دراسة حول إعتبار طلب الرشوة من جهة الموظف شروعاً في الجريمة

دراسة حول إعتبار طلب الرشوة من جهة الموظف شروعاً في الجريمة.

رأت محكمة النقض عندنا أن الموظف إذا طلب الرشوة فرفض صاحب الشأن يعتبر الطلب شروعًا.

غير أن هذه النقطة تحتاج إلى بحث، ونعتقد أن هذا الرأي لا يوافق القانون – بل نرى أن تصور الشروع في الرشوة من جهة الموظف أمرًا واقعيًا – وبنص القانون، وبمقتضى المبادئ العامة التي قام عليها التشريع الجنائي.

لا يمكننا أن نحدد وقائع الشروع قبل أن نتعرف من نص القانون ما هي الجناية التامة وما هي أركانها – وحينئذٍ نفهم بعد ذلك كيف يكون الشروع فيها – والشروع على ما هو مقرر بالنص البدء في تنفيذها.

أما الجناية التامة – فقد وصفها الشارع المصري في المادة (89) عقوبات – وهي تقابل بالنص المادة (177) من القانون الفرنساوي كأنها منقولة منه حرفًا بحرف:
((89) – يُعد مرتشيًا – كل موظف عمومي قبل وعدًا من آخر بشيء ما أو أخذ (هدية أو عطية لأداء عمل من أعمال وظيفته – أو لامتناعه عن عمل من الأعمال المذكورة).

نستعرض في مبدأ البحث ما ذهب إليه الفقه في فرنسا علمًا وعملاً تفسيرًا لهذه المادة، وبيانًا لأركان الجناية الكاملة.

قام الإجماع على أن لهذه الجناية أركانًا ثلاثة، وهي كما ترى من النص: 

1 – وعد، ثم قبول، أي تعاقد غير مشروع.
2 – موظف مختص بما يطلب منه.
3 – أداء العمل المقصود من هذا التعاقد الباطل.

لكنهم اختلفوا في هذا الشرط الأخير – فمنهم من رأي أن الجريمة تتم بمجرد التعاقد حتى ولو لم ينفذ الموظف العمل المقصود من الرشوة – ومنهم من رأى أن الموظف إذا عدل من تلقاء نفسه وبمحض اختياره عن تنفيذ ما اتفق عليه – فجناية الرشوة لم تقع – وكذلك الشروع لم يحصل لأن ركن الشروع لم يتم وهو خيبة العمل لسبب خارج عن إرادة الجاني – وقد عدل هنا بمحض إرادته.

ولقد نقل أصحاب البنديكت – هذين الرأيين فتقرأ في مجلد 21، صفحة 717 – ما يأتي:

((15) وفي حالتي الرشوة – الرشوة ممن يعرض – ثم الرشوة حين تقبل – تتم أركان الجريمة – بمجرد إتمام الاتفاق غير الشرعي بين الفريقين – وليس من الضروري أن يتم العمل المقصود من هذا الاتفاق فعلاً – بل يكفي أن يكون العرض قد قبل – أو أن الشيء المعروض قد أخذ (جارو جزء (3) صفحة 385 منه نمرة (39)).

وتقرأ بعد هذا مظهر الرأي الثاني في ذات الصفحة بالنص الآتي: ((18) ومع هذا فهناك رأى بأن الموظف إذا عدل باختياره عن تأدية العمل المقصود – فإنه لا سبيل لاعتباره لا جانيًا ولا شارعًا في الجناية – (شوفر وفوستان هلي وفيلي مجلد (2) صفحة 635، بلانش مجلد (7) نمرة (416)).

ونرى في هذه النقطة المعينة – وهي هل يجب لتكوين الجريمة أن ينفذ الموظف الغرض الذي يريده الراشي أو لا يجب – نرى أن هذا غير واجب، ونرى أن الرأي الأول صواب لأن عدول الموظف ولو اختيارًا عن التنفيذ لا ينفي أنه قد تم اتفاق الموظف مع الراشي فعلاً، وقد أخذ الاتفاق حيزًا في الوجود، وقد ثبت بهذا الاتفاق إثباتًا واقعيًا أن الموظف قد باع ذمته فعلاً، وقد عبث بواجب وظيفته عبثًا لا نزاع فيه فتمت الجناية المقصودة بالذات، ووقع أثرها لا من وجهة أدبية فقط بل من وجهة فعلية – تزعزعت بها الثقة الواجبة بالأمناء على حقوق ومصالح العامة – فحقت العقوبة.

أما العدول بعد ذلك – ولو اختيارًا – فلا يهم التشريع في شيء – ولا يهم مصلحة الاجتماع وإن كان الضرر قد قل كثيرًا – وقد تصعب معرفة السبب الحقيقي لهذا العدول، وهو على كل حال لا يمتاز في شيء – عن حالة سارق قد سرق، وأخذ مال غيره فعلاً، ثم تولاه الندم فرد المال المسروق، ولم يقل أحد أن هذا معدم لأركان السرقة، وإن اقتضى الرأفة عند توقيع العقوبة.

حينئذٍ يجب أن نضع قاعدة أن الرشوة تتم بالاتفاق المكون من إيجاب ثم قبول بشرط أن يكون الموظف مختصًا سواء نفذ ما تعاقد عليه أو لم ينفذ.

ما هو الشروع في هذه الجناية، وكيف يتحقق ؟ 

تعترضنا هنا أيضًا مسألة أخرى، هي: هل جناية الرشوة جناية واحد صادرة من شخصين مختلفين فهما فاعلان أصليان لعمل في الحقيقة واحد هو العقد الذي لا يمكن أن يتم إلا باتفاق إرادتين اتفاقًا واقعيًا.

أو يريد القانون أن يعتبر في الرشوة جنايتين مستقلتين واحدة من الراشي قد تتم وحدها بدون قبول الموظف ثم أخرى من الموظف قد تتم مستقلة أيضًا بدون عرض من غير الموظف ؟

أهمية هذا السؤال واضحة لفهم مسألة الشروع، فإنك إذا فصلت بين الشخصين واعتبرت لكل منهما جناية مستقلة، كان لاحتمال الشروع من كل منهما مجال، مع الاحتياط بعد ذلك في تطبيق أركان الشروع عامة، أما إذا جمعت بين عمل الاثنين، واعتبرت الجناية هي التعاقد ولا تعاقد بدون اتحاد إرادتين كان الشروع في هذه الجناية من قبل أحد الاثنين مستقلاً بطريق العرض الكلامي أمرًا مستحيلاً فلا شروع لا من جهة الراشي، لأنه لا يستطيع أن يشرع في تنفيذ عقد من جهته وحده، ولا من جهة الموظف لأن هذه الاستحالة في شأنه أوضح منها في شأن الفرد، لأن جنايته هي القبول ولا يستطيع أحد أن يفهم شروعًا في قبول !!!

وهنا يبدأ الخلاف العظيم بين كيفية التحرير في نصوص القانونين، الفرنسوي، والمصري، فإن القانون الفرنسوي، قد ترك لأهل البحث أن يفهموا من طريقة تحريره أنه يفصل بين الشخصين ويعتبر لكل منهما واقعة خاصة، فنراه يقنن في شأن الموظف وحده في المواد (177)، و(178) و(171)، و(182)، و(183)، ثم يتكلم عن الراشي أيضًا مستقلاً، في مادتي (179)، و(180).

ومع أنه قد جعل العقوبة للاثنين واحدة، وكان هذا داعيًا، لأن يفهم أن العمل في الحقيقة واحد، لكن أهل البحث هناك، رأوا في هذا النحو من التحرير ما يفيد أن الشارع قد أراد أن يعتبر في الرشوة فعلين مستقلين، فكان هذا داعيًا للبحث في الشروع في كل منهما من جهة الموظف ثم من جهة الراشي.

ومع أنهم ذهبوا إلى هذا الرأي تمشيًا مع وضع النصوص، فإنهم أجمعوا على أنه رأى يؤسف عليه لأنه لا يتفق مع مبادئ التشريع، وقالوا إن الواجب التشريعي كان يقتضي اعتبار الرشوة عملاً واحدًا يصدر من اثنين، فلا سبيل لتصور عمل لأحد المتعاقدين مستقلاً عن الآخر (بنديكت مجلد (21) صفحة 711، نمرة (8) و(9) وجار ومجلد (3) صفحة 383 على الهامش.

قلنا إن الخلاف عظيم بين نصوص القانون الفرنساوي، ونصوص القانون المصري في هذا المقام، فإن الشارع عندنا لم يحذُ حذو القانون الفرنساوي في التحرير، ولم يفصل بين الموظف وبين الفرد، ولم يضع لكل منهما عملاً ونصوصًا بل تصور الرشوة ووضعها في القانون على أنها عمل واحد صادر من الشخصين معًا، فعرفها في ذاتها في المادة (89) تعريفًا واحدًا في حق الموظف وغير الموظف، ثم وضع عقوبتها أيضًا نص آخر في حق الموظف وغيره، فأعلن بهذا صراحةً أنه إنما أراد أن يخالف مصدره، وأنه قد انتفع فعلاً بانتقاد الفقهاء على تلك النصوص، فأخذ بمبادئ التشريع الحقة، وقرر أن الرشوة عمل واحد هي العقد بين متعاقدين نسأل بعد

هذا متى يقع الشروع وكيف يكون ؟ 

نقرأ في البنديكت نمرة (16):

(من جهة الراشي فقد تمت أركان الشروع بمجرد العرض ولو لم يقبل، ومن جهة الموظف، فإنه إذا اقترح الرشوة بدون أي عرض أو وعد فهذا يكفي لتكوين الشروع من جهته.

ثم نقرأ أيضًا في جارو مجلد (4) طبعة ثانية صفحة 58 في أوائلها ما نصه:
(تتم الجناية كاملة إذا أخذ الموظف النقود المعروضة أو قبل الوعد لكنها تكون شروعًا – إذا لم يقبل الموظف – ومن الجهة الثانية فإن الموظف يمكنه أن يرتكب جناية الشروع إذا هو اقترح الرشوة بدون أن يعرضها عليه أحد).

ولعل هذا الرأي هو الذي كان مصدرًا لحكم النقض السابق،

غير أننا نلاحظ على هذا الرأي ما يأتي: 

أولاً: إن أصحاب البنديكت مع اهتمامهم في جميع تدويناتهم بنقل الأحكام التي تصدر تقريرًا لآرائهم نراهم قد نقلوا هذا الرأي خاليًا من أي حكم أو من أي تقرير آخر.

ثانيًا: إن جارو – بعد أن كتب هذا الرأي في كتابه – قد أحس بأنه رأي غير مسند فأراد إخلاصًا للعلم عند المراجعة أن يدلل على ضعفه في الحاشية، فتراه يكتب في أسفل الصفحة تعليقًا بالنص الآتي:

(7 – هذا الرأي يظهر لنا أنه نتيجة لمبادئ الشروع العامة، ولكن يجب علينا أن نلاحظ أن العلماء لم يرد في مباحثهم إمكان الشروع في الرشوة من جهة الموظف، وكذلك نحن لم نجد في فقه المحاكم مثلاً للاتهام بشروع من هذا القبيل.

ثالثًا: وهذا هو القاطع إن جارو لم يكتفِ بالحاشية التي نقلناها – بل لما تقدم في البحث واستعرض المبادئ مرة ثانية نراه قد نقض ذلك الرأي الأول نقضًا صريحًا، فكتب في صفحة 75 ما نصه:

(المادة (177) إنما تقرر العقوبة على قبول العرض أو الوعد للغرض المعين، فهي بذلك تجعل الجريمة في اتفاق الإرادتين).

وعلى هذا فإن طلب نقود – إذا لم يقبله من طلب منه – لا يعتبر إلا شروعًا في جنحة الاتجار بالوظيفة، وهي جنحة لا عقوبة عليها بنص في القانون.

رابعًا: أن هذا الرأي الباطل الذي رجع عنه أصحابه – ذلك الرجوع الصريح – إنما كان نتيجة لتصور جريمة الرشوة عندهم على اعتبار أنها قد جمعت بين عملين مستقلين – يجب ملاحظة كل منهما على حدة – وقد بينا فيما تقدم بطلان هذا التصور من جهة قانوننا ومن البديهي أن التناقض بين الأساسين يقتضي التناقض بين النتيجتين.

إتيانًا بما تقدم إتمامًا للبحث، وأخذًا بقواعد النظرية الجنائية من أصولها، وكان لنا أن نكتفي بنصوص القانون عندنا فإنها صريحة في استحالة الشروع من جهة الموظف بل في استحالته أيضًا من جهة الراشي إذا اقتصر على العروض قولاً ذلك لأننا قد نقلنا نص المادة (89)، وهي صريحة أن الرشوة التامة إنما هي (قبول) الموظف، ومهما تعب العقل فإنه لا يستطيع أن يجد للشروع في القبول إمكانًا لا خياليًا، ولا ماديًا يتمثل ظاهرًا في الوجود.

نقول – لا خياليًا، ولا فعليًا – إذ لا نستطيع أن نفهم من جهة الخيال شيئًا غير القول إلا ترددًا في نفس الموظف – إذا عرض عليه أمر – فقد تقف نفسه بين القبول وبين الرفض، وهذه مداولة وحيرة وتردد، فلا نستطيع أن نصفها قبولاً ولا شروعًا فيه، ولا تستطيع أن نصفها رفضًا فهي هواجس تطرأ على النفس مثلها مثل كل الخيالات الطارئة فلا هي عزم، ولا هي قصد ثابت، فمن المحال أن تكون شروعًا، وهو بدء في العمل كما هو معروف، قد تقول ولكن الموظف إذا طلب، قد صدرت منه كلمة فعلاً، وقد ظهر قصده ! نعم لكن القصد ليس شروعًا – مهما تحقق – بل لا بد من البدء في التنفيذ.

ثم نعم ثانيًا: لكن الجناية هنا، وبالنص هي القبول فالقبول مستحيل لعدم الإيجاب والشروع فيه كذلك مستحيل لأن استحالة واقعة تجعل الشروع فيها أمرًا مستحيلاً طبعًا.

ثم نعم ثالثًا: لكن الاعتراض راجع إلى نسيان أننا في مجال توقيع عقوبات، وتعرف جنايات كما وضعها الشارع تحديدًا، لا كما يريد الفكر، والفكر كثير المذاهب فإذا قال الشارع أن الرشوة هي القبول وجب أن نقف عند هذا ولا نتعداه، ووجب أن نبحث في هل لهذا العمل من شروع ممكن ؟.

اعترض باحتمال أن يقبل صاحب الحاجة طلب الموظف، فيعرض عليه ما طلبه أفلا تتم الرشوة ؟

الاعتراض غير مسند – بل هو يعزز الرأي الذي نقول به – لأنه إذا قبل صاحب الحاجة العرض فقد تم العقد كاملاً، وقد اتحدت الإرادتان – اتحادًا جنائيًا فاجتمعت أركان الواقعة، واستحقت العقوبة، ولن نجد أبدًا لاتحاد الإرادتين شروعًا !!!

والاعتراض عند تحليله أيضًا لا يصلح دليلاً إلا لرأينا لأن قبول صاحب الحاجة لعرض الموظف يتضمن بالطبع عرض الهدية أو التعهد بها – ثم يعقبه قبول الموظف، وعلى هذا فقد توفر العرض من جهة الراشي، ثم القبول وإن ثبت مرتين، فتحققت الواقعة كما حددها النص وتمت أركان العقد الجنائي كلها، ولا يكون طلب الموظف إلا اقتراحًا للتعاقد الجنائي أو الفاتًا لنظر صاحب الحاجة إلى التفكير في الجناية، وما قال أحد أن مجرد اقتراح فعل جنائي يعتبر شروعًا فيه.

على أن الشارع المصري وهو ينقل القانون الفرنسي رأي في المادة (179) – عند النقل كلمة (الشروع) فحذفها بتاتًا فلا نراها عندنا – وفي هذا تدليل ضمني لكنه واضح الدلالة على أن اعتبار الشروع في الرشوة من طريق القواعد العامة، وهي البدء في العمل على إطلاقه لا يمكن أن تتحقق – في مسائل الوعد والقبول – والتعاقد الكلامي بل لا بد للشروع في هذا المقام من حكم خاص وبيان مستقل.

ثم بعد هذا الحذف أراد أن يضع حكم الشروع فقرره في المادة (96) بالنص الآتي: (96) من شرع في إعطاء رشوة – ولم يقبل منه – أو في الإكراه بالضرب والتهديد ونحو هذا ولم يبلغ مقصده يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنة.

بناءً على هذا فالنص صريح بأن الشروع إنما هو البدء في عمل مادي هو إعطاء الرشوة وتقديمها فعلاً ماديًا ظاهرًا، أما العرض القولي – فقد ذكره القانون في مواد الفعل التام – وتركه في مادة الشروع فإذا عرض الراشي الرشوة قولاً – ولفظًا مجردًا فلا شروع أصلاً بنص المادة، وإذا كان الشروع لا يتكون بالقول – من جهة الراشي – فهو كذلك لا يتكون بالقول من جهة الموظف لأن مبادئ الشروع واحدة لا تتغير

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *