نطاقه:-
يقدم هذا المبدأ المعيار المحورى الذى على هديه نستطيع محاكمة التنظيم الذى تضعه الدولة لحرية ما لتحديد مدى مشروعيته الدستورية، وعلينا فى البداية أن نقر أن هذه القاعدة يتم إعمالها فى مواجهة التشريع العادى ولا تمتد لتستخدم قضائيا فى مواجهة الدستور، حيث لا توجد رقابة قضائية على نصوص الدستور بينما توجد هذه الرقابة على التشريع العادى. وإنما تستمد وزنها من كونها أضحت مبدأ قضائيا دستوريا محليا أرسته محكمة مصرية لها وزنها واعتبارها بحكم الدستور، كما لا يوجد ما يمنع من استخدامها قضائيا لإعادة تفسير مواد الدستور لرفع تنافر بعض نصوصه مع مضمون هذه القاعدة، أو لإزالة الغموض والإبهام المكتنف بعض نصوصه استرشادا بهذه القاعدة، أو لتحديد مضمون ونطاق وحدود الحريات والحقوق الأساسية الجديرة بالحماية الدستورية.
وعند قراءة الحكم السابق بدقة يتبين لنا بيسر أن هذه القاعدة الجوهرية ثلاثية الأبعاد؛ حيث تنحل إلى ثلاث قواعد بالغة الأهمية؛ فتختص القاعدة الأولى بمستوى الحماية القانونية لحرية ما، فى حين تتمحور القاعدة الثانية حول نطاق القيود المقبولة على هذه الحرية، وأخيرا تعالج القاعدة الثالثة نطاق الحريات المشمولة بالحماية القانونية.
فيما يختص ببعد مستوى الحماية القانونية لا يجوز أن تقل الحماية التى توفرها الدولة عن الحد الأدنى من الحماية المقبولة فى المجتمعات الديموقراطية، ويفتح هذا البعد الباب لإعمال القواعد الواردة فى القانون الدولى العام، خاصة تلك المتضمنة فى الشرعية الدولية لحقوق الإنسان، كما يفتح الباب للاسترشاد بالقواعد المشتركة بين النظم القانونية المختلفة على صعيد العالم؛ بوصفها تمثل الحد الأدنى المقبول.
وفيما يختص ببعد نطاق القيود المقبولة فهذا البعد إنما يعنى أن القيود المقبولة هى تلك القيود التى درج العمل على تطبيقها فى هذه النظم، ويفتح هذا البعد الباب لإعمال المعيار الثلاثى الأبعاد الخاص بالقيود المقبولة الذى بلورته المحكمة الأوروبية.
أما فيما يتعلق ببعد نطاق الحريات المشمولة بالحماية القانونية فإنه يعنى عدم إخلال التشريعات ليس فقط بالحقوق الواردة صراحة فى صلب الدستور، وإنما أيضا عليها ألا تخل بالحقوق الأخرى، والتى تشكل مفترضاً أولياً فى المجتمع الديموقراطى لقيام الدولة القانونية، والتى تعتبر ضمانة أساسية لحقوق الإنسان وكرامته الشخصية. وهذا البعد هو جوهر المبدأ المستقر لدى محكمتنا الدستورية العليا، والقائل بتقدمية الدستور، ويفتح هذا البعد الباب أمام كفالة حريات لم ترد ضمن الوثيقة الدستورية، سواء لأنها حريات تم استحداثها بعد إعلان الدستور، أو لأن المشرع الدستورى تجاهلها لسبب أو لآخر.
وحيث إن حرية التعبير تندرج ضمن الحريات الأساسية، فإن تنظيم المشرع لها يخضع لهذه القاعدة بأبعادها الثلاث، ومن ثم تضحى كافة الحقوق الفرعية المنضوية فى حق التعبير مشمولة بالحماية القانونية المبسوطة على حرية التعبير. أى أن حق المعرفة وحق النقد..الخ تستظل بتلك الحماية، كما أن مستوى الحماية المقرر فى القانون المصرى لحرية التعبير يخضع للمراجعة استنادا إلى البعد الأول، ويسرى البعد الثانى عند مراجعة القيود الواردة فى التشريع المصرى على حرية التعبير. أى أن كيفية تنظيم حرية التعبير على المستوى الدولى والإقليمى والقانون المقارن، تصلح للاستخدام مباشرة للحكم على كيفية تنظيم المشرع لجريمتى السب والقذف باعتباره قيدا على حرية التعبير، ومن هنا تأتى أهمية استعراض القضية على هذا المستوى ابتداء.

الفصل الثالث
القانون الدولى وحرية التعبير
أولا: المواثيق الدولية والإقليمية:-
كفلت مواثيق حقوق الإنسان الدولية والإقليمية حرية الرأى والتعبير وحرية الصحافة.
1- الإعلان العالمى لحقوق الإنسان:
المادة 19:-
“لكل شخص الحق فى حرية الرأى والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أى تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية.”
المادة 29 :-
“1- على كل فرد واجبات نحو المجتمع الذى يتاح فيه وحده لشخصيته أن تنمو نموا حرا كاملا.
2- يخضع الفرد فى ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التى يقررها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها، ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق فى مجتمع ديموقراطى.”
المادة 30 :-
“ليس فى هذا الإعلان نص يجوز تأويله على أنه يخول لدولة أو جماعة أو فرد أى حق فى القيام بنشاط أو تأدية عمل يهدف إلى هدم الحقوق والحريات الواردة فيه.”
2- العهد الدولي بشأن الحقوق المدنية والسياسية:
المادة 19 :-
“1- لكل فرد الحق فى اتخاذ الآراء دون تدخل.
2- لكل فرد الحق فى حرية التعبير، وهذا الحق يشمل حرية البحث عن المعلومات أو الأفكار من أى نوع واستلامها ونقلها بغض النظر عن الحدود وذلك إما شفاهة أو كتابة أو طباعة وسواء كان ذلك فى قالب فنى أو بأية وسيلة أخرى يختارها.
3- ترتبط ممارسة الحقوق المنصوص عليها فى الفقرة (2) من هذه المادة بواجبات ومسئوليات خاصة. وعلى ذلك، فإنها قد تخضع لقيود معينة ولكن فقط بالاستناد إلى نصوص القانون والتى تكون ضرورية :
(أ) من أجل احترام حقوق أو سمعة الآخرين.
(ب) من أجل حماية الأمن الوطنى أو النظام العام أو الصحة العامة أو الأخلاق.”
المادة 20 :-
“1- تمنع بحكم القانون كل دعاية من أجل الحرب.
2- تمنع بحكم القانون كل دعوة للكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية من شأنها أن تشكل تحريضا على التمييز أو المعاداة أو العنف.”
3- الميثاق الأفريقى لحقوق الإنسان والشعوب:
المادة 9 :-
“1- كل فرد له الحق فى الحصول على معلومات.
2- كل فرد له الحق فى التعبير ونشر آرائه فى إطار القانون.”
المادة 27 :-
“2- تمارس الحقوق والحريات لكل فرد مع احترام حقوق الآخرين والأمن الجماعى والأخلاقيات والصالح العام.”
المادة 29 :-
“سيكون أيضا على الفرد واجب :
3- عدم تعريض الأمن العام للدولة التى هى وطنه ومحل إقامته للخطر.”
4-الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان:
وتتوافر حالياً العديد من أحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان وتقارير اللجنة الأوروبية المعنية بحقوق الإنسان التى طبقت هذه الاتفاقية، الأمر الذى يسمح باستقراء كيفية التطبيق القضائى لحماية حرية التعبير، وحدودها ونطاقها3. تنص الفقرة الأولى من المادة 19 من الاتفاقية الأوروبية على :
“لكل فرد الحق فى حرية التعبير. وهذا الحق يتضمن الحق فى تبنى الآراء وتلقى ونقل المعلومات والأفكار بدون تدخل من قبل المصلحة العامة وبعض النظر عن الحدود.”
ووفقا للفقرة الثانية من هذه المادة، فإن ممارسة هذه الحقوق يمكن أن تخضع “للأوضاع والشروط والقيود والجزاءات المنصوص عليها فى القانون والضرورية فى مجتمع ديموقراطى، وذلك من أجل حماية مختلف المصالح الفردية والعامة.
ثانيا: تطبيقات المحاكم والأجهزة الدولية الأخرى والمتعلقة بحرية التعبير:-
من استعراض التطبيقات القضائية الدولية لمضمون ونطاق حرية التعبير نستخلص ستة مبادئ هامة ذات صلة بموضوعنا؛ وهى :-
1- التعسف فى الجزاء يخل بجوهر حرية التعبير طالما تعلق الأمر بالمصلحة العامة.
2- حرية التعبير هى قاعدة كل تنظيم ديموقراطى.
3- القيود المقبولة على حرية التعبير.
4- امتياز الأمور المتصلة بالشأن العام.
5- خضوع السلطة التقديرية للدولة فى تنظيم الحريات للرقابة القضائية الصارمة.
6- خضوع الحرية/ التقييد لقاعدة التفسير الموسع/ الضيق.
وسنعالج كل مبدأ فيما يلى:
1- التعسف فى الجزاء يخل بجوهر حرية التعبير طالما تعلق الأمر بالمصلحة العامة:
“تمنح حرية الصحافة للجمهور واحدة من افضل الأساليب لاكتشاف وتشكيل الرأى حول أفكار قادتهم السياسية واتجاهاتهم، وتفسح – وبشكل خاص – أمام السياسيين الفرصة ليعبروا ويعلقوا على ما يشغل بال الرأى العام، وهى بهذا تجعل فى مكنة كل فرد المساهمة فى الحوار السياسى الحر والذى يعد جوهر مفهوم المجتمع الديموقراطى.”4 وفى هذا الصدد فإن الجزاءات التى توقع ضد الصحافة لقيامها بنشر المعلومات والآراء حول الموضوعات المرتبطة بالمصلحة العامة لا يمكن تقبلها إلا فى حدود ضيقة ويتأتى هذا مما قد تثيره من احتمال “اثباط همم الصحفيين عن المساهمة فى المناقشة العامة فى الشئون التى تؤثر فى حياة الجماعة.”5
2- حرية التعبير هى قاعدة كل تنظيم ديموقراطى:
تضمنت القوانين الوضعية للعديد من الدول الديموقراطية حماية قانونية لحرية التعبير، بوصفها من الحريات العامة. ويتوافر عدد هائل من الدعاوى التى تسنى فيها للمحاكم الدستورية المختلفة أن تتصدى لفحص حرية التعبير مجلية أهم المبادئ الدستورية المرتبطة بها.
ومن أبرز وأهم التطبيقات القضائية ذات الصلة بموضوعنا، التفسير الذى تبنته المحكمة الهندية العليا، حيث قضت : تشكل الصحافة السلطة الرابعة فى الدولة ومع أن الدستور الهندى لم يتضمن نصاً صريحاً يقضى بكفالة حرية الصحافة إلا أن المحكمة قررت امتداد الحماية الدستورية إليها بطريقة ضمنية وذلك استناداً إلى الحماية والكفالة الدستورية الممنوحة لحرية التعبير، وذهبت المحكمة إلى إجلاء الأغراض الاجتماعية التى تحققها حرية التعبير وحددتها المحكمة فى أربعة أغراض عريضة هى :
1- مساعدة الفرد فى التحقيق الكامل لذاتيته.
2- المساعدة فى كشف الحقيقة.
3- تعظيم قدرة الفرد على المساهمة فى المجتمع الديموقراطى.
4- توفير آلية لتحقيق توازن معقول بين الاستقرار والتغيير الاجتماعى.
أن ما تضمنه هذا الحكم من تفسير إنما يصف بدقة الدور البارز فى النظام الديموقراطى الذى تضطلع به حرية التعبير.
3- القيود المقبولة على حرية التعبير:
من مطالعة المواثيق المشار إليها فيما سبق يتضح أن جميعها قد أخذت بالمعيار الثلاثى الأبعاد عند تحديد مدى مشروعية القيود المفروضة على حرية التعبير، والمتمثل فى:
1- أن أى قيد يجب أن ينص عليه القانون.
2-يجب أن يستهدف القيد غرضاً من الأغراض المشروعة المحددة حصرا فى نص المعاهدة.
3- يجب أن يكون القيد ضرورياً فى سياق النظام الديموقراطى.6
وعلى الرغم من اختلاف طريقة صياغة القيود المقبولة فى الميثاق الأفريقى مقارنة بالمواثيق الأخرى ومع هذا يظل من الممكن تفسير الصياغة الأفريقية بطريقة تتضمن متطلبات مشابهة.7
3-1) – وجود ضرورة مجتمعية للقيد أو الجزاء:
لا يشترط لاعتبار التقييد “ضرورياً” أن يثبت أنه “لا يمكن الاستغناء عنه” وإنما يعنى وضعاً أقل من ذلك وفى نفس الوقت أكثر من مجرد كونه “معقول” أو “مقبول”؛ إذ ينبغى إقامة الدليل على وجود “احتياج مجتمعى ملح” لهذا التقييد.
3-2) – تناسب القيد/ الجزاء مع الغرض المشروع الذى يستهدفه:
وعلاوة على كل ما تقدم يجب أن يكون التقييد متناسباً مع الغرض المشروع المقصود.
كما يجب أن تكون الأسباب المبنى عليها هذا التقييد منتجة وكافية8. وفى هذا السياق قضت المحكمة الأمريكية بأن التقييد يجب أن يكون “ضرورياً لتأمين” غرض من الأغراض المشروعة، ويجب أن ينسجم هذا التقييد مع معايير الضرورة كما حددتها المحكمة الأوروبية.9
وكان هذا النهج هو ذات النهج الذى اتبعته العديد من المحاكم الدستورية، وخير مثال على ذلك ما قضت به المحكمة الأمريكية العليا من أنه “حتى وبالرغم من أن غرض الحكومة قد يكون مشروعا وقويا، فإن هذا الغرض لا يتأتى أن يتحقق باستخدام وسائل تخنق بشكل واسع الحريات الشخصية الأساسية، طالما يمكن تحقيق هذا الغرض بقدر أقل من التقييد.”10
3-3) – ضرورة توافق القيد/ الجزاء مع متطلبات النظام الديموقراطى:
تنص المواثيق الأربعة سالفة الذكر على شرط توافق التقييد مع النظام الديموقراطى.11 ومن ثم فإن متطلبات النظام الديموقراطى سوف تكون هى المحور لتفسير ما تقصده هذه المواثيق لتبيان مدى مشروعية أى قيد. ويتضح من مطالعة هذه المواثيق أن ابرز هذه المتطلبات إنما هو الإقرار بأن أفضل طريقة لتأمين صيانة وتحقيق حقوق الإنسان وحرياته الأساسية إنما يعتمد من ناحية على ديموقراطية سياسية فعالة، ويعتمد من ناحية ثانية على توافر التفاهم المشترك ومراعاة حقوق الإنسان.12
4- امتياز الأمور المتصلة بالشأن العام:
وحتى يتسنى تحديد مدى “كفاية” الأسباب المقدمة لتبرير التقييد على حرية التعبير، عولت المحكمة الأوروبية على الوجه المتعلق بالمصلحة العامة فى الدعوى13. فعندما تكون المعلومات المعرضة للتقييد متعلقة باهتمام ذو طبيعة عامة وهذه الطبيعة ليست محل منازعة، فلا يسمح بتقييدها إلا عندما يتوافر دليل قاطع بأن إفشاءها من شأنه أن ينجم عنه عواقب واضحة تبرر تخوفات الدولة14. كما أن مستوى التقييد يجب أن يكون متناسباً، فلا يقبل بشكل قاطع التقييد المطلق، فالمحكمة لا تجيز التدخل فى حرية التعبير إلا إذا اقتنعت بأن هذا التدخل ضرورى بالنظر إلى الحقائق والملابسات السائدة فى كل حالة على حدة.15
5- خضوع السلطة التقديرية للدولة فى تنظيم الحريات للرقابة القضائية الصارمة:
فى كل الأحوال وحينما ترغب دولة فى فرض قدر من التقييد على حق من حقوق الإنسان، أو على حرية من الحريات الأساسية، فإنه تتوافر سلطة تقديرية للحكومة؛ تتمثل فى سلطتها فى تقدير ضرورة هذا التقييد. ومع هذا، فإنه من المقطوع به أن لهذه السلطة التقديرية حدود لا يجوز للحكومة تجاوزها، ومن ثم تخضع لشكل من الرقابة، مثلما ذهبت المحكمة الأوروبية بقولها بأن هذه السلطة التقديرية “تتواجد إلى جانبها الرقابة الأوروبية”.16
وتتسم هذه الرقابة بالدقة ولا تنحصر بالضرورة فى مجرد التحقق من ما إذا كانت الحكومة قد مارست حريتها فى التصرف بشكل معقول وبحرص وبحسن نية، وإنما تمتد لتشمل التحقق من أن ضرورة أى قيد قد ثبتت بشكل مقنع17. ويجب ملاحظة أن نطاق هذه السلطة التقديرية يتفاوت بحسب الغرض الذى من اجله تستهدف الحكومة تقييد الحق أو الحرية. فغرض حماية الأخلاق مثلا يستدعى تمتع الحكومة بسلطة تقديرية أكثر اتساعاً مقارنة بباقى الأغراض المشروعة الأخرى.18
6- خضوع الحرية/ التقييد لقاعدة التفسير الموسع/ الضيق:
ومع وجود هذه السلطة التقديرية يظل سريان المبدأ القائل بأن التقييد ينبغى تفسيره تفسيراً ضيقاً يرجح ممارسة الحرية نفسها، على اعتبار أن الأصل هو الحرية وأن القيد مجرد استثناء يرد على الأصل، ومن ثم يقبل التفسير الواسع فى فهم وتحديد الأصل ولا يؤخذ إلا بالتفسير الضيق عند تحديد الاستثناء، بحيث لا ينقلب الوضع ليضحى الاستثناء هو القاعدة. وعند الموازنة بين تقييد الحرية وممارستها فإن المستقر قضائياً أن المحكمة “لا تكون بصدد الاختيار بين مبدأين متنازعين، وإنما تكون أساساً بإزاء مبدأ حرية التعبير المعرض لعدد من الاستثناءات التى ينبغى تفسيرها تفسيراً ضيقاً”.19 وعندما أعادت المحكمة الأمريكية التأكيد على ما سبق أن استخلصته المحكمة الأوروبية من مبادئ؛ فإنها قامت بالتصدى لفحص حدود مبدأ التفسير الضيق.20

الفصل الرابع
التنظيم الدستورى المصرى لحرية التعبير
هنا يلزمنا استعراض الدستور المصرى لنحدد نطاق حماية حرية التعبير فيه، سواء على ضوء نصوص الدستور ذاتها أو على ضوء المبادئ التى أرستها محكمتنا الدستورية العليا.
أولا: نطاق حرية التعبير وفقا للدستور المصرى:
للإلمام بخطة المشرع الدستورى فيما يتعلق بحرية الرأى والتعبير، يلزمنا استعراض عدة مواد دستورية وقراءاتها معا، إعمالا للمبدأ الدستورى القائل بأن نصوص الدستور متساندة ومتكاملة، وفى ذلك الاتجاه قضت محكمتنا الدستورية العليا بأنه:
“وحيث إن الأصل فى النصوص الدستورية، أنها تفسر بافتراض تكاملها، باعتبار أن كلا منها لا ينعزل عن غيره، وإنما تجمعها تلك الوحدة العضوية التى تستخلص منها مراميها، ويتعين بالتالى التوفيق بينها، بما يزيل شبهة تعارضها ويكفل اتصال معانيها وتضامنها، وترابط توجهاتها وتساندها، ليكون ادعاء تماحيها لغوا، والقول بتآكلها بهتانا”.21
كما يلزمنا استحضار النطاق الدستورى لحدود سلطة الدولة عند قيامها بتنظيم الحقوق والحريات العامة وفى ذلك استقرت محكمتنا الدستورية العليا على:
“وحيث إن الدساتير المصرية المتعاقبة قد حرصت جميعها منذ دستور سنة 1923على تقرير الحريات والحقوق العامة فى صلبها، قصدا من الشارع الدستورى أن يكون النص عليها فى الدستور قيدا على المشرع العادى فيما يسنه من قواعد وأحكام، وفى حدود ما أراده الدستور لكل منها، من حيث إطلاقها أو جواز تنظيمها تشريعيا فإذا خرج المشرع فيما يقرره من تشريعات على هذا الضمان الدستورى، بأن قيد حرية أو حقا ورد فى الدستور مطلقا أو أهدر أو انتقص من أيهما تحت ستار التنظيم الجائز دستوريا، وقع عمله التشريعى مشوبا بعيب مخالفة الدستور.”22
وعندما يحيل النص للقانون مهمة تنظيم هذه الحريات والحقوق وتحديد تخومها، فلا ينبغى أن يفهم هذا النص على أنه يمنح المشرع العادى سلطة مطلقة فى فرض الحدود، ذلك أنها يحدها أربعة قيود :
1- على التنظيم التشريعى ألا يصادر الحق أو الحرية.
2- عليه ألا ينتقص من الحق أو الحرية.
3- عدم جواز فرض قيود باهظة على الحرية أو الحق.
4- مراعاة القيود الواردة فى الدستور التى تحد من نطاق سلطته.23
1- المادة 47 :
“حرية الرأى مكفولة، ولكل إنسان التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير فى حدود القانون، والنقد الذاتى والنقد البناء ضمان لسلامة البناء الوطنى.”
2- المادة 48 :
“حرية الصحافة والطباعة والنشر ووسائل الإعلام مكفولة، والرقابة على الصحف محظورة وإنذارها أو وقفها أو إلغاؤها بالطريق الإدارى محظور، ويجوز استثناءً فى حالة إعلان الطوارئ أو فى زمن الحرب أن يفرض على الصحف والمطبوعات ووسائل الإعلام رقابة محددة فى الأمور التى تتصل بالسلامة العامة أو أغراض الأمن القومى، وذلك كله وفقا للقانون.”

ثانيا: نطاق حرية التعبير من واقع أحكام المحكمة الدستورية:
1- حرية التعبير هى الحرية الأصل:
ذهبت المحكمة إلى :
“وحيث إن ضمان الدستور – بنص المادة 47 منه – لحرية التعبير عن الآراء والتمكين من عرضها ونشرها، سواء بالقول أو بالتصوير أو بطباعتها أو بتدوينها وغير ذلك من وسائل التعبير، قد تقرر بوصفها الحرية الأصل التى لا يتم الحوار المفتوح إلا فى نطاقها، وبدونها تفقد حرية الاجتماع مغزاها، ولا تكون لها من فائدة، وبها يكون الأفراد أحرارا لا يتهيبون موقفا، ولا يترددون وجلا، ولا ينتصفون لغير الحق طريقا.”
2- عدم دستورية القيود المتعسفة على حرية التعبير:
“وحيث إن ما توخاه الدستور من خلال ضمان حرية التعبير، هو أن يكون التماس الآراء والأفكار، …،
لا يحول دون ذلك قيد يكون عاصفا بها، مقتحما دروبها، ذلك أن لحرية التعبير أهدافا لا تريم عنها، ولا يتصور أن تسعى لسواها، هى أن يظهر من خلالها ضوء الحقيقة جليا، فلا يداخل الباطل بعض عناصرها، ولا يعتريها بهتان ينال من محتواها.”
3- الدستور يحمى حرية التعبير عن الآراء الخاطئة، طالما تعلق الأمر بالمصلحة العامة:
وذهبت فى موضع ثالث إلى أن :
“وحيث إن حرية التعبير التى تؤمنها المادة 47 من الدستور، ابلغ ما تكون آثرا فى مجال اتصالها بالشئون العامة، وعرض أوضاعها تبيانا لنواحى التقصير فيها، وتقويما لاعوجاجها، وكان حق الفرد فى التعبير عن الآراء التى يريد إعلانها، ليس معلقا على صحتها، ولا مرتبطا بتمشيها مع الاتجاه العام فى بيئة بذاتها، ولا بالفائدة العملية التى يمكن أن تنتجها. وإنما أراد الدستور بضمان حرية التعبير أن تهيمن مفاهيمها على مظاهر الحياة فى أعماق منابتها، بما يحول بين السلطة العامة وفرض وصايتها على العقل العام public mind، فلا تكون معاييرها مرجعا لتقييم الآراء التى تتصل بتكوينه، ولا عائقا دون تدفقها.”
4- لا يجوز أن يكون القيد/العقوبة عائق/ قامع لحرية التعبير:
“وحيث إن من المقرر كذلك أن حرية التعبير، وتفاعل الآراء التى تتولد عنها، لا يجوز تقييدها بأغلال تعوق ممارستها، سواء من ناحية فرض قيود مسبقة على نشرها، أو من ناحية العقوبة اللاحقة التى تتوخى قمعها، بل يتعين أن ينقل المواطنون من خلالها – وعلانية – تلك الأفكار التى تجول فى عقولهم، فلا يتهامسون بها نجيا، بل يطرحونها عزما – ولو عارضتها السلطة العامة – إحداثا من جانبهم – وبالوسائل السلمية – لتغيير قد يكون مطلوبا. فالحقائق لا يجوز إخفاؤها، ومن غير المتصور أن يكون النفاذ إليها ممكنا فى غيبة حرية التعبير.”
5- حرية التعبير هى قاعدة كل تنظيم ديموقراطى:
“أن حرية التعبير التى كفلها الدستور هى القاعدة فى كل تنظيم ديموقراطى، لا يقوم إلا بها، ذلك أن أهم ما يميز الوثيقة الدستورية ويحدد ملامحها الرئيسية، هو أن الحكومة خاضعة لمواطنيها ولا يفرضها إلا الناخبون. وكلما أعاق القائمون بالعمل العام أبعاد هذه الحرية، كان ذلك من جانبهم هدما للديموقراطية فى محتواها المقرر دستوريا، وإنكارا لحقيقة أن حرية التعبير لا يجوز فصلها عن أدواتها، وأن وسائل مباشرتها يجب أن ترتبط بغاياتها، فلا يعطل مضمونها أحد، ولا يناقض الأغراض المقصودة من إرسائها.”24
6- الضرورة الاجتماعية لحرية النقد:
وانتقلت فى حكم آخر لفحص حرية النقد وعلاقتها بحرية التعبير:
“وحيث إن الدستور القائم حرص على النص فى المادة 47 منه على أن حرية الرأى مكفولة، وأن لكل إنسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير فى حدود القانون، وكان الدستور قد كفل بهذا النص حرية التعبير عن الرأى بمدلول جاء بها ليشمل التعبير عن الآراء فى مجالاتها المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أن الدستور – مع ذلك – عنى بإبراز الحق فى النقد الذاتى والنقد البناء باعتبارهما ضمانين لسلامة البناء الوطنى، مستهدفا بذلك توكيد أن النقد – وأن كان نوعا من حرية التعبير – وهى الحرية الأصل التى يرتد النقد إليها ويندرج تحتها – إلا أن اكثر ما يميز حرية النقد – إذا كان بناءً – أنه فى تقدير واضعى الدستور ضرورة لازمة لا يقوم بدونها العمل الوطنى سويا على قدميه. وما ذلك إلا لأن الحق فى النقد – وخاصة فى جوانبه السياسية – يعتبر إسهاما مباشرا فى صون نظام الرقابة المتبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وضرورة لازمة للسلوك المنضبط فى الدول الديموقراطية، وحائلا دون الإخلال بحرية المواطن فى أن “يعلم”، وأن يكون فى ظل التنظيم بالغ التعقيد للعمل الحكومى، قادرا على النفاذ إلى الحقائق الكاملة المتعلقة بكيفية تصريفه. على أن يكون مفهوما أن الطبيعة البناءة للنقد – التى حرص الدستور على توكيدها – لا يراد بها أن ترصد السلطة التنفيذية الآراء التى تعارضها لتحدد ما يكون منها فى تقديرها موضوعيا، إذ لو صح ذلك لكان بيد هذه السلطة أن تصادر الحق فى الحوار العام. وهو حق يتعين أن يكون مكفولا لكل مواطن وعلى قدم المساواة الكاملة، وما رمى إليه الدستور فى هذا المجال، هو ألا يكون النقد منطويا على آراء تنعدم قيمها الاجتماعية، كتلك التى تكون غايتها الوحيدة شفاء الأحقاد والضغائن الشخصية، أو التى تكون منطوية على الفحش أو محض التعريض بالسمعة، كما لا تمتد الحماية الدستورية إلى آراء تكون لها بعض القيمة الاجتماعية، ولكن جرى التعبير عنها على نحو يصادر حرية النقاش أو الحوار، كتلك التى تتضمن الحض على أعمال غير مشروعة تلابسها مخاطر واضحة تتعرض لها مصلحة حيوية.”25
7- المبادئ الدستورية فى نطاق التجريم والعقاب:26
تتأسس هذه المبادئ على الأصل الدستورى القاضى بأنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على القانون (مادة 66من الدستور)، وهذا الخطاب؛ وفقا للمستقر عليه فقها وقضاءً، لا يتضمن فقط خطابا للقاضى وإنما يتضمن أيضا خطابا للمشرع، بحيث يجعل الأول ملتزما بما جرمه الآخر، وعاقب عليه، وأضحت سلطة الثانى فى التجريم والعقاب ليست مطلقة بلا قيد، واسعة بلا حدود.
وهذا أمر ولا شك فى المنطق ما يؤازره، وفى الأصول الشرعية ما يسانده لأن سلطة تحديد الجرائم والعقاب إذا كانت مطلقة فإن هذا يكون معناه البغى بغير الحق على حقوق الأفراد، والعدوان على حرياتهم، وتوجيه سياسة التجريم والعقاب تبعا لهوى الفئة الغالبة فى البرلمان، إما لتغليب مصالحها على حساب حريات الأفراد، وإما لتقنين رغبة الحكومة فى النيل من حقوق العباد. ومن ناحية أخرى أن الأنظمة الديموقراطية لم تعد تعترف لآى هيئة أو جهة بسلطة مطلقة، والمشرع ليس استثناء من هذا الأصل. لذا فإنه يلتزم كما تلتزم غيره من سلطات الدولة بالمبادئ والقواعد العليا المستقرة فى وجدان الإنسانية والتى تعترف بها، وتحترمها الدساتير، سواء المكتوب منها أو العرفى.
وقد يقال ردا على ذلك أن سلطة المشرع فى التجريم والعقاب ليست سلطة من الناحية الدستورية مقيدة على اعتبار أن الدستور لم يلزمه بضرورة تجريم سلوك أو امتناع بعينه، بل ولم يفرض عليه اتباع طريق معين فى التجريم، كما أنه لم يجبره على تقرير عقوبات معينة على ما يجرمه، فهو فى كل هذا حر طليق.
وهذا القول على فرض صحته إلا أنه لا يعنى أن سلطة المشرع مطلقة فى التجريم والعقاب. فهى إن لم تكن مقيدة فإنها تقديرية، بمعنى أنه إذا كان للمشرع وفقا لها أن يختار ما يجرمه فإنه لا يكون له أن يجرم أى فعل أو أى امتناع، فسلطته هذه تتقيد بالحدود والضوابط الدستورية التى يتقيد بها حال تنظيمه لحقوق الأفراد، التى سلطته إزاءها تكون تقديرية وهذا ما تؤكده المحكمة الدستورية العليا بقولها: أن الأصل فى سلطة المشرع عند تنظيم الحقوق أنها سلطة تقديرية، وأن الرقابة على دستورية التشريعات لا تمتد إلى ملاءمة إصدارها إلا أن هذا لا يعنى إطلاق هذه السلطة فى سن القوانين، دون التقيد بالحدود والضوابط التى ينص عليها الدستور.(27)
المقتضيات الدستورية لمبدأ شرعية الجرائم:
أن سلطة المشرع، وعلى نحو ما تقدم، فى اختيار ما يجرمه ليست مطلقة، وإنما هى سلطة تتقيد بالمقتضيات الدستورية لمبدأ شرعية الجرائم. وما يهمنا منها هنا هو:
ضرورة التجريم:28
يقتضى مبدأ شرعية الجرائم ألا يجرم المشرع من الأفعال، ولا يؤثم من التصرفات إلا ما كانت هناك ضرورة ملجئة لتجريمه أو لتأثيمه، وذلك لأن التجريم بطبيعته هو انتقاص من حرية المواطنين، وتضييق من نطاق ما يتمتعون به من حقوق. وهو – وتلك طبيعته – يجد مبرره فى حماية مصالح أجدر بالرعاية، وحقوق أولى بالعناية من ذاك الجزء المجرم من تصرفات الأفراد، أو المقتطع بالتأثيم من حرياتهم. لذا فإنه – أى التجريم – يدور وجودا وعدما مع تلك المصالح الاجتماعية الحيوية. وتلك حقيقة عبر عنها البعض بقوله: أنه إذا كان المشرع الجنائى هو صمام الأمن الاجتماعى. فإنه يكون لزاما عليه أن يربط التجريم بالحاجات والمصالح الاجتماعية الملحة.
ومن ناحية أخرى أن التجريم باعتباره قيدا على الحريات الفردية، والقيود بطبعها يحكمها أصلان: أن تظل دائما فى دائرة الاستثناء، فلا ينبغى التوسع فيها، أو الإفراط فى استخدامها وإلا صارت الحرية استثناء، والقيد قاعدة، وهذا ما تلفظه المبادئ القانونية المستقرة. والآخر ألا يلجأ إلى القيود إلا حال وجود ضرورة تبررها، فإن هذا هو ذاته ما يحكم التجريم فهو لا يمكن الالتجاء إليه إلا لضرورة تدفع إليه، وإذا ما لجأ المشرع إليه فإنه لابد أن يكون هذا فى إطار الاستثناء، ذلك أن الإفراط فيه يماثل فى خطورته، وجسيم أثره على المجتمع وأمنه التفريط فيه. ويكفى دليلا على ذلك أن التوسع التجريمى قد غدا اليوم من الأمور المستهجنة فى السياسة التشريعية المعاصرة، وصار القسط فيه، والحد منه بإزالة وصف الإجرام عن مسالك وأفعال عديدة من الأمور المستحبة، بل أنه يمثل الآن أصلا من أصول السياسة الجنائية المعاصرة دعت إلى الأخذ به، وإتباعه المؤتمرات العالمية المتخصصة.
ولأن التجريم قيد، والقيود بطبعها تخضع لرقابة القضاء، فقد بسط المجلس الدستورى الفرنسى رقابته فى الآونة الأخيرة على الأسباب التى حدت بالمشرع إلى استخدام سلطته فى التجريم، والوقائع التى استوجبت تدخله، ولم يكن يتردد فى القضاء بعدم دستورية ما جرمه المشرع من أفعال إذا تبين له أن تجريمها لم تكن له ضرورة تبرره، أو أن تقدير المشرع لخطورتها قد انطوى على خطأ ظاهر، مما ينفى عنها شرط ضرورة التجريم، مما يؤكد انتفاء مبرر تجريمها.29
وعلاوة على كل ما تقدم يجب أن يكون التقييد متناسباً مع الغرض المشروع المقصود من هذا التقييد، والتجريم محض قيد؛ ومن ثم ينسحب عليه كل الضوابط السابق الإشارة إليها والمتعلقة بالقيود المقبولة فى المجتمعات الديمقراطية.
كما يجب أن تكون الأسباب المبنى عليها هذا التقييد منتجة وكافية30. وفى هذا السياق قضت المحكمة الأمريكية بأن التقييد يجب أن يكون “ضرورياً لتأمين” غرض من الأغراض المشروعة، ويجب أن ينسجم هذا التقييد مع معايير الضرورة كما حددتها المحكمة الأوروبية.31
وكان هذا النهج هو ذات النهج الذى اتبعته العديد من المحاكم الدستورية، وخير مثال على ذلك ما قضت به المحكمة الأمريكية العليا من أنه “حتى وبالرغم من أن غرض الحكومة قد يكون مشروعا وقويا، فإن هذا الغرض لا يتأتى أن يتحقق باستخدام وسائل تخنق بشكل واسع الحريات الشخصية الأساسية، طالما يمكن تحقيق هذا الغرض بقدر أقل من التقييد.”32
يجوز الرجوع إلى المعايير المستخدمة من قبل المحكمة الأوروبية فى تقدير القيود المسموح بها، والعقوبات، على حرية التعبير، ليس فقط لأن هذه المحكمة تظل الحارس الأخير لحقوق الإنسان والحريات على مستوى تلك الأمم الأوروبية، ولكن أيضا لأن لهذه المعايير أولوية بالغة لدى هذه الأمم، وتتبناها بلاد ديموقراطية أخرى بشكل ضمنى. أن الإشراف القضائى كما تتبناه المحكمة وبلاد أخرى يعد ضروريا، ليس فقط من أجل التأكد الوثيق مما إذا كانت الدولة تمارس اختصاصها “بمعقولية”، “وعناية”، و”بسلامة نية”، وإنما للتأكد أيضا من ضرورة أى قيد.33
المقومات الدستورية لشرعية العقوبات:34
تتقيد سلطة المشرع فى اختيار العقوبات على ما يجرمه من فعل أو امتناع بمبدأ شرعية العقوبات (م 66، 67 من الدستور). فهذا المبدأ يحد من سلطته فى تحديد هذه العقوبات تماما كما يحد مبدأ شرعية الجرائم من سلطته فى اختيار الأفعال التى يجرمها. ومن أهم مقتضياته:
1- قرينة البراءة.
2- التناسب بين الجريمة والعقاب.
1- قرينة البراءة:
فى سبيل كفالتها لحريات وحقوق الأفراد استقرت الدساتير المعاصرة، ومنها الدستور المصرى، على أن المسئولية الجنائية عن الجرائم ينتظمها أصل دستورى هو ما يعرف بقرينة البراءة، ومؤدى هذا المبدأ أن المتهم يعتبر بريئا حتى تثبت إدانته فى محاكمة قانونية تتوافر له فيها كافة ضمانات الدفاع عن نفسه (المادة 67 الدستور المصرى – المادة 9 من إعلان حقوق الإنسان والمواطن).35
والمقتضى الدستورى لهذه القرينة أن المسئولية عن الجريمة لا تلحق إلا بمن يثبت يقينا أنه قد اقترفها أو ساهم وفقا للقانون فى ارتكابها. وهذا معناه ضرورة معاملة المتهم طيلة المراحل التى تمر بها الدعوى العمومية على أنه برئ حتى يقول القضاء كلمة الفصل فى إدانته، لأنه بصدور حكم الإدانة يتأكد خروجه من أصل مصاحب له افتراضا إلى استثناء صار مؤكدا فى جانبه بعد محاكمة مشهودة توافرت له فيها كافة مكنات الدفاع عن نفسه، وجميع فرص تفنيد ما وجه ضده من أدلة اتهام أو إثبات.
ويتفرع عن هذا المبدأ وفقا لذلك التصوير نتائج متعددة:
أ)- لا يطالب المتهم بإثبات براءته (عبء الإثبات):
فلا يجوز للمشرع تجشيم المتهم عبء إثبات براءته، لأنها مصاحبة له جريا على الأصل، ويكون على جهة الاتهام باعتبارها تدعى خلاف الأصل أن تقيم الدليل عليه، ولا يجوز له، تبعا لذلك، أن يعفى جهة الاتهام من هذا العبء، فهو يقع عليها بمقتضى هذه القرينة كاملا غير منقوص، بمعنى أنه لا يتوقف عند حد قيامها بإثبات نسبة الجريمة إلى المتهم، وإنما يكون عليها إثبات توافر جميع أركان الجريمة، وكافة عناصر كل ركن منها، فضلا عن قيامها بإثبات أى سبب من أسباب الإباحة، أو أى مانع من موانع العقاب أو المسئولية، إذا ما دفع المتهم بتوافره فى جانبه.
ب)- عدم التعسف فى تقييد حرية المتهم فى دفع التهمة عنه:
فقرينة البراءة تستلزم بداهة كفالة حق الدفاع (أصالة أو وكالة)، حتى ولو لم ينص عليه الدستور استقلالا، وتزداد فعاليته وأهميته إذا رفعه الدستور إلى مصاف الحقوق الدستورية، وذلك بأن تتضمنه الوثيقة الدستورية فى صلبها، وهذا ما فعله الدستور المصرى.
2- التناسب بين الجريمة والعقاب:
والعقوبة من الناحية الدستورية لا تكون مشروعة – وفقا لذلك الأصل – إلا إذا كانت تتناسب مع الفعل المجرم أو الامتناع المؤثم، ينصرف التناسب هنا إلى التوافق بين محل النص العقابى وسببه، أى التلاؤم بين الجريمة والعقوبة. ومقتضى ذلك ألا يغلو المشرع فى العقاب، ولا يركب متن الشطط فى تقديره. وإنما عليه أن يتخير من العقوبات ما يكون على وجه اللزوم ضروريا لمواجهة الجريمة، وما يترتب على اقترافها من آثار، وما فيه القدر الذى يكفى لردع الجانى، وزجر غيره من أعضاء المجتمع، ممن تسول له نفسه أن يقوم بذات فعله، أو يأتى نفس صنيعه. ومن هنا تكون ضوابط العقاب مادية أو موضوعية. ويعتبر بالتالى كل تجاوز لهذه الضوابط تزايدا، واستبدادا ينبغى رفعه.

أصبح إذن التناسب فى نطاق العقاب الجنائى أصلا من الأصول الدستورية الجنائية يقيد سلطة المشرع فى تحديد العقوبات والجزاءات. بعد أن ظل حينا من الدهر يتمتع بسلطة واسعة فى تقديرها. فقد كان له وحده تقدير الضرورة العقابية، والمعقولية الجزائية دون أن يخضع فى ذلك لأية رقابة دستورية. ذلك أن هذه الأخيرة لم تكن تمتد إلى هذا المجال بدعوى أنه يعد من الملاءمات التشريعية التى يستأثر المشرع دون غيره بها تماما، كالوضع بالنسبة لأعمال الإدارة التى كان يمتنع على القاضى الإدارى أن يراقب مدى ملاءمتها، بدعوى أن فاعلية هذه الأعمال فى تحقيق المصلحة العامة تقتضى أن يبقى هذا المجال حكرا عليها وحدها. ولكن إذا كان القاضى الإدارى قد تطور برقابته إلى حد أنه قد بسط هذه الرقابة على ملاءمة القرارات الإدارية، واصبح تبعا لذلك يراقب مدى التناسب بين القرار ومحله، فإن المجلس الدستورى الفرنسى قد نحى ذات المنحى، وسار فى نفس الاتجاه، فاعترف لنفسه ومنذ وقت ليس ببعيد، وفى غير القليل من الأحكام، بحقه فى الرقابة على ملاءمة ما يصدره المشرع من قوانين، باحثا عن نقطة التوازن بين ما يتخيره من وسائل، وبين الغايات التى يسعى إلى تحقيقها. ويقدر ما إذا كانت هذه الوسائل المختارة من بين بدائل عديدة تتوافق مع تلك الغايات أم لا، وما تلك إلا رقابة ملائمة.
فعلى المشرع ألا يختار عقوبات قامعة للحرية بدون ضرورة اجتماعية تستلزمها، وعلى هذا استقرت محكمتنا الدستورية حيث قضت بأنه “وحيث إن الجزاء الجنائى كان عبر أطوار قاتمة فى التاريخ أداة طيعة للقهر والطغيان محققا للسلطة المستبدة أطماعها ومبتعدا بالعقوبة عن أغراضها الاجتماعية وكان منطقيا وضروريا أن تعمل الدول المتمدينة على أن تقيم تشريعاتها الجزائية وفق أسس ثابتة تكفل بذاتها انتهاج الوسائل القانونية السليمة – فى جوانبها الموضوعية والإجرائية – لضمان ألا تكون العقوبة أداة قامعة للحرية وعاصفة بالمخالفة للقيم التى تؤمن بها الجماعة فى تفاعلها مع الأمم المتحضرة واتصالها بها وكان لازما – فى مجال تثبيت هذا الاتجاه – أن تفرض الدساتير المعاصرة القيود التى ارتأتها على سلطات المشرع فى مجال التجريم تعبيرا عن إيمانها بأن حقوق الإنسان وحرياته لا يجوز التضحية بها فى غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها واعترافا منها بأن الحرية فى كامل أبعادها لا تنفصل عن حرمة الحياة وأن الحقائق المريرة التى عايشتها البشرية على امتداد مراحل تطورها تتطلب نظاما متكاملا يكفل للجماعة مصالحها الحيوية ويصون – فى إطار أهدافه – حقوق الفرد وحرياته الأساسية بما يحول دون إساءة استخدام العقوبة تشويها لأغراضها.”36
وتطبيقا لذلك أكد المجلس الدستورى الفرنسى فى بعض قراراته الحديثة لزوم أن يكون العقاب الذى اختاره المشرع ضروريا لمكافحة الجرم الواقع. ولا شك أن هذا هو جوهر رقابة التناسب التى يمارسها المجلس على النص العقابى. ومن ثم فإنه لا يتردد فى الحكم بعدم دستورية القانون الذى ينطوى على غلو فى العقاب أو شطط فى الجزاء.

ولا وجه للقول هنا بأن القاضى الدستورى حين يبسط رقابته على التناسب بين الجريمة والعقاب، يغتصب سلطة المشرع فى تحديد العقوبات أو أنه يستبدل تقديره بتقدير المشرع بوجه عام، وذلك لأن القاضى الدستورى حين يتصدى لتلك المسألة، فإنما يتصدى لها بحكم مهمته فى تغليب المبادئ الدستورية، وتحقيق سموها عما عداها، وأن يحكم المشروعية الدستورية، وهو فى حدود ذلك لا يهدر سلطة المشرع فى تحديد الجرائم أو العقوبات. ومن جهة أخرى أن سلطة المشرع فى هذا الشأن – وكما قدمنا – ليست سلطة مطلقة – وإنما هى كغيرها من السلطات مقيدة باحترام الصالح العام. وهذا الأخير يقتضى احترامه عدم الجور على الحريات، أو البغى على حقوق الأفراد. وليس هناك أشد بغيا على هذه الحقوق من عقوبة تتجاوز حدود المعقولية، وتعصف بالحماية الدستورية لهذه الحقوق، وتجعل النصوص التى تكلفها عديمة الفاعلية. هذا إلى أن الغلو فى العقاب يمثل عدوانا بالغا على أمن المواطن لا يجوز دستوريا لأى سلطة مهما كانت أن تفعله، ولو كانت سلطة التشريع ذاتها. وفضلا عن ذلك أنه فى إطار تطبيق مبدأ عدم الغلو فى العقاب أو مبدأ التناسب لا يكون من حق القاضى الدستورى التصدى لتحديد الجزاء المناسب، أو العقوبة الملائمة، وإنما يتوقف دوره عند حد القضاء بعدم دستورية النص العقابى المغالى فيه، ويعود الأمر تارة أخرى إلى المشرع ليختار من جديد، وفى ضوء التوجهات الدستورية، العقوبة المناسبة أى التى تكون اكثر تحقيقا للغاية التى يقوم عليها النص العقابى.
ومن هنا فإن القاضى الدستورى حينما يعمل رقابته على التناسب العقابى لا يحل محل المشرع، ولا يستبدل تقديره بتقديره. ولكنه فحسب يصحح مسلكه وفقا لتوجهات دستورية تعمل على كفالة حماية فعالة لحقوق وحريات الأفراد على نحو يؤدى إلى سلامة تصرفات سلطة التشريع من شائبة تحيد بها عن مقاصد النص الدستورى، وإرادة السلطة التأسيسية.
وفضلا عن ذلك أن القاضى الدستورى لا يقتحم على المشرع سلطته فى تقدير العقاب إلا حين ينطوى هذا التقدير على خطأ ظاهر أو حال أن يشوبه خطأ جسيم يخرج بكل المعايير على حدود المعقولية. ذلك أنه إذا كان من المقبول أن تكون للمشرع سلطة فعل كل شئ، فإن ما لا يعقل أن يكون له فعل أى شئ، أو أن يغفر له أى خطأ مهما كان أثره أو درجة جسامته. ومن هنا تبدو ضرورة التناسب ويتجلى دوره فى أنه يعد سلاحا فى يد القاضى الدستورى للحد من تجاوزات الأغلبية البرلمانية التى قد يفوتها – بقصد أو بدون قصد – اختيار الوسائل المناسبة لتحقيق الأهداف الدستورية.
وأخيرا أن مبدأ التناسب بما يقتضيه من ضرورة معقولية العقاب لم يقتصر الاعتراف به على القضاء الدستورى الفرنسى فحسب، وإنما صار واحدا من المبادئ الأساسية المعترف بها على مستوى القضاء الدستورى الأوروبى كالقضاء الدستورى الألمانى، والقضاء الدستورى الإيطالى. هذا إلى أن محكمة العدل الخاصة بالجماعة الأوروبية قد أخذت به، وقضت فى واحد من أهم أحكامها فى هذا الصدد بأن العقوبة يجب أن تقدر تقديرا متناسبا مع الجريمة، كما يجب أن يؤخذ فى الاعتبار عند تقديرها جسامة الجريمة، وطبيعتها.)37)
وبناءً عليه إذا كان عدم التوسع فى التجريم، والتناسب بين الجريمة وعقوبتها من المقتضيات الدستورية لمبدأ شرعية الجرائم والعقاب، يكون على المشرع نزولا على إرادة السلطة التأسيسية الامتثال لهما، إلا أن المشرع المصرى، وعلى خلاف ما تقضى به هذه المبادئ، بصدد تنظيمه لحق التعبير عن الرأى فى الصحف قد خرج عليها فى حالات متعددة خروجا دفعته إليه اعتبارات سياسية لا حماية المصالح العامة أو الخاصة، وذلك بالتوسع فى جريمة القذف والسب، وفرض عقوبات لا تتناسب معها.
أن ما يعاب على المشرع حقا أنه دأب على استخدام سلاح التجريم لدرجة وصلت إلى زيادة الأفعال المجرمة على نحو لا يدرك أحد الحكمة من تجريمها. كما أنه قد أخل بمبدأ التناسب بين الجريمة والعقاب إخلالا جسيما.
وهذا وأن كان اتجاها منتقدا فى المجالات العادية التى يتولى تنظيمها، فإنه أشد انقادا فى مجال حق التعبير عن الرأى فى الصحف، لأن معناه تجريم الرأى، أى تجريم وحظر الأفكار، واعتناق المذاهب والاتجاهات. وهذا وضع يأباه الفقه الديموقراطى فى مجموعة، ويرفضه بشكل قاطع، ولهذا السبب رفض الفقه التقليدى تقييد حرية الصحافة. وفى هذا يقول اميل دى جريان: أن الصحافة التى تقيد وتجرم أفعالها ليست هى الصحافة الحرة، وإنما هى صحافة متسامح فى وجودها. ويعبر آخر عن هذه النظرة التحريرية قائلا أن تجريم الرأى هو من الأمور التى يتسم بها النظم الديكتاتورية بقصد الحيلولة دون المواطنين ونشر آرائهم أو التعبير عن أفكارهم خشية تعرضهم للمسئولية.38

الفصل الخامس
جوانب مختلفة للتنظيم القانونى لجريمتى السب والقذف من واقع القانون المقارن
مقدمة:
على الرغم من التفاوت بين النظم القانونية المختلفة عند تنظيمها لجريمتى السب والقذف، إلا أننا نستطيع أن نكتشف وجود قدر من التوافق فيما بينها فى بعض الجوانب، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يمكن الاعتماد على أوجه هذا التباين لوضع كلا من الضرورة الاجتماعية لاستخدام سلاح التأثيم الجنائى، واعتماد العقوبة السالبة للحرية موضع التساؤل.
نعالج فى المبحث الأول مدى توافر الضرورة الاجتماعية التى تستوجب التجريم لمواجهة السب والقذف. ونعرض فى المبحث الثانى لموقف هذا النظم من الضرورة الاجتماعية للعقوبة السالبة للحرية فى جريمتى السب والقذف. لننتقل إلى المبحث الثالث لفحص موقف هذه النظم من مدى صلاحية إثبات الحقيقة كسبب ناجز للإباحة للسب والقذف. وفى المبحث الرابع ندرس موقف هذه النظم من مدى جواز الاعتداد باستهداف المصلحة العامة كدفاع منتج ضد القذف. ونستكشف فى المبحث الخامس تناول هذه النظم للحق فى الخصوصية وعلاقته بحرية التعبير. ونتطرق فى المبحث السادس لموقفها من العلاقة بين الحق فى النقد والقذف. لنعرج فى المبحث السابع لموقفها من عبء الإثبات. ويدور موضوع المبحث الثامن حول مدى قبول هذه النظم لحسن النية لدفاع ناجز فى قضايا القذف. وأخيراً نعالج فى المبحث التاسع موقفها من جواز الاعتداد بالآراء والتعليقات النزيهة كدفاع مقبول ضد القذف.

المبحث الأول
عدم وجود ضرورة اجتماعية تستوجب
التجريم لمواجهة القذف والسب
ودليلنا على ذلك من ناحية الوضع القانونى فى المملكة المتحدة، ومن ناحية ثانية التطورات الراهنة فى العديد من المجتمعات، نحو تفضيل وتفعيل الخيار المدنى على حساب سياسة التجريم.
ففى المملكة المتحدة يسود القانون العام Common law الذى فى حضنه نشأ قانون القذف Law of Libel والقذف على عدة أنواع:
1- القذف المدنى : Defamatory libel أو Civil libel:
هو عبارة عن بيان فى شكل من الأشكال الثابتة كالكلمات المطبوعة أو المكتوبة أو التماثيل، متعلق بشخص ويهدف إلى الإضرار بسمعته بصورة عامة، أو بما يتعلق بمهنته أو الذى يعرضه للسخرية أو الكراهية أو الاحتقار أو الذى يسبب تجنب أصحابه له وتقع الجريمة إذا تجمعت الأركان الثلاثة التالية:
1. الاطلاع وهو أوسع مدى من النشر.
2. تعيين المقذوف أو المدعى.
3. الضرر.
فمتى تجمعت الشروط الثلاثة السالفة وقعت جريمة القذف المدنى.
هذا ومن الجدير بالذكر أن القانون الإنجليزى لا يعطى أية أهمية للقصد الجنائى، لأننا بصدد قذف مدنى لا عقاب جنائى عليه.
فلقد كان من القواعد المقررة فى القانون الإنجليزى، أن المتهم فى جريمة قذف مدنى يستطيع دائما أن يبرر القذف، وبالتالى يتخلص من المسئولية إذا أثبت صحة الوقائع التى عزاها إلى المقذوف فى حقه.
أن القاذف لا يستطيع أن يتخلص من المسئولية فى القذف المدنى إلا إذا تمكن من “تبرير” القذف، أى إذا أثبت أن وقائع القذف صحيحة بصرف النظر عن كون المقذوف فردا عاديا أو شخصا ذا صفة عمومية، كما يستطيع أن يتخلص من المسئولية المدنية إذا أثبت أن “البيان” القذفى الذى نشره يدخل فى صنف من أصناف الامتياز المطلق أو الموصوف.39
2- القذف الجنائى Criminal libel:
هو النشر بسوء نية لكل ما من شأنه أن يخل بالسلام Break of the peace ولم يؤخذ فى البداية بقاعدة تبرير القذف المعمول بها فى مجال القذف المدنى، وكان على العكس من ذلك كلما كانت وقائع القذف الجنائى صحيحة كان القذف أخطر، ومن ثم يستوجب عقابا اشد، وهى قاعدة:
“The greater the truth, the greater the libel”.
وجاء قانون اللورد كامبل عام 1843 ليعدل هذا الوضع بنصه على أن صحة الوقائع فى القذف الجنائى تعتبر دفاعا حسنا Good defense إذا ثبت أن نشر الوقائع المذكورة كان للمنفعة العامة. وبذلك أصبح فى مقدور المتهم فى جريمة القذف الجنائى دفع المسئولية الجنائية إذا أثبت:
أولا: صحة وقائع القذف.
ثانيا: أن نشرها كان للمنفعة العامة.40
وكانت القاعدة المقررة أن المتهم فى جريمة قذف (جنائية كانت أو مدنية) مسئول عن نشره فى مطبوعة، ولو حدث النشر عن جهل منه. فجاء قانون كامبل معدلا ذلك أيضا بالنسبة إلى جريمة القذف الجنائى، فقرر أن المتهم فى هذه الجريمة يعفى من المسئولية الجنائية فقط، إذا اثبت أن نشر هذا القذف حدث بدون سلطته Authority ورضائه Consent أو معرفته Knowledge وأنه لا يرجع إلى إهماله أو تقصيره.41
ينظر القانون إلى القذف باعتباره جريمة جنائية عندما يكون مخلا بالأمن العام أو يتضمن طعنا فى الأخلاق أو الدين. وينقسم إلى قذف جنائى عادى، وقذف جنائى يحرض على الفوضى.
أولا : القذف الجنائى العادى:
هو فى حقيقته قذفا مدنيا اتسم بسمة إضافية تنقله من مجرد كونه خصومة بين فردين إلى أن من شأنه تعكير السلام العام نظرا لما يثيره من غضب وشعور بالانتقام فى نفس المقذوف فى حقه. ويكون محلا للجزاء المدنى أى التعويض وللجزاء الجنائى.
وعلى القاذف ليتخلص من المسئولية الجنائية أن يثبت علاوة على صحة الوقائع، أن نشر القذف الذى نشره يدخل فى صنف من أصناف الامتياز المطلق أو الموصوف.
ثانيا : القذف الذى يحرض على الفوضى:
ليس فى حقيقته قذفا بالمعنى المتعارف عليه، وإنما هو مجرد عبارات وألفاظ مكتوبة يعاقب على نشرها القانون باعتبار أن من شأنها التحريض على الفوضى أو العدوان على شعور الرأى العام أو إفساده. ويشتمل على ثلاث جرائم:
1- القذف الثورى Seditious libel:
هو نشر أى شئ يؤدى إلى كراهية، أو احتقار، أو إثارة شعور البغضاء ضد الملك، أو ورثته أو الحكومة، أو مجلس البرلمان، أو سير العدالة، أو يحرض الناس على تغيير نظام الكنيسة أو الدولة بطرق غير قانونية، وكذلك انتقاد الحكومة القائمة، أو الدولة باعتبارها منظمة. وتطور هذا الموقف فى القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بحيث لم يعد يعتبر القانون الانتقادات السياسية المتعلقة بالدولة أو الحكومة أو القوانين … الخ قذفا ثوريا مهما كانت تلك الانتقادات شديدة، ما دام الكاتب لم يستعمل عبارات يراد بها التحريض على الاضطرابات والفتن وارتكاب الجرائم المعاقب عليها قانونا.
2- القذف الإلحادى Blasphemous libels:
هو نشر كل ما من شأنه نفى حقيقة المسيحية بصورة عامة، أو وجود الله سواء حدث ذلك النفى بعبارات ملائمة أو غير ملائمة. وتطور هذا الموقف فى القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بحيث لم يعد يعتبر قذفا إلحاديا نفى حقيقة المسيحية أو وجود الله إذا كانت العبارات المستعملة ملائمة.
3- القذف المنافى للأخلاق Obsrenes libels:
وهو ما يتضمن مساسا بالآداب العامة، والأخلاق.
تشترك الثلاثة جرائم فى أنها فى حقيقتها ليست قذفا بالمعنى المتعارف عليه. كما تشترك فى أنها جرائم جنائية بحتة، فلا يمكن أن تؤدى إلى إقامة دعوى مدنية وبالتالى المطالبة بالتعويض، حيث لا توجه ضد الأفراد وإنما ضد المجتمع. لا يستطيع مرتكب إحداها الاحتجاج بالامتياز، ولا يمكن تبريرها بإثبات صحتها.
وقد تطور موقف القانون الإنجليزى تجاه هذه الجرائم الثلاث من موقف متشدد وعاصف بحرية التعبير، إلى موقف أكثر ديموقراطية ولنأخذ مثالاً على ذلك التطور الذى أصاب القذف الإلحادى: ففى القرن السابع عشر كان الموقف فى غاية التشدد، فأى إفصاح عن أى رأى يخالف المذاهب الإنجليكانية كان يعد قذفا إلحاديا، ويعاقب عليه بأقصى الشدة. وأخذ الوضع يتطور ففى القرن التاسع عشر صرحت المحاكم الإنجليزية بأنه ليس من مهمتها ضمان وحدة المذاهب الدينية. وفى قضية R. V. Ramsay and Foote قرر القاضى “كوليريدج” بأنه فيما يتعلق بالبحث فى وجود الله فإنه “إذا روعى الاتزان فى النقاش فيمكن حينذاك نفى حتى أسس الدين نفسها دون أن يعتبر الشخص مرتكبا لجريمة القذف الإلحادى.”، وأضاف أنه “يلزم لتحقيق هذه الجريمة توافر ركن القصد الجنائى”، وأخذ بهذا الرأى القاضى “فيليمو” فى 1908 فى قضية Bowman V. The secular society ، وجاء مجلس اللوردات مؤيدا هذا التوجه فى 1917، وبذلك أصبح هذا الرأى هو السائد فى الوقت الحاضر.42
وفى المملكة المتحدة، يظل الطعن الجنائى مثارا للنزاع. ففى قضية Gleaves v. Deakin تحدث اللورد ديبلوك عن “الوضع المأسوف عليه حاليا لقانون الطعن الجنائى فى هذه البلاد “، وقضت المحكمة باقتصار العقوبات الجنائية على القذف الجنائى الجسيم.43
والانتقاد الذى سيق ضد الطعن الجنائى لم يكن فقط لأنه “يبتعد عن المبدأ المقبول للقانون الجنائى”، ولكن أيضا لأنه يصعب مواءمته مع الالتزامات الدولية للمملكة المتحدة كأحد الدول الموقعة على الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، ونظرا لطبيعته الخلافية لم يستخدم فعليا فى السنوات الأخيرة. وهذا جزئيا لأنه لا يجوز تحقيق الجرائم الإعلامية إلا بتصريح من قاضى المحكمة العليا. ففى قضية Goldsmith v. Pressdram أوردت المحكمة العوامل الهامة التى يجب وضعها فى الاعتبار من قبل قاضى المحكمة العليا عند البدء فى التحقيق الجنائى فلابد أن يتأكد قاضى المحكمة العليا من وجود:
(أ) حالة واضحة القوة بشكل استثنائى.
(ب) قذف جسيم Serious Libel.
(ح) أن المصلحة العامة تقتضى ضرورة اتخاذ الإجراءات الجنائية.
ونظراً لهذه النصوص المحكمة كانت القضايا الجنائية فى المملكة المتحدة نادرة جدا.
وفى أسبانيا على الرغم من أن الحق فى السمعة والشرف والحياة الخاصة مكفول بالقوانين المدنية والجنائية، إلا أن هناك توجه لدى المحكمة الأسبانية العليا للحد من ولوج الطريق الجنائى؛ حيث رأت أن الدعوى الجنائية لا يجب مباشرتها، وبشكل عام يتم تفضيل المحاكمات المدنية على المحكمات الجنائية فى ضوء عدم مرونة الأخيرة، فالجرائم الجنائية اقل مرونة والمدعون يتحملون عبء الإثبات ولابد لهم من تجاوز عقبة قرينة براءة المتهم، علاوة على ذلك لابد لهم من البرهنة على أن المتهم توافر لديه القصد الجنائى المطلوب.44
فى الولايات المتحدة توقف استخدام قوانين القذف الجنائى تحديدا لتزايد اعتبارها لا تتسق مع حرية التعبير فقرار Sullivan أقر بدستورية قانون القذف وفى نفس الوقت أقر بأن دعاوى القذف يمكن أن تقمع حرية التعبير. ولاحظت المحكمة العليا حقيقة أن العبارات الخاطئة حتمية فى أى مجتمع حر، وبالتالى يجب أن تتوفر لها المساواة فى “الحماية إذا كان لحرية التعبير أن تجد هواء التنفس الذى تحتاجه للبقاء”45، وقد حكمت المحكمة العليا فى قضية Garrison v. Louisiana بأنه تطبيقا للمعايير الدستورية، لا ينطبق قانون القذف الجنائى إلا فى حالة:
(أ) شرط القذف الجسيم الفعلى Actual Malice Libel المحدد عند سوليفان.
(ب) العبارات التى من المحتمل أن تسبب خرقا حالا للأمن.46
ومتطلبات القذف الجسيم تتمثل أما فى “العلم بزيف (العبارة القذفية)، أو عدم الاهتمام بصحة أو زيف ما يتم إسناده.47
وفى حكم لاحق فى قضية Herbbert v. Lando رأت المحكمة العليا الأمريكية أن المدعين الأفراد يجوز لهم التعويض عن الخسائر الفعلية التى سببها القذف المنطوى على إهمال. غير أنه عندما يتعلق القذف بمسألة ذات اهتمام عام، رأت المحكمة أن المدعى الخاص لا يجوز له التعويض عن الخسائر الفعلية أو المفترضة، دون توافر شرط القذف الجسيم عند سوليفان، وذلك عندما يتعلق بأمور ذات اهتمام عام. كما يضاف على عاتق المدعى فى دعوى القذف عبء إثبات خطأ الخبر المطعون فيه.48
ورغم ذلك، فى النمسا، وفرنسا، وألمانيا، وكندا، والسويد، لا زالت ترفع الدعاوى المدنية والجنائية وربما ترفعا فى نفس الوقت عن الواقعة الواحدة.
يتضح من الجولة السريعة السابقة أن هناك توجه متزايد نحو الإقلال من سياسة التجريم الجنائى والتعويل أكثر على قواعد المسئولية المدنية، والمهم من زاوية الضرورة الاجتماعية لتجريم القذف؛ أن هناك مجتمعات تثبت أنه لا يوجد فى حقيقة الأمر ضرورة اجتماعية قاطعة تفرض الطريق الجنائى كخيار وحيد لحماية الحق فى السمعة والاعتبار، والحق فى الخصوصية، وأن استمرار المعالجة الجنائية إنما يجد تفسيره فى الملابسات التاريخية التى لابست موضوع القذف ويقدم التاريخ الإنجليزى البرهان الساطع على هذا، حيث استهدف قانون القذف حماية السلطات المستبدة من أى انتقاد، حتى ولو كان مجرد الحقيقة الخالصة وعلى النقيض كلما تزايدت صحة البيانات المنشورة ضد السلطة كلما تفاقم قدر الجزاء الجنائى.
ومن الموضوعات المثيرة للاهتمام أن تعريف القذف المدنى الإنجليزى هو ذاته تعريف القذف الجنائى المصري الوارد في المادة 302 عقوبات، والفارق الضخم بينهما يقع في أن مقترف الجريمة فى المجتمع الإنجليزى لا يلاحق جنائيا ومن ثم لا يتعرض لخطر العقوبة السالبة للحرية بكل ما تمثله من قيد بغيض على الحرية الشخصية، وحكمة ذلك أن سلطة الاتهام في حقيقتها وجدت دفاعا عن المصلحة العامة وليس لحماية السمعة الشخصية للأفراد، فهناك وسائل أخرى تفى بهذا الغرض بعيدا عن العقوبة السالبة للحرية. ويلاحظ أن ما يسمى قذف جنائى عند الإنجليز إنما هو فى حقيقته جرائم أخرى لا تمت للقذف المعرف فى القانون المصرى بصلة. ولا توجد فروقاً حاسمة بين المجتمع الإنجليزى والمجتمع المصرى فيما يختص بحماية الكرامة الإنسانية سواء بحماية الحق فى السمعة والاعتبار والحق فى الخصوصية أو فى حماية الجناة من تغول سلطة التجريم بالإفراط فى التجريم والعقاب؛ تستدعى إصرار المشرع المصرى على التمسك بتجريم السب والقذف.

المبحث الثانى
العقوبة السالبة للحرية ليست الرادع الوحيد ومن ثم تفقد ضرورتها الاجتماعية
العقوبات المقررة للحماية من القذف فى المملكة المتحدة:
القانون المدنى والردع فى قضايا القذف:49
ويقدم القانون المدنى البريطانى الحماية اللازمة من التشهير. والتشهير كشىء ثابت كما فى الكتابة يعتبر قذفا ويقاضى صاحبه، دون الحاجة إلى إثبات حدوث أى ضرر. أى عدم ضرورة إثبات أن المدعى بالحق المدنى تحمل أى خسارة فعلية suffered any actual loss سواء أكانت خسارة مادية أو معنوية. والتشهير المؤقت أو العارض أى فى حالة الكلام يعتبر سبا. وفى بعض الحالات فإنه يمكن المطالبة بالتعويض إذا أمكن إثبات حدوث خسارة. ففقدان السمعة فقط أو التحقير أو الإحراج لا يكفى للتعويض. وإذا ثبت أن المتهم سيعاود أو سوف يستمر فى التشهير، فيمكن إيقافه عن عمل ذلك بواسطة أمر قضائى تصدره المحكمة، كما أنه يكون مسئولا عن التعويض. وفى الحالات التى يكون فيها القذف سيئا أو مهينا Offensive or autrungeous فإن التعويض قد يشمل عنصرا فيه عقاب رادع ولا يشمل فقط تعويض المجنى عليه بما يساوى خسائره الواقعية أو المفترضة his actual or presumed loss فالتعويض فى حالات القذف والسب يحكم فيه المحلفون. والمحلفون عادة يحكمون بتعويض شديد فى الحالات التى تستوجب ذلك. ولهذا فإن الإجراءات الخاصة بالقذف تعتبر عملا رادعا deterrent اكثر مما يظن.
وفى القانون الجنائى أو قانون العقوبات لا يوجد فيه ما يحمى شرف أو سمعة الشخص. وعلى الشخص أن يحاول إيجاد العلاج فى القانون المدنى. وإذا كانت هناك مخالفة بسبب القذف الجنائى. إلا أن المحاكمات فى بريطانيا قليلة جدا. ولإمكان النجاح فى الدعوى، على الادعاء إثبات أن عبارات القذف قد قيلت فى أحوال كان يمكن أن تؤدى إلى تهديد الأمن. والاتهام وجد لحماية النظام العام وليس لحماية سمعة الشخص المشهر به.
ولقد تضمن قانون القذف لسنة 1843 العقوبات المطلوبة. فإذا أثبتت المقاضاة أن المتهم كان يعرف أن القذف غير صحيح The libel was untrue عندئذ تكون أقصى عقوبة هى السجن لمدة سنتين، أما إذا كان زيف المعلومات لم يتسن إثباته عندئذ تكون أقصى عقوبة هى السجن لمدة سنة. وليس هناك حد للغرامة التى يجوز أن تفرض بالإضافة إلى السجن عند الإدانة.50
فبينما تظل العقوبات التى تشتمل على أحكام بالسجن فى مدونات عدد من البلاد الديموقراطية، نجد أن فرض هذه العقوبات نادرا، وفى حالات عديدة معدوما. فتقتصر العقوبات أساسا على الغرامات الجنائية والعقوبات المدنية. ويختلف هدف ونطاق هذه الغرامات والعقوبات من بلد إلى بلد، ومع ذلك هناك قدر من التوافق بينها حول ما تشكله حرية الصحافة كعنصرا جوهريا فى أى نظام ديموقراطى، وبالتالى لا ينبغى أن يصل العقاب المفروض عليها إلى حد قمعها أو إعاقتها.
العقوبات المدنية والجنائية ضد الصحافة:
تختلف العقوبات ضد الصحافة بالنسبة للقذف والدعاوى الأخرى اختلافا كبيرا من دولة لأخرى. غير أنه، رغم هذه الاختلافات، توجد درجة ما من التوافق فيما يتصل بالقيود التى تفرض على حرية التعبير، فلا بد أن تفرض بما لا يعرقل حرية واستمرارية المجتمع الديموقراطى، ربما يكون أوضح شاهد على هذا التوافق هو الرأى الذى تبنته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان فى قضية Lingens، حيث أكدت “أن العقوبات ضد الصحافة فيما يتعلق بأمور المصلحة العامة لا يمكن التسامح معها إلا فى أضيق نطاق، بسبب احتمال أن “تثبط الصحفيين عن المشاركة فى النقاش العام لقضايا تؤثر على حياة الجماعة”51، وهذا الرأى تتبناه الغالبية العظمى من الدول الديموقراطية المشار إليها، وتم الاستشهاد به فى الدفاعات المقبولة بالنسبة للقذف والقيود الأخرى.
ولذا، فإن فرض أى عقاب لا بد أن يتبع إجراءات ومبادئ قضائية محددة بدقة. فيجب أن تتوافر الرقابة القضائية الدقيقة لأى قرار يحتمل أن يلحق الضرر بحرية التعبير المكفولة للصحافة. وغنى عن البيان أن العقوبات التى ينص عليها القانون لا يجوز تطبيقها إلا على أولئك الذين تتم إدانتهم بعد محاكمة تتوافر فيها المعايير الدولية للإنصاف. وممارسة البلاد الديموقراطية تقضى بألا تتم الإدانة فى الأمور المتعلقة بحرية التعبير إلا عندما تكون التعديات قد ارتكبت بلا أدنى شك. وتلقى غالبية البلاد فيما يتعلق بالقضايا الجنائية بالعبء على المدعى. ويظل افتراض البراءة ذو أولوية مطلقة. وهذا هو الحال خاصة فيما يتعلق بالقضايا التى تخص حرية التعبير.
الرقابة القضائية للقيود والعقوبات المفروضة على حرية التعبير:
يجوز الرجوع إلى المعايير المستخدمة من قبل المحكمة الأوروبية فى تقدير القيود المسموح بها، والعقوبات، على حرية التعبير، ليس فقط لأن هذه المحكمة تظل الحارس الأخير لحقوق الإنسان والحريات على مستوى تلك الأمم الأوروبية، ولكن أيضا لأن لهذه المعايير أولوية بالغة لدى هذه الأمم، وتتبناها بلاد ديموقراطية أخرى بشكل ضمنى. أن الأشراف القضائى كما تتبناه المحكمة وبلاد أخرى يعد ضروريا، ليس فقط من أجل التأكد الوثيق مما إذا كانت الدولة تمارس اختصاصها “بمعقولية”، “وعناية”، و”بسلامة نية”، وإنما للتأكد أيضا من ضرورة أى قيد.52
تطور العقوبة الجنائية:
شهدت البشرية عدة تطورات فى مجال السياسة الجنائية بشقيها التجريمى والعقابى؛ فانتقلت العقوبة من الثأر والانتقام للقصاص ونظام التعويض المالى (الدية)، ثم انتقلت لنظام التكفير والتطهير، ثم ظهرت فكرة الردع الخاص والعام وفكرة إصلاح الجانى ومن جماعية العقاب إلى فرديته، وصولا إلى أفكار مدرسة الدفاع الاجتماعى النى تسند إلى الدولة ونظام العقاب وظيفة نفعية هى الدفاع عن المجتمع ضد عناصر الاضطراب وبخاصة الإجرام ولكن هذه النظرية أيضا تضع للفرد الحق فى حماية حريته الشخصية لذلك قادت هذه النظرية إلى مبدأ التناسب بين الجريمة أو النشاط الإجرامى والعقوبة عليه.
على المشرع ألا يختار عقوبات قامعة للحرية بدون ضرورة اجتماعية تستلزمها:
استقرت محكمتنا الدستورية على هذا المبدأ حيث قضت بأنه “وحيث إن الجزاء الجنائى كان عبر أطوار قاتمة فى التاريخ أداة طيعة للقهر والطغيان محققا للسلطة المستبدة أطماعها ومبتعدا بالعقوبة عن أغراضها الاجتماعية وكان منطقيا وضروريا أن تعمل الدول المتمدينة على أن تقيم تشريعاتها الجزائية وفق أسس ثابتة تكفل بذاتها انتهاج الوسائل القانونية السليمة – فى جوانبها الموضوعية والإجرائية – لضمان ألا تكون العقوبة أداة قامعة للحرية وعاصفة بالمخالفة للقيم التى تؤمن بها الجماعة فى تفاعلها مع الأمم المتحضرة واتصالها بها وكان لازما – فى مجال تثبيت هذا الاتجاه – أن تفرض الدساتير المعاصرة القيود التى ارتأتها على سلطات المشرع فى مجال التجريم تعبيرا عن إيمانها بأن حقوق الإنسان وحرياته لا يجوز التضحية بها فى غير ضرورة تمليها مصلحة اجتماعية لها اعتبارها واعترافا منها بأن الحرية فى كامل أبعادها لا تنفصل عن حرمة الحياة وأن الحقائق المريرة التى عايشتها البشرية على امتداد مراحل تطورها تتطلب نظاما متكاملا يكفل للجماعة مصالحها الحيوية ويصون – فى إطار أهدافه – حقوق الفرد وحرياته الأساسية بما يحول دون إساءة استخدام العقوبة تشويها لأغراضها.”53
نخلص من العرض السابق إلى أن العقوبة السالبة للحرية فيما يتعلق بجريمة القذف والسب (م 303، 306) تعرض حرية الرأى والتعبير ومن ثم حرية الصحافة لمخاطر جمة بما يؤثر على المجتمع. فلا توجد ضرورة اجتماعية حقيقية تستلزم العقوبة السالبة للحرية كرادع ضد جريمة السب والقذف، وعلى العكس يوجد العديد من البدائل التى تحقق الغرض الرادع دون أن تعصف بحرية الصحافة فما، يضاف إلى ساحة القذف يكون بالضرورة انتقاصا من حرية الصحافة. كما توجد ضرورة اجتماعية لتفضيل حرية الصحافة على الحق فى السمعة والاعتبار والحق فى الخصوصية دون التضحية بهم، كما تعد الضرورة الاجتماعية ظاهرة فى الحد من الإفراط فى التجريم والعقاب السالب للحرية.

المبحث الثالث
صلاحية إثبات الحقيقة كسبب كامل للإباحة الحقيقة كدفاع كامل:
بالنسبة لبلدان مثل ألمانيا والنمسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، يعد تأكيد الحقيقة دفاعاً كاملا. ففى ألمانيا، يتحمل أى مدع يتهم بالقذف متهما صحافيا عبء إثبات أن الصحافة فشلت فى القيام بواجبها فى مراجعة الحقائق وأن هذا الإخفاق نتج عن إهمال أو تعمد. “وحتى إذا تبين أن الوقائع خاطئة عند المحاكمة، فطالما لم يكن المتهم الصحافى مهملا أو سيئ النية، فمن المرجح سريان هذا الامتياز، وذلك نظرا للأهمية المعطاة لحق الجمهور فى معرفة ما يتعلق بالمصلحة العامة.”54 وفى كل من المملكة المتحدة وفرنسا والسويد، يتحمل المتهم عبء إثبات الحقيقة.
فرنسا:
أن إثبات صحة القذف مقبولا بموجب المادة 35 من القرار الصادر فى 6 مايو 1944 وأن الدفع بالصحة يمكن أن يقدم للقضاء إلا فى الحالات التالية :
1- عندما يتعلق الأمر بالحياة الخاصة.
2- عندما يتعلق الأمر بواقعة ترجع إلى أكثر من عشر سنوات.
3- عندما يتعلق الأمر بجريمة صدر بها أمر بالعفو العام أو تقادمت مدتها أو كانت محل حكم خاضع لإعادة النظر.
وخلاف هذه الحالات الثلاثة التى لا يصح فيها الإثبات؛ توجد حالات عديدة يمكن التأكيد فيها بعدم وجود نية الإضرار فى النشر ولكن فقط كانت الرغبة فى التعرف على الحقيقة بقصد المنفعة الاجتماعية، أو بقصد إشباع فضول الجمهور، ولا يمكن اعتبار هذه الحالات قذفا لعدم وجود النية الإجرامية، وإذا لم يكن من الممكن إثبات صحة واقعة الكذب، فإن الواقعة تعتبر عنصرا مبررا يسمح للقاضى بأن يقدر ما إذا كانت توجد لدى المتهم عوامل حسن النية. وقبل القرار الصادر فى 6 مايو 1944 الذى أقر الدفع بالصحة فإن القضاء كان يصرح بالاستماع إلى شهادة الشهود الذين يدعوهم المتهم لكى تسمع أقوالهم.55
وقد مر القانون الفرنسى بتطور انتهى فى سنة 1944 إلى أن إثبات الحقيقة يعتبر سببا لإباحة القذف سواء كان متعلقا بموظف عام أم بشخص عادى، ولم يستثن من هذه القاعدة إلا إذا كانت الوقائع المنسوبة للشخص تتعلق بالحياة الخاصة فلا يجوز إثبات صحتها. فالحق فى الإعلام حقق توسعا هاما فى نطاق القانون الفرنسى، حيث اعتبرت الحقيقة سببا للإباحة أما القانون المصرى فيأخذ بقاعدة عكسية.56
وفى السويد تعتبر الحقيقة دفاعا رغم أن المحرر يتحمل عبء الإثبات، غير أنه يكفى أن يتوافر لديه أساسا معقولا للاعتقاد بأن المعلومات صحيحة.57

المبحث الرابع
المصلحة العامة ودفع تهمة القذف
نظرية الامتياز Privilege:
نشأت فكرة الامتياز للصحافة كوسيلة للارتقاء بحماية حق الجمهور فى الإعلام، عن طريق تقييد بعض مبادئ المسئولية المدنية عن القذف فقد لاحظ الفقه أن تطبيق قواعد المسئولية المدنية على القذف الصحفى الموجه إلى أعمال ذوى الصفة العمومية، لا سيما بما تتضمنه هذه القواعد من حق الغير من شأنه أن يعوق حرية تدفق الأنباء وتداولها دون مبرر، الأمر الذى يؤدى إلى حجب كثير من الأنباء الصحيحة عن الرأى العام، ومن ثم إلى الإخلال بحق الجمهور فى تلقى الأنباء والأفكار حول كل ما يجرى فى المجتمع من أمور إذ يترتب على خوف الصحفيين من التعرض لخطر الرجوع عليهم بدعاوى المسئولية المدنية والتعويض عما تشتمل عليه أخبارهم الصحفية من قذف ضرورى فى حق الغير، لا سيما فى الحالات الكثيرة التى يتعذر عليهم فيها التثبت بيقين من صحة كل خبر أو إثبات صحته أمام القضاء، أن تفرض الصحف على نفسها نوعا ما من الرقابة الذاتية على النشر تضر بالصالح العام لذلك فقد نادى البعض بضرورة الاعتراف بوجود (الامتياز)، أو (حصانة)، أو (حماية خاصة) للصحافة وللصحفيين تعفيهم من هذه المسئولية وحماية لحرية تداول الأنباء، ومن ثم لحق الجمهور فى تلقى الأخبار.58
المقصود بالحق فى الإعلام:59
أن الجديد الذى أضافته هذه النظرية إلى فقه القانون المدنى المقارن يتمثل فيما تضمنته من إيضاح لفكرة الحق فى الإعلام وتحديد نطاق هذا الحق.

يقصد بالحق فى الإعلام حق كل إنسان فى أن يستخلص ويتلقى وينقل المعلومات والأنباء والآراء أو ما يسمى بالأخبار على أية صورة بغير تدخل من أحد، ويتضح من هذا التعريف الفارق بين الحق فى الإعلام وحرية الصحافة، فالحق فى الإعلام أوسع وأشمل من حرية الصحافة من حيث أنه يتضمن فضلا عن حرية النشر، حرية الوصول إلى مصادر الأخبار وحرية نقلها وإذاعتها، لا عن طريق المطبعة وحدها، بل بكافة طرق التمثيل والتعبير والإذاعة، كما يبرز هذا التعريف الفارق بين الحق فى الإعلام وما يسمى بحرية الأنباء؛ فالحق فى الإعلام أوسع وأشمل من حرية الأنباء من حيث أنه يتضمن فضلا عن حرية الوصول إلى مصادر الأخبار ونقلها وإذاعتها وتداولها عبر وسائل الإعلام المختلفة، حق جمهور القراء فى معرفة الحقائق والأخبار حول كل ما يجرى من أمور ويجد هذا الحق سنده القانونى فى نص المادة 19 من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان.
الصلة بين الحق فى الإعلام وغيره من الحقوق:60
ينبغى عدم الخلط بين الحق فى الإعلام والحق فى التبليغ؛ فالمقصود بالحق فى التبليغ هو حق كل شخص فى إخبار الحكام القضائيين أو الإداريين بأمر مستوجب لعقاب فاعله، بينما يقصد بالحق فى الإعلام كما سبق القول حق كل شخص فى معرفة الأخبار حول كل ما يجرى فى المجتمع من أمور، ويتضح من ذلك اختلاف هذين الحقين من حيث المحل ومن حيث الهدف المقصود منها. فمحل الحق فى الإعلام هو تمكين جماهير الناس بصفة عامة من معرفة الأخبار العامة حول كل ما يهمهم فيما يجرى فى المجتمع من أمور، بينما يقتصر محل الحق فى التبليغ على مجرد إخطار رجال السلطة العامة الذين يختصون بتلقى البلاغات فى شأن الوقائع التى تستوجب عقوبة من نسب إليهم، واتخاذ الإجراءات التى تنشأ عنها.
والهدف المقصود من الحق فى الإعلام هو تمكين الشعب من ممارسة حقه الدستورى فى رقابة حسن أداء الحكومة وعمالها للأعمال العامة الموكلة إليهم، عن طريق تزويد الرأى العام بكل الحقائق حول كيفية هذا الأداء فى مختلف القطاعات، وتعد هذه الرقابة من أهم السمات الأساسية التى تميز النظام الديموقراطى فى الحكم عن غيره من النظم الأخرى. بينما ينحصر الهدف المقصود من الحق فى التبليغ فى مجرد تمكين السلطة المختصة فى الدولة من رفع الدعوى العمومية على المتهم الذى يتم التبليغ عنه.
الحق فى الإعلام والحق فى النقد:61
ينبغى عدم الخلط بين الحق فى الإعلام والحق فى النقد؛ فالمقصودبالحق فى النقد هو حق كل شخص فى إبداء الرأى أو التعليق أو المناقشة فى كل عمل أو أمر من الأعمال أو الأمور العامة التى تهم جمهور الناس بقصد النفع العام وذلك استنادا إلى وقائع ثابتة مطابقة للحقيقة. بينما يقصد بالحق فى الإعلام حق كل شخص فى العلم بكل الحقائق والوقائع المتصلة بشئون الحياة العامة، فيستهدف النقد حماية حرية إبداء الرأى أو التعليق النزيه على الوقائع المعلومة بالفعل التى صارت فى حوزة الجمهور، بينما يستهدف الحق فى الإعلام تزويد الناخبين باعتبارهم أصحاب السيادة الحقيقية فى النظام الديموقراطى بأكبر قدر ممكن من المعلومات المتصلة بكيفية أداء ذوى الصفة العمومية لأعمالهم، وذلك لتمكينهم من ممارسة حقهم الطبيعى فى الرقابة والنقد تحقيقا للمصلحة العامة للمجتمع.
وعلى ذلك فإن الحماية التقليدية التى يكفلها القانون الوضعى للحق فى النقد لا يمكن أن تغنى عن ضرورة حماية الحق فى الإعلام حماية خاصة مستقلة، فكما أن القانون الوضعى يحمى الناقد من خطر المسئولية المدنية عن إبداء رأيه دون تفرقة بين الرأى الصحيح والرأى غير الصحيح، كذلك فإنه يجب على القانون الوضعى أن يحمى الصحافة ضد خطر المسئولية المدنية عن نشر الخبر الصحفى، دون تفرقة بين الخبر الصحيح والخبر غير الصحيح. والقول بغير ذلك يهدر حق الجمهور فى الإعلام الحر، إذ يترتب على خوف الصحفيين من خطر المسئولية المدنية عن نشر الخبر غير الصحيح أن تحجب عن الرأى العام أخباراً صحيحة كثيرة نتيجة فرض رقابة ذاتية أو داخلية على نشر الأخبار الصحفية. ومما يزيد من خطورة هذه الرقابة الذاتية صعوبة التحقق بيقين من صحة كل خبر صحفى ليس فقط بالنسبة لذات الصحفى الذى قام بنشره أو يريد أن ينشره بل أيضا بالنسبة لقضاة الموضوع الذين يؤسسون المسئولية عن نشره على أساس البت فى مسألة صحته أو عدم صحته وهم بطبيعة الحال معرضون للخطأ فى تقدير ذلك.
التوفيق بين مصلحة الموظف العام الشخصية والمصلحة العامة:62
إذا اشتمل الخبر الذى نشره الصحفى فى الجريدة على عبارات تنطوى على معنى القذف فى حق شخص طبيعى ذى صفة عمومية، فإن ذلك القذف يثير سؤالين على جانب كبير من الدقة والأهمية معا:
هل اعتدى الصحفى المدعى عليه بذلك القذف على حق ثابت للمقذوف فى السمعة، سواء صحت وقائع القذف المسندة إليه أو كذبت ؟ ذلك أن سمعة الشخص العام تتأذى بالقذف الصحيح كما تتأذى بالقذف غير الصحيح.
وهل كان الصحفى المدعى عليه على حق فى نشر ذلك الخبر فى الجريدة، رغم ما يحتوى عليه من قذف موجه إلى المدعى ؟ ذلك أن الصحفى قد يكون على حق فى ذلك بمقتضى مبدأ حرية تداول الأنباء. بل أنه قد يكون على حق فى ذلك استنادا إلى استعمال حق الجمهور فى الإعلام. ذلك الحق الذى يتجه الفقه الحديث إلى الاعتراف بوجوده فى القانون الوضعى، إن لم يكن كحق خاص بالمفهوم الدقيق للكلمة، يحميه القانون الوضعى بدعوى خاصة، فعلى الأقل كحق من حقوق الإنسان.أو كحق طبيعى. ومن ثم. قد يكون القذف مباحا فى هذه الحالة تحقيقا للمصلحة العامة. فتثير دعوى المسئولية عنه مشكلة التوفيق الضرورى بين مصلحة الموظف العام والمصلحة العامة:

هل يجب التضحية بمصلحة ذى الصفة العمومية فى صون سمعته التى تتأذى بالقذف الصحيح، فى سبيل تحقيق المصلحة العامة التى تقتضى الإطلاق من حرية الصحافة فى نشر الأخبار حول مبلغ أمانة ذوى الصفة العمومية فى أداء الأعمال العامة الموكولة إليهم؟
نطاق الحق فى الإعلام:63
لقد أوضح أنصار هذه النظرية أنها تقصر نطاق الامتياز الدستورى للصحافة فى حدود معينة وبالقدر اللازم فقط لتأمين حماية حق الجمهور فى الإعلام الحر ضد خطر تقييده دون مبرر مشروع أو المساس به على أية صورة من الصور. فالامتياز لا يمنح الصحافة حصانة مطلقة تعفيها من المسئولية عن القذف فى جميع الأحوال، بل حصانة نسبية ومقيدة بشروط معينة. لذلك فقد حرص أنصار هذه النظرية على تحديد نطاق هذا الامتياز بحيث لا يتعدى الحدود المرسومة لنطاق الحق فى الإعلام، ويتحدد هذا النطاق وفقا لأحد معيارين. إما على أساس النظر إلى صفة الشخص المقذوف فى حقه، من حيث كونه ذا صفة عمومية لا فردا عاديا (أولا). وإما على أساس النظر إلى طبيعة وقائع القذف المسندة إلى الشخص المقذوف فى حقه، من حيث اتصالها بحياته العامة لا بحياته الخاصة (ثانيا).
أولا: الصفة العمومية للشخص المقذوف:64
يتحدد نطاق الحق فى الإعلام وفقا لهذا المعيار على أساس النظر إلى صفة الشخص المقذوف فى حقه، من حيث كونه ذو صفة عمومية وليس فردا عاديا. والمقصود بذى الصفة العمومية وفقا للمفهوم الواسع الذى تأخذ به هذه النظرية؛ هو كل شخص يتصدى لقيادة الناس أو إرشادهم أو سياستهم أو العمل باسمهم فى أمر من الأمور العامة. ذلك أن مقتضى الحق فى الإعلام تشجيع نقد هؤلاء الأشخاص الذين يستطيعون التأثير على المصالح العامة. بينما لا توجد مصلحة اجتماعية فى تشجيع نقد الأفراد العاديين. ولذلك فإن الصحافة لا تستفيد من الامتياز الدستورى فى حالة نشر أخبار تنطوى على القذف فى حق آحاد الناس، بل تنعقد مسئولية الصحفى المدعى عليه عن هذا القذف طبقا للقواعد العامة. وبالتالى، تفترض مسئوليته عن القذف من مجرد استعمال ونشر عبارات القذف الشائنة بذاتها، لما فى ذلك من مساس بحق المدعى فى صون سمعته. لكن الأمر يختلف فى حالة القذف فى حق ذوى الصفة العمومية، حيث تفترض المشروعية فى هذا القذف الضرورى الذى تبرره ضرورات الإعلام الحر، فليس للشخص العام أن يشكو من هذا القذف المشروع، لأن للصحفيين حقا مشروعا فى ذلك استعمالا لحق الجمهور فى الإعلام الحر.
ولا يقال أن ذلك يهدر حق الشخص العام فى السمعة، ويوجد بالتالى تفرقة بلا مبرر بين الشخص العام والفرد العادى فى هذا الصدد. فإن هذه التفرقة تجد ما يبررها فى مبدأ قبول المخاطر أو الرضاء الضمنى بحدوث الضرر، من ناحية أولى. كما أنها تجد ما يبررها فى مبدأ رجحان الحق فى الإعلام أو أولويته. من ناحية أخرى.
ففيما يتعلق بالاستناد إلى مبدأ قبول المخاطر أو الرضاء الضمنى بحدوث الضرر: يمكن القول بأن الشخص العام. بقبوله التصدى للعمل العام مع العلم بالمخاطر المحيطة به والمتمثلة فى التعرض للطعن فى تصرفاته على صورة أشد مما يتعرض لها الفرد العادى، يكون بذلك قد قبل ضمنا تحمل تبعة القذف غير الصحيح فيما ينشر عنه فى الصحف من نقد. بينما يختلف الأمر بالنسبة للفرد العادى الذى لم يطمع فى الامتياز على غيره بالتعرض لقيادة الناس أو إرشادهم أو الإشراف على مصالحهم أو تدبير أموالهم، واثر الحياة بعيدا عن مجالات العمل العام، ومن ثم يكون له أن يشكو من الطعن فى تصرفاته.
أما فيما يتعلق بالاستناد إلى مبدأ رجحان الحق فى الإعلام أو أولويته بالرعاية: يمكن القول بأن الأمور المتعلقة بتصرفات الشخص العام هى ذات الأمور التى تدخل فى نطاق الحق فى الإعلام، والتى يكون من حق الجمهور أن يعلم بها. ومن ثم، يترتب على السماح للشخص العام بالشكوى من نشرها، تقييد حق الجمهور فى الإعلام الحر من أجل الدفاع عن مصلحة الشخص العام فى السمعة. وهذه نتيجة غير مقبولة لأنها تتجاهل مقتضيات رجحان الحق فى الإعلام على حق الشخص العام فى السمعة. لا سيما وأن الشخص العام بما لديه من سلطة ونفوذ يستطيع أن يستعمل حقه فى الرد أو التصحيح، ومن ثم. فإنه يكون أقل حاجة إلى حماية سمعته من الشخص العادى. الأمر الذى ينعدم معه أى مبرر معقول لإلغاء أو تقييد الحق فى الإعلام بدعوى توفير هذه الحماية المزعومة لسمعة الشخص العام. أن قانون المسئولية التقصيرية عن القذف يجب أن يأخذ فى اعتباره أن للحق فى الإعلام قيمة اجتماعية أفضل وأولى بالرعاية من قيمة حق الشخص العام فى السمعة، لذلك ينبغى عدم السماح للأشخاص العامة بالشكوى من القذف المخالف للحقيقة الذى تنشره الصحف فى حقهم، إلا فى حالة ثبوت إساءة استعمال الحق فى الإعلام.

ثانيا: اتصال القذف بالحياة العامة للمقذوف:65
يتحدد نطاق الحق فى الإعلام، وفقا لهذا المعيار، على أساس النظر إلى طبيعة وقائع القذف المسندة إلى الشخص المقذوف فى حقه. من حيث اتصالها بأمور حياته العامة، لا بشئون حياته الخاصة. فليست كل تصرفات الشخص العام مما يدخل فى نطاق الحق فى الإعلام، وإنما يقتصر ذلك على ما يتعلق منها بمجال حياته العامة. والمقصود بالحياة العامة، وفقا للمفهوم الواسع الذى تأخذ به هذه النظرية، هو كل أمر أو عمل يقوم به الشخص العام، إذا كان من شأنه التأثير على صلاحيته أو ملاءمته لأداء العمل العام الموكول إليه، والأصل أن كل واقعة شائنة تنسب إلى الشخص العام. فى أى أمر من أمور حياته تؤثر على صلاحيته لأداء عمله العام، ومن ثم تدخل فى نطاق حياته العامة. ولكن هذه القرينة ليست قرينة قاطعة. بل تسقط أمام الدليل على العكس. فالأصل أن من يتقدم لتولى قيادة زمام المصالح العامة يعلن عن نفسه جدارة تؤهله لما يطلبه.
فلا يسمح له أن يرسم فى شخصه مناطق يحرم التعرض لها. بل يكون عليه أن يبرز أمام الرأى العام فى أدق نواحيه وجزئياته. لكن المصلحة العامة لا تكتسب من الطعن فى بعض شئون الحياة الخاصة للشخص العام، إذ تبين عدم وجود أى صلة على الإطلاق بين وقائع القذف المسندة، وبين ملاءمة المقذوف أو صلاحيته لأداء العمل العام الموكول إليه. لذلك يجب أن يسمح للشخص العام بالشكوى من القذف فى هذه الحالة، على أساس إساءة استعمال الحق فى الإعلام.
يخلص من دراسة نظرية الامتياز الدستورى للصحافة، أن هذه النظرية تتجاوب مع ضرورات الإعلام التى تقتضى تشجيع الصحافة والصحفيين على نشر الحقائق حول أداء ذوى الصفة العمومية للعمل العام الموكول إليهم، دون خوف من المسئولية المدنية عن القذف. وأن الوسيلة الفنية التى تقترح النظرية استخدامها لتحقيق هذا الهدف تتمثل فى التوسع فى نطاق أسباب دفع المسئولية المدنية عن القذف ومدها إلى القذف المخالف للحقيقة فضلا عن القذف المطابق للحقيقة. ويجد هذا التوسع سنده القانونى فى مبدأ الاستعمال المشروع للحق فى الإعلام من ناحية، وفى مبدأ رجحان الحق فى الإعلام على مصلحة ذوى الصفةالعمومية فى سمعتهم من ناحية ثانية، وفى مبدأ الرضاء الضمنى بحدوث الضرر، من ناحية ثالثة. وتبنى النظرية على ذلك ضرورة القول بإعفاء الصحفيين من المسئولية المدنية عن القذف فى حق ذوى الصفة العمومية، إلا فى حالة ثبوت إساءة استعمال الحق فى الإعلام.
وفى النهاية فإن عرض هذه النظرية يهدف إلى تبيان مدى النظرة التى يتناول بها القانون المقارن تشريعات حرية الرأى والتعبير والصحافة هذا من جهة، ومن جهة أخرى مقارنة وضع حرية الرأى والتعبير والصحافة فى مصر بوضعها فى هذه النظم؛ ففى الوقت الذى تتجه فيه التشريعات إلى عدم مساءلة الصحفيين والصحف مدنيا عما يقع منهم من أخطاء طالما لم يثبت سوء نية الصحفى أو الصحيفة، فإن التشريع المصرى ما زال يتشبث بالعديد من القيود على حرية الرأى والتعبير والصحافة، حيث يلاحق حرية الصحافة جنائيا، ويرصد لها من العقوبات ما يؤدى إلى العصف بهذه الحريات ويهدر قيمة النصوص الدستورية والاتفاقيات الدولية الموقعة عليها مصر.

القانون الإنجليزى:
يعترف القانون الإنجليزى للفرد فى حالات خاصة – لغرض المصلحة العامة – بحق نشره. “منشورات” قذفية دون التعرض لأية مسئولية جنائية كانت أو مدنية. وتسمى مثل هذه المنشورات: “منشورات ممتازة”Privileged Publications.
أدخل فى النظام القانونى الإنجليزى بموجب قانون 1888، وهو يعنى أن الناشر الذى ينشر تقارير تتمتع بصفة الامتياز يعفى من المسئولية الجنائية والمدنية لما قد تحتويه هذه التقارير من وقائع قذف مدنى أو جنائى وهذه التقارير على نوعين:
تقارير المرافعات القضائية:
يشترط لتمتع النشر بهذا الامتياز أن تتوافر الشروط التالية:
1. أن تكون المرافعات قد حدثت فى جلسة علنية.
2. أن تحدث المرافعات أمام محكمة تمارس سلطة قضائية.
3. أن يكون التقرير أمينا ودقيقا.
4. أن ينشر فى وقت معاصر للمرافعة القضائية.
5. ألا يحتوى التقرير على مسائل إلحادية أو منافية للأخلاق.
نشر تقارير عن الاجتماعات العامة:
لكى يتمتع نشر التقارير التى تتعلق بالاجتماعات العامة بالامتياز، رغم احتوائها على مسائل قذفية يجب توافر الشروط التالية:
1. أن يكون التقرير أمينا ودقيقا.
2. أن يكون جميع ما ورد فى التقرير متعلقا بالمصلحة العامة.
3. ويجب ألا ينشر التقرير بسوء نية، وعبء إثبات سوء النية يقع على المشتكى ذاته.
4. يجب ألا تتضمن العبارة مسائل إلحادية أو منافية للأخلاق.
5. يجب ألا ترفض الجريدة التى نشر فيها التقرير نشر ما يرسل إليها من رد معقول مؤيد أو معارض لما جاء فيه من كلمات قذفية.
6. يجب أن يتعلق التقرير باجتماع عام ويكون كذلك إذا كان:
– معقود بحسن نية وحسب القانون.
– ولغاية مشروعة.
– ولمناصرة أو بحث أمر متعلق بمصلحة عامة.66
الامتياز المطلق والامتياز المشروط Qualified Privilege Absolute &:
بالنسبة لعدد من البلدان، يشير الامتياز المشروط إلى الأمور التى يجوز نشرها دون أدنى مسئولية. وفى نيو ساوث ويلز، يشتمل قانون القذف لسنة 1974 كذلك، على منظومة هائلة من البنود التى تخضع للدفاع ذى الامتياز المطلق، مثل المناقشات البرلمانية ويتكون الامتياز الموصوف من المعلومات التى تنشر لأى شخص يهتم بالحصول عليها، شرط أن يكون سلوك الناشر “معقولا فى ضوء الظروف.”67
وفى المملكة المتحدة، بموجب قانون القذف لعام 1996، تشمل الموضوعات التى تتمتع بالامتياز الموصوف التقارير الدقيقة والسلمية للإجراءات العلنية للتشريع، أو أمام محكمة، أو عن شخص ينتدب لإجراء استبيان عام، أو عن منظمة دولية أو مؤتمر دولى، أو عن وثائق أو مقتطفات يتطلب القانون طرحها لمناقشة عامة.68 ويتضمن قانون القذف أيضا قوائم بالعبارات التى تتمتع بالامتياز بحسب الأحوال، وتشمل كمثال؛ التقارير الدقيقة والسليمة حول إجراءات أى لقاء عام، بما فى ذلك لقاءات الشركات العامة، وكذلك المستندات التى توزع على أعضاء شركة من هذا النوع.69
القانون الأمريكى:70
تبنت المحاكم الأمريكية النظرية القائلة بوجود “امتياز”، أو “حصانة”، أو “حماية خاصة” يكفلها الدستور للصحافة والصحفيين تعفيهم من المسئولية المدنية عما قد تنطوى عليه أخبارهم الصحفية من قذف غير صحيح موجه إلى أعمال ذوى الصفة العمومية.
وإجماع الفقه والقضاء فى الولايات المتحدة على أن هذا الإعفاء يقوم على أساس مبدأ أولوية أو “رجحان حق الجمهور فى الإعلام الحر وأفضليته على حق ذوى الصفة العمومية على سمعتهم الوظيفية.

وتأسس الاعتراف بالامتياز الدستورى للصحافة فى القانون الوضعى الأمريكى على أساس تفسير خاص لنص التعديل الأول للدستور، فمن المعلوم أن هذا النص يقضى بأنه لا يجوز للكونجرس إصدار أى تشريع تقيد بموجبه حرية القول أو حرية الصحافة، وينسب هذا التفسير الخاص، عادة إلى القاضى “هوجو بلاك” الذى أعلن فى أحد أحكامه فى المحكمة العليا للولايات المتحدة الأمريكية أن الطريق المؤكد الوحيد لحماية القول والصحافة هو الاعتراف بأن قواعد المسئولية عن القذف تمثل قيودا على القول والصحافة ومن ثم فإنها تكون قد ألغيت فى كل المحاكم الاتحادية ومحاكم الولايات بصدور التعديل الأول للدستور.
وفى عام 1964 أعلنت المحكمة العليا للولايات المتحدة الأمريكية فى حكمها الصادر بالإجماع فى قضية “سوليفان” ضد “نيويورك تايمز”، اعترافها الصريح بوجود الامتياز الدستورى للصحافة. وقد جاء فى هذا الحكم أن الضمانات الدستورية لحرية الصحافة وحرية القول المنصوص عليها فى التعديل الأول، والمفروضة على الولايات بمقتضى التعديل الرابع عشر، تتضمن قاعدة اتحادية تحظر على ذى الصفة العمومية الحصول على تعويض عن القذف المخالف للحقيقة المتصل بسلوكه الوظيفى، إلا إذا أثبت بأدلة قاطعة أن الصحفى المدعى عليه قد أقدم على نشر هذا القذف عن سوء قصد وهو يعلم سلفا بعدم صحته. ولقد أجمع الفقه الأمريكى على القول بأن هذا الحكم ألغى المسئولية التقصيرية عن الخطأ المفروض أو المسئولية التقصيرية المفترضة عن القذف فى حق ذى صفة عمومية، محدثا بالتالى تغيرا جذريا فى قانون القذف المستقر، وملغيا السوابق القضائية المعمول بها فى كل الولايات، ولقد ألغت المحكمة العليا فى هذا الحكم حكما قضى لضابط شرطة بمبلغ نصف مليون دولار تعويضا عن الأضرار التى لحقت به من جراء ما نشرته ضده الجريدة المدعى عليها من قذف مخالف للحقيقة يتعلق بسلوكه الوظيفى إعمالا للقواعد العامة التى تفترض وقوع الخطأ من مجرد نشر وقائع القذف الشائنة بذاتها لما يتضمنه ذلك من اعتداء غير مشروع على حق المدعى فى صون سمعته.
ولقد حرصت المحكمة العليا للولايات المتحدة الأمريكية فى حكمها فى قضية “سوليفان” ضد “نيويورك تايمز”، كما حرص الفقه الأمريكى المؤيد لهذا الحكم، على الرد على أهم الاعتراضات التى أثيرت ضد فكرة هذا الامتياز الدستورى الجديد للصحافة.
ومن ذلك أن الامتياز الدستورى للصحافة لا يستهدف حماية الكذب فى حد ذاته بل يستهدف إطلاق حرية الفكر والمناقشة وتشجيع الحوار واحترام الرأى الآخر فى نقد المسائل العامة والتحرر من خطر الخوف من المسئولية المدنية التى يمكن أن تترتب على القذف الضرورى فى حق ذوى الصفة العمومية.
أن القول برفض هذا الامتياز ومن ثم تحميل الصحفى المدعى عليه عبء إثبات صحة كل واقعة مسندة هو قول غير مقبول، لأنه يشل حرية تدفق الأنباء ويعرض المصلحة العامة للضرر.أن الضرر المترتب على مساءلة الصحفى عن نشر الخبر غير الصحيح أو على حجب بعض الأخبار الصحيحة عن الرأى العام لمجرد الخوف من خطر المسئولية المدنية فى حالة عدم النجاح فى إثبات صحتها أمام القضاء، هو ضرر أبلغ وأفدح بكثير جدا من الضرر الذى قد يترتب على المساس بالسمعة الوظيفية للشخص العام. أن كل حماية يضيفها قانون القذف لهذه السمعة لا بد وأن تقتص من نطاق الحماية القانونية التى يكفلها الدستور لحق الجمهور فى الإعلام الحر، فمن الأفضل لحماية حرية الأنباء أن يفلت مائة صحفى من المسئولية عن نشر أخبار غير صحيحة، من أن يسأل صحفى واحد عن نشر أخبار مطابقة للحقيقة لمجرد أنها تنطوى على القذف فى حق شخص عام فى السوق الحرة لتداول الأفكار، يجب أن يسمح القانون المدنى بنشر الخبر الصحيح والخبر غير الصحيح جنبا إلى جنب حتى تصبح الحقيقة كاملة أمام الجمهور.
إذا تعارضت مصلحة الجمهور فى الإعلام مع مصلحة الشخص العام فى الكتمان حفاظا على سمعته الوظيفية، فإن سمو المصلحة الأولى ورجحانها يوجب القول بأولويتها بالرعاية وتفضيلها بالتالى على المصلحة الثانية ومما يدل على ذلك أن القانون الأمريكى رفع الحق فى الإعلام إلى مرتبة الحقوق الدستورية فى حين لم يرد فى الدستور نص يوجب حماية الحق فى السمعة.
أن حماية نشر الخبر المخالف للحقيقة بدون سوء نية يعكس استراتيجية قانونية مؤداها أنه ينبغى على القانون الوضعى أن يكفل لحرية الرأى حماية أكثر مما ينبغى لكى يضمن ألا تقل حمايته من الناحية العملية فى واقع الأمر عما ينبغى، أن تزايد اهتمام الرأى العام بمعرفة الحقائق المتصلة بذوى الصفة العمومية هو الذى يحتم الأخذ بهذا الحل.

موقف القضاء الفرنسى71:
لقد وجد فى الفقه الفرنسى من نادى منذ صدور قانون الصحافة الفرنسى فى عام 1881 بضرورة منح الصحافة امتياز يرفع عنها حرج المسئولية عما تنشره من الحوادث والأخبار، لا سيما ما كان منها متصلا بذوى الصفة العمومية، كما وجد فى الفقه الفرنسى من اعتقد بأن القضاء الفرنسى قد استجاب لهذا النداء فى أحكامه، وقد استدل هذا الفقه على صحة ما يقول به ببعض الأحكام القديمة التى كان الفقيه ميمان قد أشار إليها فى تعليق له عام 1939 لإيضاح نظريته المعروفة فى حسن النية كسبب قائم بذاته لإباحة القذف فى بعض الظروف التى تقتضى الإطلاق من حرية الصحافة من أجل المصلحة العامة. وقد جاء فى بعض هذه الأحكام أن الصحفى بما ينشره من هذه الأخبار إنما يباشر مهمة تستلزمها مقتضيات مهنته، ويستعمل حقا مشروعا مقررا له، وأن هذا الحق قد جرى به العرف، حتى لم يعد هناك من ينازع فى وجوده، وأن الصحفى لا يرمى من وراء ذلك إلى تحقير ذوى الصفة العمومية، وهو فوق ذلك كله فى شبه استحالة من التمكن من تحقيق كل ما يصل إلى علمه من الأنباء والمعلومات، لا سيما ما قد ينمو إلى علمه منها من مصادر عليمة لا يرقى إليها الشك.
أن الاعتراف بوجود حق للجمهور فى الإعلام الحر بمقتضى المادة 19 من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان لحماية حرية البحث عن الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بكل وسائل التعبير؛ يوجب القول بمشروعية المهمة التى يؤديها الصحفيين فى قيامهم بواجبهم المهنى بنشر الأخبار، فلقد استنتج البعض من هذه العبارات التى ترد أحيانا فى حيثيات بعض الأحكام بأنها تعترف بحق الامتياز هذا، إلا أن غالبية الفقه الفرنسى الحديث – طبقا لما ورد بكتاب الدكتور محمد ناجى ياقوت عن مسئولية الصحفيين المدنية – لا تعترف بوجود مثل هذا الامتياز أو الحصانة أو الحماية الخاصة للصحفيين بل أن المحاكم الفرنسية تتجه بوجه عام نحو عدم التساهل مع الصحفيين فى تقدير صحة الوقائع التى ينشرونها بحسن نية لاسيما إذا تضمنت معنى القذف فى حق الغير، فالأحكام كثيرة فى التأكيد على الصحفيين للقيام بواجباتهم المهنية التى تقتضى التثبت من صحة كل خبر قبل الإقدام على نشره ومراعاة عدم الاعتداء على سمعة الغير.
استثناء الشخص العام:
حكمت المحكمة الأوروبية فى قضية Lingens بأن السياسيين مطالبون بتحمل درجة أعلى من النقد فيما يتعلق بأدوارهم العامة أكثر من الأفراد العاديين، كما أكدت على أن الحكومة يجب أن تتحمل درجة أكبر من النقد مقارنة بالسياسيين، ويجوز لها أن تمنع النقد فقط فى أضيق الظروف؛ كأن تكون البلاد تعانى من اضطرابات قومية، ويكون من المحتمل أن يؤدى هذا النقد إلى توسيع رقعة هذه الاضطرابات. تم تطبيق ذلك فى قضية Castells ضد أسبانيا حيث قضت : “أن حدود النقد المباح تتسع فيما يتعلق بالحكومة عما يتعلق بالمواطن الفرد أو حتى أى سياسى. وفى أى نظام ديموقراطى لابد أن تخضع أفعال الحكومة أو إهمالها للرقابة الدقيقة ليس فقط للتشريع والسلطات القضائية، ولكن أيضا للصحافة والرأى العام.”72
حق النقد والشخص العام:
وقد أوضحت المحكمة العليا فى الولايات المتحدة أن جميع الانتقادات أو الإهانات للموظفين العموميين أو للحكومة أو لأى من مؤسساتها يجب تحمله حتى وأن كانت تلك الأقوال غير صحيحة بشرط ألا تشكل قذف جسيما.73
وفى قضية Sweeny v.patterson تستحق تعليقات القاضى إديرجتون أن نقتبسها:74
Whatever is added to the field of libel is taken from the field of free debate أن ما ينضوى فى مجال القذف إنما يقتنص من ساحة الحوار الحر.
وفى ألمانيا، نظرا لمحدودية الحماية للموظفين العموميين، نادرا ما تنجح قضايا التشهير ضد أى سياسى أو شخصية عامة فى حوار سياسى، فالمحكمة الدستورية عموما ترفض الإدانة بسبب التشهير بالسياسيين مشيرة إلى أن الانتقاد العنيف للموظفين العموميين يعد جزءا مقبولا وضروريا من الديموقراطية. وفى أسبانيا حكمت المحكمة الدستورية فى 1990 بأن المعلومات والآراء فيما يخص السياسيين تعتبر ذات صفة عامة، وبالتالى، فإن السياسيين مطالبون بالرضوخ لدرجة أعلى من التعدى على شرفهم وخصوصيتهم من أجل حماية حرية التعبير وتداول المعلومات.75
المصلحة العامة كدفاع:
فى عدد من الحالات أشارت المحكمة الأوروبية إلى أهمية المصلحة العامة كدفاع مشروع، ولا تشمل المصلحة العامة الشئون السياسية فقط، وإنما تمتد إلى القضايا العامة، مثل عنف الشرطة، والتى تعتبر ذات أهمية حيوية بالنسبة للمجتمع عموما. ومن الجدير بالذكر التأكيد على أن المحكمة الأوروبية، فى تقديرها لكفاية الأسباب وراء أى تدخل، عليها أن تضع فى اعتبارها جانب المصلحة العامة فى القضية، وحيث تتضمن المعلومات موضع الحجب أمرا “ذا اهتمام عام لا ينازع”، فلا يجوز حجب المعلومة إلا إذا بدا “مؤكدا” أن نشرها تترتب عليه نتيجة عكسية، تبرر تخوفات الدولة.“76
والمصلحة العامة فى فقه الأمم الديموقراطية تظل دفاعا هاما. وطبيعى أن يختلف التقدير لما يمثل مصلحة عامة. غير أنه يجوز اعتبار أن المصلحة العامة تلتقى مع القيمة الجوهرية لحرية التعبير. وكما أكدت المحاكم الكندية، أن القيمة الجوهرية المتضمنة فى حرية التعبير تشمل “السعى وراء حقيقة سياسية أو علمية أو فنية، وحماية الاستقلال الفردى والتطور الذاتى، وتنمية المشاركة العامة فى العملية الديموقراطية”77، وبينما لا يقدم ذلك إجابة شافية، فإنه يشير إلى أن أى تقييد لابد أن يتم إبعاده عن هذه القيمة.
وبالمثل، فى الولايات المتحدة، تقدم الأمور ذات الاهتمام العام دفاعا ضد المسئولية. فكما رأت المحكمة العليا أن الأشخاص المرتبطين بقضايا ذات اهتمام عام لا يجوز لهم التقاضى بسبب الإضرار بسمعتهم، إلا إذا استطاع المرء استيفاء الشروط الصارمة التى يفرضها حكم Sullivan. وبالتالى فإن القضايا المتصلة بالاهتمام العام، بما فى ذلك الشئون السياسية ليست عرضة للتدخل غير المناسب من قبل الحكومة.78
وفى أسبانيا، هناك عدد من الأمور توضع فى الاعتبار عند تقرير كل أمر يتعلق بالقيود المسموح بها والمصلحة العامة، ومنها :
1) ما إذا كانت الآراء حول الوقائع قد تم تداولها فى وسائل الإعلام والتى ربما تسهم بالتالى فى تشكيل رأى عام حر.
2) ما إذا كانت الآراء أو المعلومات المتداولة تعد متصلة بالشئون العامة، على ضوء الطبيعة العامة للأشخاص والوقائع المتضمنة.
3) ما إذا كان التعبير عن الآراء ينحصر فى حدود نطاق المصلحة العامة.
4) ما إذا كانت الوقائع دقيقة.
فى السويد، الأمر الرئيسى فى قضايا القذف هو ما إذا كان النشر مبررا : ويعد مبررا عندما تتغلب المصلحة العامة من الإعلام على المصلحة فى التحقيق مع الأشخاص المعنيين. وفى النمسا وهولندا يتحمل المتهم الصحافى عبء إثبات سلامة النية والمصلحة العامة، فى هولندا ينتظر من الصحفيين الكشف عن درجة أعلى من سلامة النية فيما يتعلق بالادعاءات الخطرة. وفى المملكة المتحدة تظل المصلحة العامة دفاعا جيدا. فقانون ممارسة المهنة، رغم أنه لا يعد إلا خطا إرشادياٌ، يوفر بعض الإرشادات حول ما يمثل مصلحة عامة. وتشمل المصلحة العامة : استنباط أو الكشف عن جريمة أو جنحة خطرة، حماية الصحة والسلامة العامة، منع الجمهور من التضليل بسبب خبر أو فعل ما لفرد أو منظمة.

المبحث الخامس
حرية الصحافة وحرمة الحياة الخاصة
لا يمكن إنكار الحق فى الإعلام وأهميته القصوى لأى نظام ديموقراطى. فالجمهور من حقه أن يعلم ما يدور فى المجتمع بكافة نواحيه، والصحافة الحرة هى التى توفر للجمهور الإعلام الكافى، ويتقيد هذا بضرورة الموازنة بين الحق فى المعرفة وحق الشخص فى حماية سمعته وخصوصياته، ومعيار الموازنة بينهما هو مصلحة المجتمع، حيث تكون الموازنة بين مصلحة المجتمع فى المحافظة على حرمة الحياة الخاصة للمواطن واعتباره وسمعته، ومصلحة المجتمع فى توفير الإعلام للجمهور.
وحرية التعبير مع أهميتها الشديدة لا تعنى حرية جمع المعلومات عن الغير وإذاعتها دون قيد أو شرط، بل لابد من مراعاة حرمة الحياة الخاصة وعدم التعرض لها فى الصحافة. بل يجب اعتبار الحق فى الخصوصية من الحقوق الأساسية فى المجتمع بحيث لا يغلب أى حق آخر عليه إلا إذا دعت لذلك مصلحة جديرة بالرعاية.
ويذهب الفقه إلى أنه لا يجوز اللجوء إلى فرض الرقابة على الصحافة بغرض محاربة صحافة الإثارة، فالرقابة على الصحافة تعتبر من الوسائل غير الشعبية، بل أن الدساتير المعاصرة تحظر فرض الرقابة على الصحافة. فلا يقبل أن يكون تفادى التعسف فى استعمال حرية من الحريات بإلغاء هذه الحرية وإلا كنا كالمستجير من الرمضاء بالنار.
ولهذا لابد من الإبقاء على الحرية مع وضع القواعد القانونية التى تكفل عدم التعسف فى استعمالها. ولا يكفى اللجوء إلى الجزاء الجنائى، لأن قانون العقوبات لا يمكن له أن يتدخل إلا فى حدود معينة، حيث تزداد خطورة الاعتداء. بل أن من عيوب الجزاء الجنائى أنه يضع الصحافة فى مواجهة الدولة وذلك لا يخلو من الحساسية والمصاعب. ومن الأفضل أن يكون رد فعل المجتمع ضد هذه الصحافة عن طريق الجزاء المدنى أى فى نطاق الحماية المدنية الشخصية.79
تشير المواثيق الدولية إلى قيود صريحة على حرية التعبير من أجل حماية حقوق وسمعة الأفراد. جاء ذلك فى المادة 17 من العهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية، والمادة 12 من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، والمادة 8 من الاتفاقية الأوروبية، والمادة 13 من الاتفاقية الأمريكية.
وكان على المحكمة الأوروبية أن تقرر المدى الذى يجوز للصحافة فيه أن تتعدى على الحياة الشخصية وقد أقرت اللجنة الأوروبية فى عدد من قراراتها بأن الكشف عن الوقائع المتعلقة بأحد الأفراد، أو اكتشافها، من قبل شخص ثالث ينتهك الحق فى الخصوصية، ولكن يجوز تبريره من أجل منع الجريمة، وبالمثل، فإن وضع الصور الشخصية، وبصمات الأصابع المتعلقة بالنشاط الجنائى فى الماضى، ينتهك الحرية الشخصية، رغم إمكانية اعتباره مبررا من أجل منع جريمة وحماية النظام العام. ومع ذلك يجب أن تحدد الدرجة التى يمكن للصحافة أن تتدخل عندها. غير أنه يبدو من هذه الحالات أن هذا التدخل يجوز أن يكون مبررا فى ضوء منع النشاط الإجرامى، وحماية النظام العام، والمصلحة العامة.80
وهناك عدد من البلدان تحمى الحق فى الخصوصية فى دساتيرها مثل ألمانيا وهولندا والسويد. فقد فسرت المحكمة العليا بالولايات المتحدة نصوصا دستورية مختلفة على أنها توفر الحق فى الخصوصية.
وبينما تحظر عدد من البلدان الاستخدام غير المشروع لصور الأفراد، كذلك تقر معظمها باستثناء صور الشخصيات العامة والأشخاص الحاضرين فى تجمعات عامة. والأمر كذلك فى النمسا وألمانيا وهولندا والنرويج. وفى ألمانيا وضعت المحكمة الدستورية الفيدرالية تمييزا بين الشخصيات العامة والآخرين الذين يكون لهم اهتماما عاما فقط لدورهم فى حدث معين. فيجوز تصوير هؤلاء فقط إذا رجحت كفة المصلحة العامة على المصالح الأخرى.81 وتقر النرويج فى القسم 15 من قانون الخصوصية لعام 1978 استثناء المصلحة العامة والتى عادة ما تجعل من غير الضرورى على الصحافة الحصول على الترخيص.
وتسمح النمسا بالنشر إذا وجدت أى علاقة بالحياة العامة، وفى فرنسا يعتبر الاعتداء على الخصوصية ضررا فقط وليس جريمة جنائية مثل القذف ورغم ذلك فلا يوفر هنا الصدق أو حسن النية أو المصلحة العامة أى دفاع. وفى القانون السويدى تتمتع الخصوصية بأقل قدر من الحماية.

المبحث السادس
حق النقد والقذف
شروط حق النقد:
1. واقعة ثابتة.
2. ذات أهمية جماهيرية عامة.
3. رأى ملائم أو تعليق نزيه.
4. ملاءمة التعليق أو الرأى للواقعة وتناسبه معها.
5. حسن النية (بمعنى توخى النفع العام فيما يبديه من آراء واعتقاده فى صحة ما يبديه من آراء، وأن هذا الاعتقاد وليد تحرز وتقدير كافة الأمور.)
ومما هو جدير بالذكر الإشارة إلى نص المادة 436 عقوبات سودانى، نقلا عن القانون الهندى من المادة 408 عقوبات قديم والمخصصة لجريمة القذف، حيث عددت المادة استثناءات عشرة لا يعاقب عليها حيث لا يعتبرها النص فى عداد القذف وهى:
أولا: إسناد واقعة صحيحة لأى شخص متى اقتضى الصالح العام حصول الإسناد أو نشره.
ثانيا: لا يعد قذفا إبداء رأى بحسن نية بشأن سلوك موظف عام أثناء قيامه بأعمال وظيفته أو فيما يتعلق بأخلاقه بقدر ما يكون ظاهرا من هذه الأخلاق من سلوكه الوظيفى دون غيره.
ثالثا: لا يعد قذفا إبداء رأى بحسن نية بشأن سلوك أى شخص فى موضوع يمس مسألة عامة أو فيما يتعلق بأخلاقه بقدر ما يكون ظاهرا من هذه الأخلاق فى هذا السلوك دون غيره.
رابعا: لا يعد قذفا نشر خبر حقيقى فى جوهره عن إجراءات أية محاكمة قضائية أو عن نتيجة أى من هذه الإجراءات.
خامسا: لا يعد قذفا إبداء رأى بحسن نية بشأن ظروف أية قضية مدنية أو جنائية فصلت فيها المحكمة أو بشأن سلوك أى خصم فى القضية أو شاهد أو وكيل فيها أو بشأن أخلاق من سبق ذكرهم بقدر ما يكون ظاهرا من هذه الأخلاق – فى هذا السلوك فقط دون غيره.
سادسا: لا يعد قذفا إبداء أى رأى بحسن نية بشأن تقدير أى عمل يعرضه صاحبه على الرأى العام للحكم عليه أو بشأن أخلاق صاحب العمل بقدر ما يظهر منها فى العمل المذكور وليس أكثر من ذلك.
سابعا: لا يعد قذفا من كانت له سلطة مقررة على غيره إما بالقانون أو ناشئة عن عقد مشروع مبرم مع هذا الغير إذا وجه إليه بحسن نية.
ثامنا: خاص بالشكوى.
تاسعا: لا يعد قذفا إسناد أمر يتعلق بأخلاق شخص ما بشرط أن يحصل الإسناد بحسن نية ولحماية مصالح من صدر منه الإسناد أو مصالح أى شخص آخر وللصالح العام.
عاشرا: لا يعد قذفا التحذير الموجه بحسن نية من شخص إلى آخر بشرط أن يكون القصد منه مصلحة من وجه إليه التحذير أو مصلحة شخص يهمه أمره أو للمصلحة العامة.82
وفى إنجلترا أباح القانون الخاص بالقذف والصادر فى 1952 فى مادته السادسة إمكان التعليق على واقعة تنطوى على قذف كتابى libel أو شفوى slander حتى ولو لم يثبت صحة الواقعة موضوع التعليق ما دام قد صدر بحسن نية.
وبذلك بات حق النقد fair comment سببا لإباحة القذف فى التشريع الإنجليزى، ولو لم تكن الواقعة ثابتة أو غير معروضة بشكل دقيق، وأن يكون التعليق أو الرأى قد ورد على هذه الواقعة أو نشأ عنها أمينا نزيها.83
الولايات المتحدة الأمريكية:
فى قضية New York time أرست المحكمة العليا الأمريكية Supreme court عدة مبادئ هامة فى هذا الصدد، وتتلخص وقائع القضية أن الصحيفة المذكورة نشرت تعليقا ضد حوادث الاضطهاد العنصرى فى إحدى مدن ولاية الاباما Alabama وبالذات فى مدينة مونتجمرى Montgomry والتى نشبت فى غضون 1960، وتضمن هذا التعليق أن رئيس شرطة المدينة لم يترك حرسا حول الجامعة التى حدث بها الشغب (ثبت أنه كان قد ترك بعض الحراس وأن كان حرسا غير كافيا)، كما تتضمن أنه اعتقل قائد الزنوج سبع مرات (وثبت أنه اعتقله 4 مرات فقط). وذلك مما أدى إلى وقوع حوادث الشغب فى الجامعة التى اعترض البيض من الطلاب على قبول الجامعة لبعض الزنوج السود للدراسة بها.
فقام رئيس الشرطة برفع دعوى ضد الجريدة لهذا التشهير وحكمت محكمة الولاية بحكم تأييد من المحكمة العليا للولاية ويقضى بتعويض قائد الشرطة بمبلغ نصف مليون دولار نتيجة لما حدث له من الإساءة إلى سمعته، فطعنت الجريدة فى الحكم أمام الـمحكمة العليا للولايات المتحدة والتى قامت بإلغاء الحكم مرسية عدة مبادئ فى حرية الرأى والتعبير:
1- أن الإعلان عن هذا الرأى كان استعمالا لحرية التعبير.
2- أن البيان الخاطئ لا يمكن تفاديه فى المناقشة الحرة، كما أن تناول السمعة الرسمية لا يمكن تجنب الإضرار بها حال نقدها – فإذا ارتكب شئ من ذلك بأمانة فلا ينبغى أن يمس ذلك حرية الكلام وحق النقد.
3- أنه لا يمكن للموظف الرسمى أن يحصل على تعويض لتشويه سلوكه الرسمى إلا إذا اثبت أن ما نسب إليه كان كاذبا وبسوء قصد فلا يكفى مجرد الكذب وإنما يتعين أن يتوافر سوء القصد لدى صاحب التعليق. ولقد أوضح الحكم أن المتهمين لا علم لهم بكذب البيانات التى نشروها، ومن ثم فإن حسن النية يكون ثابتا لديهم وليس عليهم بعد ذك من سبيل، ولا بأس من سلوكهم فى النقد تبعا لذلك.
4- أن التعليق على مسلك رئيس الشرطة لم يكن له طابع شخصى، وإنما كان منصرفا فى جملته إلى نشاطه كرئيس الشرطة وليس إلى شخصه بالذات وهو ما يجعله مشروعا مبررا.
يستفاد مما سبق تعارض التنظيم القانونى المصرى لجريمتى السب والقذف مع مقتضيات الحق فى النقد المقرر دستوريا، وذلك سواء من ناحية عدم الاعتداد بالأثر الكامل لحسن النية، أو صحة الواقعة أو اعتقاد صحتها المبنى على أسباب معقولة أو المصلحة العامة، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية تضييق مجال حق النقد من حيث الأشخاص المعرضين له. وذلك كله يتعارض مع حرية التعبير وحرية الصحافة والحق فى المعرفة وقرينة البراءة وحق الدفاع، وخضوع الدولة للقانون.

المبحث السابع
إلزام المتهم فى قضايا القذف بعبء إثبات براءته يتعارض مع مواثيق حقوق الإنسان
تبنت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان فى قضية Lingens، هذه القاعدة حيث لاحظت أن إلزام المتهم بإثبات صدق الرأى المدعى بأنه يتضمن قذفا، يعد وفقا للمادة 10 اعتداء ليس فقط على حقه فى نشر الأفكار، وإنما أيضا اعتداء على حق الجمهور فى تلقى الأفكار.
فى قضايا القذف، يواجه المدعون من الموظفين العموميين فى كلا من فرنسا وهولندا والنرويج – بحكم الواقع – وفى أمريكا بحكم القانون عبئاً باهظاً لإثبات زيف الوقائع المسندة إليهم فى دعوى القذف.84 ففى فرنسا يجب على كل من مسئول البرلمان والمسئولين المدنيين civil servants وأى شخص عام أو شخص يقوم بواجب عام حتى ولو مؤقتا، أن يثبت أن المسند إليه لا يتصل بالشئون ذات الاهتمام العام وإلا سيخسر دعواه.85
وفى مصر تلقى النصوص محل الفحص بهذا العبء على كاهل المتهم بالتعارض مع قرينة البراءة وحق الدفاع ومبدأ المساواة بين المتهمين، رغم وحدة مركزهم القانونى تجاه جهة الاتهام والتحقيق والتقاضى.

المبحث الثامن
حسن النية كدفاع كامل فى قضايا القذف
تعد سلامة النية دفاعا آخر يوجد فى عدد من البلدان. ففى عدد من البلاد وتشمل الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وهولندا والنمسا، لا يدان المتهم حتى وأن كانت الوقائع خاطئة إلا إذا أخفق الصحفى فى القيام بواجبه فى مراجعة الوقائع بشكل مناسب. وفى ألمانيا يلزم المدعى بإثبات أن الإخفاق كان مقصودا أو ناتجا عن الإهمال. فالأهمية المعطاة لحق الجمهور فى الحصول على المعلومات المتعلقة بالمصلحة العامة تصل إلى درجة أنه حتى عندما تكون الوقائع خاطئة من المرجح ألا يعاقب المتهم الصحافى بشرط ألا يكون مهملا أو سيئ النية فى أفعاله. وفى الولايات المتحدة على المدعى، إذا كان شخصية عامة، أن يثبت أن الإخفاق كان عن علم أو نتيجة إهمال، وفى السويد يلزم المحررون المسئولون بالبرهنة على كون النشر مبرراً وأن المعلومات صحيحة أو نشرت بسلامة نية.
وفى فرنسا يتحمل المتهم عبء إثبات سلامة النية، بكون أن الصحفى قد تابع بعناية، وراجع الوقائع، وهكذا. وفى بعض الحالات يبدو أن هناك افتراض بسوء النية والذى يوازن بالمصلحة العامة. وفى الممارسة تميل المحاكم إلى عدم منح ميزة الشك للصحافة، فيفرض القانون الفرنسى عموما، على سبيل المثال، عبئاٌ تقيلاُ على الصحافة، غير أنه من المفيد الإشارة إلى أن المحكمة الدستورية قد حكمت :
“رغم أن الاعتقاد بصحة الوقائع المزعومة وانعدام العداء بسبب المصلحة الشخصية ليس كافيا لاستبعاد افتراض سوء النية، فإن البواعث المشروعة النابعة من الحق والواجب فى نشر المعلومة يسمح للصحفى بالتذرع بحسن نيته، بقدر ما يثبت ليس فقط جدية استفساره، ولكن أيضا منطقيته وموضوعيته “86
أن توافر حسن النية لدى المتهم يكفى،على نحو ما استقر عليه الفقه والقضاء الفرنسيان،لإباحة القذف.وهذا من الناحية القانونية يعد تطبيقا للقواعد العامة فى الإباحة.

المبحث التاسع
الآراء والتعليق النزيه والأحكام التقديرية كدفاع
يجوز للآراء والتعليق النزيه أيضا أن تمثل أساسا عادلا للدفاع. وهذا الرأى تبنته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان فى قضية Lingens، حيث لاحظت أن إلزام المتهم بإثبات صدق الرأى المدعى بأنه يتضمن قذفا، يعد وفقا للمادة 10 اعتداءً ليس فقط على حقه فى نشر الأفكار، وإنما أيضا اعتداءً على حق الجمهور فى تلقى الأفكار، وكما رأت المحكمة الأوروبية : “من الضرورى وضع تمييز دقيق بين الوقائع والأحكام التقديرية. فمن الممكن إثبات وجود الوقائع، بينما صدق التقديرات ليس عرضة للإثبات.87
وقررت المحكمة الأوروبية فى حكمها فى ذات القضية بأن المتهم فى قذف لا يجب إلزامه بالبرهنة على صحة آرائه. ورأت المحكمة أن الشكوى المنشورة تضمنت وقائع مشفوعة بتقدير وأن إلزام الصحفى بإثبات صحة تقديره يعد مستحيلا وفى حد ذاته تعديا على حرية التعبير”، وفى قضية Oberschlic رأت المحكمة أنه إذا اعتمد التقدير على وقائع، لا يمكن اعتباره قذفا، شرط أن تكون الوقائع دقيقة بدرجة معقولة وقدمت بسلامة نية وألا يكون التقدير مقصودا منه أن يتضمن تزييفا حتى وأن كان ممكنا أن يتضمن نتيجة خاطئة.88
وفى استراليا وكندا والمملكة المتحدة يعد “التعليق المنصف“ دفاعا إذا كان قائما على سلامة النية وعلى أساس واقعى بأنه صحيح، ويشار إليه بوضوح كاف. ويذكر القانون الجنائى فى كندا فى القسم رقم 310 أنه لا يجب ملاحقة الشخص جنائيا بسبب “تعليق منصف” شرط أن يتعلق ذلك بالسلوك العام لشخص ما يشارك فى الشئون العامة، أو يتعلق بأى شكل آخر للاتصال الموجه للجمهور حول أى موضوع مهما كان. وفى نيو ساوث ويلز، ينص قانون القذف على أن التعليق المنصف يعد دفاعا شرط اعتماده على مادة مناسبة أى مادة تتميز، أو تحتوى على،قدر كبير من الحقيقة بغض النظر عما إذا كانت تتعلق بأمر ذى مصلحة عامة.

الفصل السادس
أوجه العوار الدستورى التى تحيط بالتنظيم القانونى لجريمتى السب والقذف
وللوقوف على نطاق هذه المخالفات، ومداها فى القانون المصرى سنعرض لكل منها بقدر من التفصيل:
1- اختيار المشرع لأسلوب تجريم القذف بدون مقتضى اجتماعى يتعارض مع المبادئ الدستورية فى التجريم:
يتضح من الجولة السريعة السابقة أن هناك توجه متزايد نحو الإقلال من سياسة التجريم الجنائى والتعويل أكثر على قواعد المسئولية المدنية، والمهم من زاوية الضرورة الاجتماعية لتجريم القذف؛ أن هناك مجتمعات تثبت أنه لا يوجد فى حقيقة الأمر ضرورة اجتماعية قاطعة تفرض الطريق الجنائى كخيار وحيد لحماية الحق فى السمعة والاعتبار، والحق فى الخصوصية، وأن استمرار المعالجة الجنائية إنما يجد تفسيره فى الملابسات التاريخية التى لابست موضوع القذف ويقدم التاريخ الإنجليزى البرهان الساطع على هذا، حيث استهدف قانون القذف حماية السلطات المستبدة من أى انتقاد، حتى ولو كان مجرد الحقيقة الخالصة وعلى النقيض كلما تزايدت صحة البيانات المنشورة ضد السلطة كلما تفاقم قدر الجزاء الجنائى.
ومن الموضوعات المثيرة للاهتمام أن تعريف القذف المدنى الإنجليزى هو ذاته تعريف القذف الجنائى المصري الوارد في المادة 302 عقوبات، والفارق الضخم بينهما يقع في أن مقترف الجريمة فى المجتمع الإنجليزى لا يلاحق جنائيا ومن ثم لا يتعرض لخطر العقوبة السالبة للحرية بكل ما تمثله من قيد بغيض على الحرية الشخصية، وحكمة ذلك أن سلطة الاتهام في حقيقتها وجدت دفاعا عن المصلحة العامة وليس لحماية السمعة الشخصية للأفراد، فهناك وسائل أخرى تفى بهذا الغرض بعيدا عن العقوبة السالبة للحرية. ويلاحظ أن ما يسمى قذف جنائى عند الإنجليز إنما هو فى حقيقته جرائم أخرى لا تمت للقذف المعرف فى القانون المصرى بصلة. ولا توجد فروقاً حاسمة بين المجتمع الإنجليزى والمجتمع المصرى فيما يختص بحماية الكرامة الإنسانية سواء بحماية الحق فى السمعة والاعتبار والحق فى الخصوصية أو فى حماية الجناة من تغول سلطة التجريم بالإفراط فى التجريم والعقاب؛ تستدعى إصرار المشرع المصرى على التمسك بتجريم السب والقذف.
كما سبق وأن بينا مدى تبنى النظم المختلفة لنظرية الامتياز الصحفى، ففى الوقت الذى تتجه فيه التشريعات إلى عدم مساءلة الصحفيين والصحف مدنيا عما يقع منهم من أخطاء طالما لم يثبت سوء نية الصحفى أو الصحيفة، فإن التشريع المصرى ما زال يتشبث بالعديد من القيود على حرية الرأى والتعبير والصحافة، حيث يلاحق حرية الصحافة جنائيا، ويرصد لها من العقوبات ما يؤدى إلى العصف بهذه الحريات ويهدر قيمة النصوص الدستورية والاتفاقيات الدولية الموقعة عليها مصر.
وإذا كان من المسلمات أن القيد المقبول يقدر بمدى تناسبه وكفايته للغرض المنشود، والتجريم محض قيد فيجب توافر شرط التناسب والكفاية، وطالما أننا فى ساحة حريات الإنسان الأساسية فيضاف شرطا ثالثا: وهو ليس فقط ضرورته، وإنما لزومه لتحقيق الغرض المنشود، حيث لا يتأتى التضحية بحقوق الإنسان إلا لضرورة ملجئة، ولمصلحة أجدر بالرعاية (وهذا مبدأ دستورى أرسته محكمتنا الدستورية العليا ويجد سنده فى المادة 41 من الدستور)، فهناك الدعوى المدنية (تعويضا أو تصحيحا)، التى تصلح كوسيلة مناسبة وكافية لحماية الحق فى السمعة والاعتبار والحق فى الخصوصية. أن مجرد التجريم الجنائى لأعمال القذف يتعارض مع مبدأ سيادة القانون وخضوع الدولة له (م 65) (ومن ضمنها السلطة التشريعية)، ذلك الخضوع الذى يتقيد بالحد الأدنى المقبول فى المجتمعات الديموقراطية.
ومن ناحية ثانية يتعارض هذا النهج مع مقتضيات حرية التعبير، وحق النقد (م 47)، كما يتعارض مع حرية الصحافة (م 48)، وذلك لتحول التجريم إلى أداة قامعة تفرض صمتا بقوة القانون. علاوة على تعارضه مع مبدأ شرعية التجريم (م 66).

2- التوسع فى جريمة القذف بلا ضرورة اجتماعية:
وذلك من عدة أوجه هى:
1- تجريم أفعال تتم بحسن نية.
2- تجريم أفعال تستهدف الصالح العام.
3- تجريم أفعال صحيحة.
4- تجريم أفعال يعتقد فى صحتها وهذا الاعتقاد قائم على أسباب معقولة.
5- تجريم أفعال تندرج تحت حق النقد لولا الانحراف التشريعى فى النص الطعين الذى يدرج المسند لهم هذه الأفعال تحت آحاد الناس رغم انهم واقعا يندرجون ضمن الشخصيات العامة وفقا للفهم السائد فى المجتمعات الديموقراطية.
ونحيـل فى كل ذلك إلى ما سبق تبيانه، ويتعارض هذا النهج مع المواد 66، 65، 41، 47، 48 من الدستور لذات الأوجه المذكورة آنفا، علاوة على تعارضه مع مبدأ المساواة أمام القانون (م 40) لكون مرتكبوا هذه الأفعال التى تم تجريمها من جراء انحراف تشريعى يتحدون فى ذات المركز القانونى والمستمد من أحكام الدستور (حق النقد – حرية التعبير – حرية الصحافة – الحق فى المعرفة – قرينة البراءة)، مع من منحهم النص الطعين سببا للإباحة. كما يتعارض مع المادة 69 بمصادرة حق الدفاع أساسا، ومن ثم يتعارض مع مبدأ استقلال القضاء (م 165)، حيث تولى المشرع إصدار حكم الإدانة مغتصبا سلطة القضاء.
3- الإخلال بمبدأ التناسب بين الجريمة والعقاب:
أن المشرع المصرى قد أفرط فى العقاب عن الجرائم التى تقع بواسطة الصحف، وخرج على هذا الأصل الدستورى خروجا تتجلى مظاهره فى :
أ)- عدم دستورية العقوبة السالبة للحرية والمفروضة بدون مقتضى اجتماعى لانعدام التناسب بين الجريمة والعقاب:
نخلص مما سبق إلى أن العقوبة السالبة للحرية فيما يتعلق بجريمة القذف والسب (م 303، 306) تعرض حرية الرأى والتعبير ومن ثم حرية الصحافة لمخاطر جمة بما يؤثر على المجتمع. فلا توجد ضرورة اجتماعية حقيقية تستلزم العقوبة السالبة للحرية كرادع ضد جريمة السب والقذف، وعلى العكس يوجد العديد من البدائل التى تحقق الغرض الرادع دون أن تعصف بحرية الصحافة، فما يضاف إلى ساحة القذف يكون بالضرورة انتقاصا من حرية الصحافة. كما توجد ضرورة اجتماعية لتفضيل حرية الصحافة على الحق فى السمعة والاعتبار والحق فى الخصوصية دون التضحية بهم، كما تعد الضرورة الاجتماعية ظاهرة فى الحد من الإفراط فى التجريم والعقاب السالب للحرية.
وبذلك يكون العقاب الوارد فى المواد 303، 306، 307 قد جاء بدون ضرورة اجتماعية، فالعقوبة قيد ومن ثم عليها أن تستجيب للمعيار الثلاثى خاصة شرط الضرورة بما يعنيه من تناسب وكفاية ولزوم. ليتعارض ذلك مع المادة 66، 65، 41، 47، 48، 165، 69 ولنفس الأسباب الواردة فيما سبق.
ب- التشديد المتلاحق للعقاب على الجرائم الصحفية:89
لقد جاءت العقوبات المقررة على الجرائم الصحفية فى القانون المصرى تترى عسر من بعد عسر. فعلى خلاف الوضع فى القانون الفرنسى، حيث لم تتغير مثل هذه العقوبات منذ أن جاء بها قانون حرية الصحافة الصادر فى 29 يوليو 1881 تغييرا مشددا، كان موقف المشرع المصرى. ذلك أن استعراضا تاريخيا بسيطا لتطور هذه العقوبات يؤكد أن الوضع كان ينتقل من شدة إلى أخرى، والعقاب يتطور من تشديد إلى تشديد. وهذا ما عبر عنه البعض بقوله: “أن المشرع المصرى قد دأب على تشديد العقوبـات على الجرائم الصحفية. فهـو فى عام 1881 أبعد عن المغالاة منه فى عام 1904، وفى عام 1947 بلغت درجة العسر منزلة لم تكابدها تركيا فى عام 1865، ولا عانتها فرنسا فى سنتى 1821، 1849. فقد كانت الصحافة فى كل مرحلة على موعد مع السلطة التى مع تداولها من يد لأخرى كانت العقوبات تنتقل من عسر إلى عسر. وقد يرد على ذلك بأن تعديل هذه العقوبات يعد ضرورة من حين لآخر حتى تكون أكثر ملاءمة لظروف ومقتضى الحال. وهذا القول إن كان يصدق على العقوبات المالية كالغرامات لاختلاف القوة الشرائية للنقود، وتفاوت قيمتها من آن لآخر، فإنه لا يصدق على العقوبات المقيدة أو السالبة للحرية كالحبس والسجن، لأنه لا يكون هناك ما يحدو إلى تغليظها إلا الرغبة فى شد الوثاق على الصحفيين فى ممارسة حقهم فى التعبير بقصد إجبارهم على الصمت، وغض أبصارهم عما يقع تحت بصرهم من مثالب الحكومة. وكل ذلك تبعا لفلسفة نظام الحكم القائم، ونظرته إلى هذه الحرية. وتلك حقيقة يؤكدها تاريخ وظروف تعديل ما تقرر من عقوبات على جرائم الصحف. ويكفى للدلالة على ذلك أن مراجعة تطور العقوبات المقررة على جرائم السب والقذف.
4- عدم دستورية القيود الإجرائية والموضوعية التى تكبل حق الدفاع، وبالمخالفة للأوضاع المقبولة فى المجتمعات الديموقراطية:
4-1)- نقل عبء الإثبات من النيابة إلى الصحفى:90
هناك من النصوص القانونية المنظمة للمسئولية الجنائية عن الجرائم الصحفية ما يقطع بأن المشرع يحمل الصحفى مسئولية إثبات براءته مفترضا فيه الإدانة، ويعفى النيابة من هذا العبء. ويبدو هذا واضحا فى الجرائم الصحفية التى تتعلق بالطعن فى حق ذوى الصفة العمومية.
ومن أبرز هذه النصوص وأقواها دلالة على ذلك المادة 302 من قانون العقوبات التى نصت على أنه يعد قاذفا كل من أسند لغيره بواسطة إحدى الطرق المبينة فى المادة 171 من هذا القانون – ومنها الصحف – أمورا لو كانت صادقة لأوجبت عقاب من أسندت إليه بالعقوبات المقررة لذلك قانونا أو أوجبت احتقاره عند أهل وطنه، ومع ذلك فالطعن فى أعمال موظف عام أو شخص ذى صفة نيابية عامة أو مكلف بخدمة عامة لا يدخل تحت حكم هذه المادة إذا حصل بسلامة نية، وكان لا يتعدى أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، وبشرط إثبات حقيقة كل فعل أسند إليه، ولا يقبل من القاذف إقامة الدليل لإثبات ما قذف به إلا فى الحالة المبينة فى الفقرة السابقة، ووفقا لتعديل هذه المادة بمقتضى المادة الأولى من القانون رقم 93 لسنة 1995 أضيفت إلى هذه المادة عبارة جديدة نصت على أنه لا يغنى عن ذلك: الاعتقاد فى صحة الوقائع المقذوف بها.
وعلى هذا النحو يتطلب المشرع لإباحة القذف فى حق ذوى الصفة العمومية، أن يثبت الصحفى صحة الوقائع المقذوف بها من ناحية، وأن يثبت حسن نيته ولا يكتفى بمقتضى التعديل الجديد أن يثبت اعتقاده بصحة الوقائع المقذوف بها من ناحية أخرى. فالمادة 35 من قانون الصحافة الفرنسى تكتفى لإباحة القذف إثبات صحة الوقائع فحسب. وعلى هذا النحو يقع عبء الإثبات على الصحفى فى القانون المصرى مضاعفا.

عبء الإثبات المضاعف:91
يفترق الوضع فى القانون المقارن عنه فى القانون المصرى فيما يتعلق بتجشيم الصحفى عبء إثبات براءته فى جريمة القذف بطريق النشر فى حق ذوى الصفة العمومية. فعلى خلاف الوضع السائد فى المجتمعات الديموقراطية يتطلب المشرع المصرى لإباحة القذف فى حق ذوى الصفة العمومية إثبات أمرين: صحة الوقائع المقذوف بها، وحسن النية. ولا يكتفى، على هذا النحو، بإثبات أحدهما دون الآخر، لإعفاء القاذف من العقاب.
ومن التفصيل السابق يبدو واضحا خروج المشرع هنا على القواعد العامة فى الإباحة، وهو خروج يكشف عن مدى حرصه فى معاملة جريمة القذف فى حق ذوى الصفة العمومية – لما يترتب عليها من جسيم آثار على سمعة العائلات والأفراد – معاملة عقابية خاصة، ويفرد لها أحكاما فى الإباحة متميزة. ذلك أن حسن النية أو صحة الوقائع، وفقا للقواعد العامة يكفى أيهما وحده سببا للإباحة وعدم العقاب، حيث يكفى لإعمال أثره المبيح للفعل الإجرامى أن يعتقد الشخص مشروعية هذا الفعل، وأن يكون اعتقاده هذا قد أسس على أسباب يقرها العقل. وهذا ما نجد صداه فى المادة 60 من قانون العقوبات التى تنص على أنه لا تسرى أحكام قانون العقوبات على كل فعل ارتكب بنية سليمة، والمادة 63 من ذات القانون التى تبيح فعل الموظف غير المشروع إذا ما وقع منه تنفيذا لأمر صادر إليه من رئيس تجب عليه طاعته، أو أنه اعتقد أنها واجبة عليه، وأنه كان يعتقد مشروعية هذا الفعل اعتقادا مبنيا على أسباب معقولة، وهو ذاته ما يجرى عليه نص المادة 251 عقوبات فى شأن تجاوز الدفاع الشرعى.
نقول أنه إذا كان لحسن النية (أو صحة الواقعة، أو استهداف المصلحة العامة، أو الاعتقاد فى صحة الواقعة المبنى على أسباب معقولة)، وفقا للقواعد العامة، ذاك الأثر، فلماذا المغايرة عند تنظيم جريمة القذف أن حسن النية فى مجال القذف بوسائل الإعلام لا يعدو أن يكون تطبيقا لمدلول حسن النية كشرط لاستعمال الحقوق، كما أن مجرد اعتقاد الصحفى بصحة الوقائع، متى قام على أسباب معقولة، يكفى لإباحة فعله، لأنه يعنى توافر حسن النية فى جانبه، وذلك لأن مجرد الاعتقاد بصحة الوقائع أو الغلط فى الإباحة يبرر القذف فى حق ذوى الصفة العمومية، أن الغلط فى الإباحة ينفى الركن المعنوى وهو فى كافة الجرائم يعد سببا للإباحة، لأن حسن النية يصلح لنفى القصد الجنائى كقاعدة عامة.
أن معنى حسن النية، وفقا للإرادة الصريحة للمشرع، يقتصر على حسن الباعث فحسب، أى على قصد تحقيق المصلحة العامة من القذف لا التشهير وشفاء الضغائن والأحقاد.
يكفى إثبات أحد الأمرين: صحة الوقائع أو حسن النية، لأن هذا من ناحية يشكل فى حد ذاته مبلغ النفع، والفائدة للمصلحة العامة، لأنه يترتب عليه الكشف عن مواطن الفساد فى الجهاز الحكومى، وما يوجد فى العمل العام المنوط بذوى الصفة العمومية من مثالب تنعكس بأثرها الجسيم على مصلحة البلاد، ولا يهم بعد ذلك كله ما إذا كان هدف الصحفى من النشر شفاء الضغائن أو الأحقاد أم كان له هدف آخر منه.
وهذا الذى نراه يكون صدى لما قال به بعض الفقهاء من أن القذف طالما كان صحيحا فإنه يكون مباحا، حتى ولو كانت الغاية هى التشفى، لأن مصلحة المجتمع فى أن يعلم أفراده ما يجرى فيه تفوق مصلحة الموظف ومن فى حكمه ممن أضره النشر. وهو ذاته ما ذهب إليه البعض الآخر من الفقهاء بقوله أن عمل القاذف يعتبر مبررا لو ثبت صحة الواقعة، وكان سيئ النية، ذلك أن المصلحة العامة تكتسب بالكشف عن سيئات ذوى الصفة العمومية ولو كان من كشفها سيئ النية.
والقول بغير ذلك هو تزيد غير مقبول، بل أنه يبطل دور الصحافة فى الرقابة على أعمال الحكومة وعمالها، وهو اجل ما تقوم به من وظائف فى المجتمع الديموقراطى. بل ويخل بالغاية التى لأجلها أباح المشرع ذاته الطعن فى أعمال ذوى الصفة العمومية. وهى غاية عبرت عنها محكمة النقض بأنها الرغبة فى الكشف عن أعمالهم الضارة بالمصلحة العامة توصلا لمحاكمتهم، وتطهير المصالح من شرورهم.
وفضلا عن ذلك أن التزام أن يكون هدف الصحفى من القذف هو المصلحة العامة أمر يؤدى إلى وعورة الإثبات، لأنه يقتضى الوقوف على بواطن النفس، ومكنوناتها، وخفايا الضمائر، وهذا أمر يصعب الوصول إليه مما يترتب عليه بناء الأحكام على الحدس والتخمين لا على الجزم واليقين كما أنه يؤدى إلى الأخذ بتلابيب كل معارض تسول له نفسه كشف أخطاء الحكومة وعمالها، آخذا بما تواتر فى المجال السياسى من أن المعارضة غايتها دائما التشهير، والنكاية بخصومها من أنصار الحكومة.
ونضيف إلى ذلك أنه إذا كان المبلغ عن الجريمة لا يعاقب طالما كانت الوقائع المبلغ عنها صحيحة حتى ولو كانت نيته سيئة، فلما يكون الصحفى أقل مكانة، وأسوء حالا منه، بحيث يحرم من هذه الميزة التى يتمتع بها وهو يقوم بواجب من اقدس الواجبات، وأكثرها ارتباطا وصلة بالصالح العام.
وأخيرا إذا كانت الحكمة التى يتوخاها المشرع من إباحة الطعن فى أعمال ذوى الصفة العمومية تكمن فى تحقيق الرقابة على أعمال وتصرفات الرجل العام أثناء قيامه بأداء ما أنيط به، وتنبيه السلطات العامة إلى مكمن الخلل فيها حتى تسعى إلى تداركها تحقيقا للصالح العام، فإنه فى ضوء تلك الحكمة التى تسعى الدولة جاهدة إلى تحقيقها فى شتى المجالات، بقصد الحد من عبث ذوى الصفة العامة بالمصالح الموكولة إليهم، يكون من المنطقى عدم الاهتمام بكون نية الصحفى حسنة أم سيئة، طالما كانت الوقائع المقذوف بها صحيحة وسليمة.
وبالتعديل الأخير الذى أدخل بالقانون رقم 93 لسنة 1995 يبلغ الشذوذ مداه، ويصل العنت مع الصحفى فى إثبات براءته ذروته. فقد حرمه المشرع من أن يلتمس براءته حتى بإثبات اعتقاده بصحة الوقائع المقذوف بها، وهى تمثل ركنا هاما فى حسن النية وفقا للأصول العامة فى الإباحة، كما أنها فى جرائم الصحف فى فرنسا تعد وهى فحسب سببا للإعفاء من العقاب.
مدى دستورية نقل عبء الإثبات إلى الصحفى:92
على نحو ما تقدم يقتضى إعمال قرينة البراءة (م 67) تجشيم النيابة العامة عبء إثبات التهمة. ولازم ذلك أنه يكون عليها وحدها إقامة الأدلة على الإدانة، وإثبات خروج المتهم من الأصل إلى الاستثناء أى من دائرة البراءة إلى نطاق التجريم. ولا يكون المتهم تبعا لذلك ملزما بتقديم أى دليل على براءته على اعتبار أنها مصاحبة له تبعا للأصل. وإنما كل ما عليه تفنيد أدلة الإثبات التى تحكم الإدانة حوله.
وعبء الإثبات يقع على النيابة كاملا غير منقوص، بمعنى أنه يكون عليها أن تثبت الجريمة بركنيها المادى والمعنوى، وتدلل أيضا على انتفاء أسباب الإباحة وموانع العقاب والمسئولية فى جانب المتهم، بحيث إنه إذا ما تمسك هذا الأخير بأى من هذه الأسباب أو الموانع فإنه لا تقع عليه مسئولية إثبات صحته، وإنما يقع عبء ذلك كله على النيابة ذاتها.
وتطبيقا لهذه المبادئ العامة يكون نقل عبء إثبات صحة الوقائع فى جريمة القذف إلى الصحفى يتعارض مع هذه القرينة، كما أن إلقاء عبء الإثبات على النيابة لا على الصحفى القاذف يعد امتدادا لحقه فى الدفاع المنصوص عليه فى المادة 69 من الدستور، لأنه ييسر له الأدلة التى تمكن من إثبات عدم إدانته، على اعتبار أنها – أى النيابة – أكثر من الصحفى – أو المتهم – قدرة من حيث المكنات والصلاحيات والسلطات التى تتمتع بها، وهذه السلطات تمكنها من الحصول على ما تحتاجه من الأدلة التى تعينه على الدفاع عن نفسه، وتمكنه من دفع التهمة عنه. ذلك أنه إذا كانت النيابة هى خصم فى الدعوى العمومية فإنها خصم يفترض فيه أن يكون شريفا ليست غايته الانتقام من المتهم، وإنما إظهار الحقيقة سواء كانت لصالحه أم ضده. ومن هنا فإن ما تجمعه من أدلة تعد امتدادا لحقه فى الدفاع المكفول دستوريا له أصالة أو وكالة. ويكتسب الدور الذى تلعبه النيابة فى الإثبات أهمية خاصة فى مجال الصحافة، لا سيما حين يكون الشخص العام المطعون فى عمله بواسطة الصحيفة على قمة الجهاز الإدارى. ففى هذه الحالة سوف يستخدم سلطاته للحيلولة دون حصول الصحفى على الأدلة المؤيدة لصحة ما نشره، وهنا سوف تقصر وسائله فى الإثبات، ويصعب عليه الدفاع عن نفسه.
وفى مصر تلقى النصوص الطعينة بهذا العبء على كاهل المتهم بالتعارض مع قرينة البراءة وحق الدفاع ومبدأ المساواة بين المتهمين، رغم وحدة مركزهم القانونى تجاه جهة الاتهام والتحقيق والتقاضى. فيتعارض مع المواد 65، 66، 67، 165، 47، 48، 40، 41 من الدستور للأسباب المذكورة سابقا.
4-2)- فى مصر إثبات الحقيقة دليل ناقص وفى دائرة ضيقة محصورة:
القاعدة العامة فى القانون المصرى هى عدم تمكين المتهم من إثبات صحة ما قذف به، وعدم الاعتداد بصحة الوقائع أو كذبها فى تقرير مسئوليته عن جرائم القذف والسب والعيب والإهانة، وعدم الاعتداد باعتقاده بصحة ما نشره والمبنى على أسباب معقولة (م 302)، والاستثناء هو اعتباره دليلا ناقصا، حيث أباحت المادة 302 للقاذف إثبات صحة الواقعة المنسوبة لموظف عمومى، حيث تقتضى المصلحة العامة الكشف عن حقيقة أعمالهم ومبلغ أمانتهم فى أداء الواجبات الموكولة إليهم. فالحق فى الإعلام الذى يستهدف المصلحة العامة تكون له الأولوية على حق الموظف العام فى الشرف والاعتبار. أما فى غير حالة الموظف العام فلا يصلح إثبات الحقيقة كسبب للإباحة. فالحق فى الإعلام يتوقف عند أعتاب الحق فى الشرف والاعتبار لغير الموظف العام، وبالنسبة للموظف العام يتوقف عند أعتاب الحياة الخاصة، على أن يستكمل بإثبات حسن النية وعدم تعديه أعمال الوظيفة، والاعتقاد فى صحة ما نشر لا يعادل صحته فلا تعتد به المادة الطعينة.
فلا يقر التشريع المصرى بإثبات الحقيقة فى غالبية الأحوال كدليل كامل رغم أن هذا هو الاتجاه العالمى المعاصر، ومن ناحية ثانية لا يعتد به كدليل كامل حتى فى الحالة التى يمنحه فيها دورا، وهو موقف بالغ الشذوذ بما يمثله من قيد على حرية الصحافة. ويتعارض هذا الموقف مع حق الدفاع المكفول للمتهم بموجب المادة 69، كما يتعارض مع مقتضيات قرينة البراءة (م 67)، ويتعارض مع ما يفرضه مبدأ خضوع الدولة لسيادة القانون (م 65)؛ حيث ينزل بمستوى الحماية لحرية الصحافة وحرية التعبير عن المستويات المقبولة فى الدول الديموقراطية، بما يخل بحق النقد وبحرية التعبير وحرية الصحافة (م 47، 48). كما تتعارض مع مبدأ المساواة بين المتهمين، رغم وحدة مركزهم القانونى تجاه جهة الاتهام والتحقيق والتقاضى (م 40)، كما يتعارض مع مبدأ استقلال القضاء (م 165)، حيث يفرض وبشكل تحكمى متعسف قيوداً على حرية المتهم فى إثبات براءته.
4-3)- التضييق من نطاق المصلحة العامة وعدم اعتمادها كدفاع منتج وحق النقد:93
بعد أن وضع المشرع تعريفا للقذف فى الفقرة الأولى من المادة 302 من قانون العقوبات، نص فى الفقرة الثانية من هذه المادة على حق الطعن فى أعمال الموظف العام أو من فى حكمه، وعلة إباحة الطعن فى أعمال الموظف العام أو من فى حكمه ترجع إلى أهمية الأعمال التى يقوم بها الموظف العام بالنسبة للمجتمع، وخطورة التقصير أو الانحراف فى أداء هذه الأعمال. فالمصلحة العامة تقتضى أن يقوم الموظف بأداء أعمال وظيفته على أكمل وجه، كما أنها تتطلب اكتشاف أى خلل أو انحراف يشوب أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة؛ لكى يتمكن المجتمع من تفادى أى خطر يمكن أن يهدد مصلحته من ناحية، ويعاقب الموظف المنحرف عما ارتكبه من ناحية أخرى. ومؤدى ذلك أن الشخص الذى يظهر انحراف الموظف العام أو من فى حكمه عن الواجبات التى تمليها عليه وظيفته، يؤدى خدمة للمجتمع، ومن ثم لا يسأل عما قد يتضمنه فعله من قذف ضد الموظف أو من فى حكمه، لأن المشرع يغلب المصلحة العامة فى أن تؤدى أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة على النحو السليم على المصلحة الفردية للموظف أو من فى حكمه فى عدم المساس بشرفه أو اعتباره.
امتداد حق النقد لمواجهة تصرفات الشخص العام:94
من غير المتصور إباحة حق نقد تصرفات أو أعمال أو آراء بعض الأشخاص دون غيرهم، وإلا كان معنى هذا تقسيم المجتمع إلى أشخاص معرضة تصرفاتهم أو أعمالهم أو آراؤهم للنقد وأشخاص فوق النقد يتحصن كل ما يصدر عنهم – مهما كان – من إبداء أى رأى أو تعليق عليه.
وبالقطع يخالف ذلك أحكام الدستور (م 40) التى كفلت المساواة بين جميع المواطنين، وأوجبت عدم التمييز بينهم، رغم اتحادهم فى مركز قانونى واحد وهو تأثير أعمالهم على المصلحة العامة.

ونصت المادة – 47 – من الدستور الحالى على ما يأتى:
“حرية الرأى مكفولة، ولكل إنسان التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير فى حدود القانون، والنقد الذاتى والنقد البناء ضمان لسلامة البناء الوطنى.”
وعلى ذلك يكون حق النقد وإبداء الرأى حقا دستوريا عاما، لا يجوز تخصيصه وقصر استعماله للنعى على التصرفات أو أعمال أو آراء فئة من الأشخاص فحسب دون غيرها، وإلا أدى ذلك إلى إهدار مبادئ الدستور.
والحق فى النقد ينصرف أساسا – وهذه هى حكمة إرسائه مبدأ دستوريا منذ سنة 1923 – لمواجهة تصرفات أو أعمال أو أراء الشخص العام – وليس الموظف العام، ذلك الذى رأى باختياره أن يشارك فى الحياة العامة وأن يسهم بثمة دور فعال فيها.
ويقصد بالشخص العام كل شخص طبيعى رجل كان أو امرأة، وكذا كل شخص اعتبارى وكل مؤسسة أو هيئة أو منظمة، ولو لم تكن لها شخصية اعتبارية مستقلة – يتصدى أو تتصدى لقيادة الناس أو إرشادهم أو سياستهم أو العمل باسمهم فى أمر من الأمور العامة، سواء مس مصلحة عامة شاملة أو مصلحة محلية محدودة أو مصلحة خاصة بفئة من الناس. فيصدق هذا الوصف على الموظفين العموميين والمكلفين بخدمة عامة، ومن لهم صفة نيابية كأعضاء مجلس الشعب أو مجالس المحافظات أو المدن أو القرى، والمرشحين للانتخاب أو العضوية فى هذه المجالس. ويصدق هذا الوصف على أعضاء مجالس إدارات النقابات وفروعها والجمعيات والمؤسسات التى تباشر خدمة عامة، والمرشحين لعضويتها، وعلى زعماء الأحزاب وأعضاء مجالس إدارتها ولجانها الفرعية. كما يصدق هذا الوصف على الصحف والدوريات ودور النشر ورؤساء تحريرها ومحرريها والمشرفين على إدارتها. ويصدق أيضا على مديرى وأعضاء مجالس المؤسسات المالية والاقتصادية والتجارية التى تعتمد فى تمويلها على اكتتاب الجمهور أو دعوته للاكتتاب فيها. وينطبق كذلك هذا الوصف على المهندسين والأطباء والصيادلة، سواء كانوا من العاملين فى الحكومة أو القطاع العام أم كانوا من غير العاملين فى الحكومة أو القطاع العام. وأيضا ينطبق هذا الوصف على الكتاب والمفكرين والفنانين فى مختلف مجالات الفن. وكذا ينطبق على الاتحادات الرياضية والأندية الرياضية والرياضيين التابعين لها فى كافة الألعاب الرياضية ومختلف ميادين الرياضة. فكل من هؤلاء إذ يتصدى لعمل عام – كل فى مجاله – يتحمل حتما مسئولية تصديه الأدبية والاجتماعية والقانونية وما يلازم ذلك بالضرورة من إمكان أن تتعرض تصرفاته أو أعماله أو آراؤه لإبداء الرأى فيها ونقدها، مع ما قد يترتب على ذلك من شمول النقد للشخص نفسه بحكم الاتصال الطبيعى بين الشخص وكل ما يصدر عنه من تصرفات أو أعمال أو آراء.
ولما كان التصدى للعمل العام بهذا المعنى الواسع هو الذى يستوجب زيادة نصيب الشخص من عبء حق النقد، ومن ثم فإن حق النقد ليس له من حياة الشخص إلا الجانب المتصل بعمله العام، أما الجانب الذى لا يتصل قط بهذا العمل وليس من شأنه أن يؤثر فيه، فينبغى أن يبقى مستورا. بيد أنه كثيرا ما تؤثر ظروف الحياة الخاصة للشخص على عمله العام تأثيرا واضحا. حين ائذ يكون لحق النقد أن يقتحم هذه الظروف الخاصة للشخص وأن يكشف سبرها ويميط اللثام عنها باعتبارها تتصل بعمله العام.
بل أنه عندما يتصدى الشخص العام لأمر جد خطير يقتضى ثقة الأمة ثقة كاملة فى خلقه وكفايته، يكون لحق النقد أن يتناول أخلاقه وكفاءته وسائر الجوانب الشخصية والخاصة ولو على أساس شواهد من حياته الخاصة الماضية والحاضرة.
ذلك أنه كلما كان الموضوع الذى يتصدى له الشخص العام موضوعا هاما وخطيرا وكانت المسئولية التى يتحملها فيه جسيمة، كان لحق النقد أن يتطرق إلى جوانب أكثر من حياة الشخص العام وأن يتناولها بالتعليق وإبداء الرأى فيها.
فليس صحيحا ما يقال من أن الأصل فى القائمين على الأمور العامة حسن النية، بل الصحيح أن حسن ظن الناس بالأمين سواء كان أمينا على مصلحة عامة أو مصلحة خاصة، يتناسب عادة تناسبا عكسيا مع مقدار المصلحة وأهميتها وخطورتها بالنسبة لمن ائتمنه.
ويبين مما تقدم أن حكمة إرساء حق النقد مبدأ دستوريا منذ سنة 1923 حتى الآن، يبين أن حكمة ذلك تتجلى فى رصد التصرفات والأعمال والآراء التى تتعلق بمصلحة المجتمع، ومناقشتها وتقييمها وإبداء الرأى فيها بما يحقق فى النهاية الخير والتقدم والازدهار.
ومن البديهى أن هذه التصرفات والأعمال والآراء التى تتعلق بمصلحة المجتمع يمكن أن تصدر من جميع الأشخاص الذين ينطبق عليهم وصف الشخص العام، وذلك سواء كانوا من الموظفين العموميين آم من غيرهم.
وعلى ذلك فليس من المقبول القول بأن حق النقد لا يباح استعماله إلا فيما يصدر عن الموظفين العموميين من أعمال أو تصرفات فحسب دون غيرهم.
ويستمد هذا الفهم مما نصت عليه الفقرة الثانية من المادة 302 عقوبات، والتى تفيد أن استعمال حق النقد لا يتجاوز أعمال الموظف العام أو الشخص ذى الصفة النيابية العامة أو الشخص المكلف بخدمة عامة.
أن قصر استعمال حق النقد على التصرفات أو الأعمال التى تصدر فقط عن الموظفين العموميين ومن فى حكمهم، هذا القول يفترض ضمنيا أن تصرفات وأعمال الموظفين العموميين هى وحدها التى تتعلق بمصلحة المجتمع، ومن ثم فهى التى تصلح وحدها للنعى عليها ومناقشتها وتقييمها وإبداء الرأى فيها تحقيقا للصالح العام. والواقع أن تصرفات وأعمال الموظفين العموميين ومن فى حكمهم ليست هى وحدها التى تتعلق بمصلحة المجتمع فحسب، بل أن جميع تصرفات وأعمال وأراء الأشخاص الذين ينطبق عليهم وصف الشخص العام التى تخص مجال العمل العام هى أيضا تتعلق بمصلحة المجتمع. ويؤكد العمل أن بعض تصرفات أو أعمال أو آراء الشخص العام تفوق فى أهميتها الاجتماعية وفى اتصالها بمصلحة المجتمع، تفوق كثيرا ما يصدر عن الموظف العام ومن فى حكمه من تصرفات أو أعمال أو أراء.
ومن ثم يكون من مصلحة المجتمع أن يمتد حق النقد لمواجهة التصرفات أو الأعمال أو الآراء التى تصدر عن الشخص العام، وذلك سواء كان موظفا عاما ومن فى حكمه أم لم يكن كذلك.
وتجدر الإشارة إلى أن حق النقد – حسبما تقدم – هو حق دستورى عام يستند إلى المادتين 40، 47 من الدستور، فلا يجوز تخصيصه وقصر استعماله على تصرفات أو أعمال أو أراء الموظفين العموميين ومن فى حكمهم دون غيرهم. وبدا يضحى ما جاء فى نص الفقرة الثانية من المادة 302 عقوبات – بقصر استعمال حق النقد على التصرفات أو الأعمال التى تصدر فقط عن الموظفين العموميين ومن فى حكمهم – متعارضا مع أحكام الدستور.
أن قانون العقوبات المصرى (م 302) يضيق من نطاق حرية الصحافة (م 48) بتضييقه من نطاق الشخص العام وذلك على خلاف المفهوم السائد فى فروع قانونية مصرية أخرى؛ فالمادة 36 من قانون حق المؤلف أباحت نشر صورة الشخص دون إذن إذا كان النشر قد تم بمناسبة حوادث وقعت علنا أو كانت تتعلق برجال رسميين أو أشخاص يتمتعون بشهرة عالمية أو سمحت بها السلطات العامة خدمة للصالح العام.
والمعيار هنا هو معيار ما يثير الاهتمام العام، فالنص يوسع به دائرة الأشخاص الذي يؤثرون على المصلحة العامة وفي المقابل نجد قانون العقوبات يضيق هذه الدائرة بدون مبرر موضوعى.
لأن نطاق الحياة الخاصة يختلف في حد ذاته بحسب ما إذا كنا بصدد شخص عادى أو شخصية عامة أو شهيرة.
فيجب إباحة القذف في الحدود التى تقتضيها المصلحة العامة، ومن ثم يجب تحديد دائرة الأشخاص بصورة أكثر اتساعا مما هو وارد فى النص العقابى الطعين.
وإعمالا لفكرة المصلحة العامة فإن التعرض للحياة الخاصة لمن يتولى الوظائف العامة يكون مسموحا فى الحدود التى تقتضيها المصلحة العامة.
وعلى حد قول المحكمة الفيدرالية السويسرية، فإن حرية الصحافة تتضمن حق نقد من يشغل وظيفة عامة والتعرض لعيوبه وصفاته الشخصية ولكن شريطة أن تتصل هذه الأمور بما يشغله من منصب95، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لا يأخذ المشرع المصرى بالتوجه السائد عالميا والقاضى بأن دفع المصلحة العامة بمفرده دليل كامل، فلا يجب قرنه بحسن النية لما فى ذلك من تعارض مع حرية التعبير وحق الجمهور فى معرفة ما يمس مصلحته حتى ولو كان مصدر الخبر سيئ النية لانتفاء أى حكمة لمثل هذا الموقف، ولانتفاء أى ضرورة اجتماعية تبرره.
وهل يتصور أن يبيح الشارع القتل والضرب والجرح لحماية المال والأنفس دفاعا شرعيا ولا يبيح ذات الدفاع لخير المجتمع. وإن اتخذ ضررا أخف وأبسط من القتل وما إليه ويذهب د. النجار إلى أن “حق النقد وهو كما نعتقد يبيح الجرائم القولية كالقذف تحقيقا للنفع العام يكون بمثابة دفاع شرعى ضد الفساد لصالح المجتمع. ومن ثم يبيح القذف وما إليه لدرء هذا الخطر إذا ما تمت ممارسته طبقا للضوابط إلى المشرع أن يبيح النقد كسبب لإباحة القذف أو السب بشرط أن يكون نزيها ولا يسعى إلا إلى المصلحة العامة.
يستفاد مما سبق تعارض النصوص الطعينة كلها مع مقتضيات الحق فى النقد المقرر دستوريا (م 47)، وذلك سواء من ناحية عدم الاعتداد بالأثر الكامل لحسن النية، أو صحة الواقعة أو اعتقاد صحتها المبنى على أسباب معقولة أو المصلحة العامة، هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية تضييق مجال حق النقد من حيث الأشخاص المعرضين له. وذلك كله يتعارض مع حرية التعبير والحق فى المعرفة (م 47)، وحرية الصحافة (م 48)، وقرينة البراءة (م 67)، وحق الدفاع (م 69)، وخضوع الدولة للقانون (م 65).
4-4)- عدم التعويل على حسن النية كدفاع منتج:
هذا وينصرف مفهوم حسن النية فى هذا المجال إلى اعتقاد الصحفى (أو القاذف) صحة الوقائع المقذوف بها، بشرط أن يكون اعتقاده مبنيا على أسباب معقولة، وأن يكون قصده من نشر هذه الوقائع تحقيق مصلحة عامة لا مجرد شفاء ضغائن وأحقاد شخصية.
ويدلل البعض على صحة هذا النظر بقوله: أنه إذا كانت إثبات صحة الوقائع المقذوف بها هو صمام الأمان للصحفى فى جريمة القذف، فإن إثبات حسن النية ينفى الصفة التجريمية عن هذا الفعل.
ومن زاوية أخرى يؤيد البعض الآخر حسن النية لإباحة القذف فى حق ذوى الصفة العمومية بقوله أنه يكفى فى ظل صحافة تقتضى السرعة فى نقل الأخبار أن يكون الصحفى معتقدا صحة ما ينقله اعتقادا له ما يبرره، فإذا كان من المفروض عليه التحلى بالحرص والدقة، فإن الخطأ فى بعض الأحيان لا يمكن تجنبه مهما تحلى المرء بالحرص والدقة، ومن ثم يكون من غير المعقول مساءلته فى مثل هذه الحالات.
وبالبناء على ذلك يعد حسن النية سندا لإباحة القذف، ويكفى أن يتذرع به الصحفى، وفقا للمفهوم السابق إذا ما عجز عن إثبات الوقائع المقذوف بها، أو قصرت وسائله عن هذا الإثبات. ففى هذه الحالة يكون عليه أن يثبت أنه كان يعتقد صحة الوقائع المقذوف بها، وأنه قد بذل جهدا كافيا فى التحقق من صحتها، وقد تحرى الدقة والحرص فى تقديرها، وأنه لم يقصد من القذف إلا تحقيق المصلحة العامة التى تتمثل فى إعلام الرأى العام بأمر رشيد ينبغى السعى إلى تحقيقه، أو إلى فساد يجب العمل على تجنبه، بحيث إنه إذا لم تكن تلك غايته، فإن هذا يؤكد أنه: ما نشر الوقائع المقذوف بها إلا للانتقام والتشفى، وهذا معناه تجاوزه لحق النقد، وتنسحب عنه الحماية التى يضيفها القانون على هذا الحق.
ومن هنا لا تثريب على الصحفى إذا ما نشر مقالا ينطوى على عبارات قذفية إذا استطاع إثبات صحتها حتى ولو كانت نيته سيئة، وقصده التشهير وشفاء الضغائن، وذلك لأنه طالما كانت هذه الوقائع صحيحة وصادقة فلا يهم بعد ذلك حسن أو سوء نيته، فإذا لم يستطع إثبات صحة الوقائع، فإنه يكفيه للإعفاء من العقاب المرء بالحرص والدقة، ومن ثم يكون من غير المعقول مساءلته فى مثل هذه الحالات.
لم تعترف المادة 302 ع بهذا الأثر الكامل لحسن النية بل قصرته فى دائرة ضيقة (موظف عام) وحتى فى هذه الحالة لا يصلح بمفرده لتقرير الإباحة، رغم أن هذا ما تقضى به القواعد العامة للإباحة وذلك بالتعارض مع قرينة البراءة (م 69)، وحق الدفاع (م 69)، واستقلال القضاء (م 165)، وخضوع الدولة للقانون (م 65)، وحرية التعبير وحق النقد والحق فى المعرفة (م 47)، وحرية الصحافة (م 48).
نتيجة عامة
يتضح من العرض السابق أن التنظيم القانونى لجريمتى السب والقذف إنما ينتهك أحكام المواد 40، 41، 47، 48، 65، 66، 67، 69، 165 من الدستور المصرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *