دراسة حول نظرية السبب في التقنين المصري الحديث – بحث متوسع

دراسة حول نظرية السبب في التقنين المصري الحديث – بحث متوسع

 

نظرية السبب في القانون المصري
 مسائل ثلاث:
تلقى القانون الحالي النظرية الحديثة في السبب ميراثاً عن القانون القديم والقضاء المصري ، فقد كان الفقه والقضاء في مصر ، قبل صدور القانون الجديد ، قد عبد الطريق لنبذ النظرية التقليدية الضيقة وتلقى النظرية الحديثة الخصبة . ولكن القانون الجديد خطأ خطوة أخرى إلى الإمام ، إذ ارجع السبب سيرته الأولى عندما كان في يد الفقهاء الكنسيين عاملا لحماية المشروعية قبل أن يكون عاملا لتحصين الإرادة من عيوبها . ففصل ما بين منطقة السبب ومنطقة الغلط ، واقتصر في شروط السبب على المشروعية دون الصحة . ثم عرض في نص هام لإثبات السبب .
فنحن نستعرض هنا مسائل ثلاث : ( 1 ) اعتناق القانون الحالي للنظرية الحديثة في السبب . ( 2 ) الفصل مابين منطقة السبب ومنطقة الغلط في القانون الحالي . ( 3 ) إثبات السبب.

1 – اعتناق القانون الحالي للنظرية الحديثة في السبب
 النصوص القانونية:
نص القانون الحالي في المادة 136 على ما يأتي :
” إذا لم يكن للالتزام سبب ، أو كان سببه مخالفا للنظام العام أو الآداب ، كان العقد باطلا ( [1] ) ” .
وكان القانون القديم ينص في المادتين 94 / 148 على أنه ” يشترط لصحة التعهدات أن تكون مبنية على سبب صحيح جائز قانوناً ” .
ونلاحظ منذ الآن الفرق ما بين النصين . فنص القانون القديم يشترط في السبب الصحة والمشروعية . أما نص القانون الجديد فلا يشترط إلا المشروعية ، إذ السبب غير الصحيح يدخل في منطقة الغلط كما قدمنا .

ولم يصرح القانون الجديد فيما أورده من نص بالمعنى الذي يقصده من ” السبب ” . ولكن لا شك في أنه يعتنق النظرية الحديثة ، وينبذ النظرية التقليدية . فقد كان هذا هو شأن القانون القديم ، وهو لا يزيد في صراحة التعبير عن القانون الجديد . وكان الفقه والقضاء في مصر يفسران عبارات القانون القديم على معنى النظرية الحديثة لا على معنى النظرية التقليدية . ولم يقطع القانون الجديد صلته بهذه التقاليد ، بل هو قد تأثر بنوع خاص بتقاليد القضائين المصري والفرنسي . وقد ذكر ذلك صراحة في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي إذ ورد فيها ما يأتي : ” لم ينهج المشروع نهج التقنينات الجرمانية بشان نظرية السبب ، بل اختار على النقيض من ذلك مذهب التقنينات اللاتينية وانتصر معها لهذه النظرية . والواقع أن السبب كما يصوره القضاءان الفرنسي والمصري بمعنى الباعث المستحث يدخل في نطاق القانون المدني عنصراً نفسياً من عناصر الأخلاق يحد من نزعته المادية ، وهي بعد نزعة يشتد طغيانها في بعض الأحيان ” ( [2] ) . وجاء في موضع آخر من المذكرة الإيضاحية ما يأتي : ” يقصد بالسبب معناه الحديث كما يتمثله القضاءان المصري والفرنسي في العصر الحاضر . فهو بهذه المثابة الباعث المستحث في التصرفات القانونية عامة لا فرق في ذلك بين التبرعات والمعاوضات ” ( [3] ) .

فالسبب إذن ، في نظر القانون الجديد ، هو الباعث الدافع إلى التعاقد ( cause impulsive ) لا مجرد الغرض المباشر المقصود في العقد ( cause finale ) . وهو أمر نفسي خارج عن العقد يتغير بتغير البواعث . وكل ما أوردناه عن النظرية الحديثة في السبب ينطبق في القانون الجديد . و لا بد في القانون الجديد أيضاً من أن يكون السبب معلوماً من المتعاقد الآخر ، فإذا كان الباعث الذي دفع أحد المتعاقدين إلى التعاقد غير مشروع ، ولم يكن المتعاقد الآخر يعلم بهذا الباعث وليس في استطاعته أن يعلم به ، فعدم المشروعية هنا لا يعتد به ، ويكون العقد صحيحاً ، ويقوم لا على الإرادة الحقيقية فهي غير مشروعة ، ولكن على الإرادة الظاهرة ، شأنه في ذلك شأن العقد الذي يقوم على إرادة معيبة بغلط أو تدليس أو إكراه ولا يعلم المتعاقد الآخر بالعيب ولا يستطيع أن يعلم به ، وقد مر بنا ذلك ( [4] ) .
وهذه النظرية الحديثة التي أخذ بها القانون الجديد سبقه إليها ، كما قدمنا ، الفقه والقضاء في مصر . ونعرض الآن لكل منهما .

 الفقه في مصر:
أخذ بعض الفقهاء في مصر بالنظرية التقليدية في السبب ، ونقولها عن الفقهاء الفرنسيين كما أوردناها فيما تقدم ( [5] ) .
ولكن كثرة الفقهاء جاوزوا النظرية التقليدية إلى النظرية الحديثة ، وهي نظرية القضاء الفرنسي ، فآثروها على النظرية التقليدية ( [6] ) .
وهناك من الفقهاء من قال بازدواج السبب ، فاستبقى النظرية التقليدية وأكملها بالنظرية الحديثة على غرار التقنين اللبناني ( [7] ) .
ونحن لا نرى مقتضياً لاستبقاء النظرية التقليدية وتكميلها بالنظرية الحديثة . وقد رأينا فيما قدمناه أن النظرية التقليدية لا نفع فيها والاستغناء عنها ميسور . هذا إلى أن ربط النظريتين إحداهما بالأخرى هو ربط بين نظريتين يختلفان كل الاختلاف في النزعة وفي الأصل التاريخي . وقد رأينا أن إحداهما تسربت إلينا عن الفقهاء الرومانيين في القرون الوسطى وهي تحمل أثر الصنعة الرومانية ، والأخرى تلقيناها عن الفقهاء الكنسيين وقد بنوها على أصول خلقية دينية وبعدوا بها عن الصياغة الرومانية بعد أن حرروا الإرادة من قيودها الشكلية . ففيم إذن الربط بين نظريتين متنافرتين كل هذا التنافر ! وما الجدوى في هذا الربط ، والنظرية التقليدية يمكن الاستغناء عنها ، والنظرية الحديثة فيها وحدها كل الغناء !

 القضاء في مصر:
والقضاء في مصر كان أكثر تمشياً مع الفقه مع النظرية الحديثة، فأخذ بها في كثير من أحكامه، وقد اقتفى في ذلك اثر القضاء في فرنسا .
فقضت محكمة الاستئناف الوطنية في دعوى ثبت فيها أن شخصاً أودع عقداً عند رجل يأتمنه ، فاتفق ابن المودع مع الأمين على أن يسلمه العقد المذكور في مقابل أن يكتب له عقداً ببيع سبعة أفدنة – بأن هذا البيع باطل لأن السبب فيه غير مشروع ، وأن الأمين الخائن لا حق له في طلب ملكية العين ولا في الثمن ( [8] ) . ويلاحظ في هذه القضية أن البيع إذا كان جدياً دفع المشتري فيه ثمناً ، كان عقداً ملزماً للجانبين اعتبر السبب فيه هو الباعث الدافع . أما إذا كان ، كما هو الغالب ، هبة في صورة بيع ، كان تبرعاً أبطله القضاء لعدم مشروعية الباعث على اعتبار أن الباعث هو السبب – وقضت هذه المحكمة أيضاً بأنه إذا كان الباعث لتبرع الخليل لخليلته هو استبقاء العلاقة غير الشريفة بينهما كان العقد باطلا ، أما إذا كان الباعث هو تعويض الخليلة عما أصابها من الضرر بسبب هذه المعاشرة غير الشرعية بعد أن انقطعت فالباعث يكون مشروعاً والتبرع يكون صحيحاً ( [9] ) – وقضت محكمة الزقازيق الكلية بأن القضاء قد جرى على اعتبار الباعث في مرتبة واحدة مع السبب المباشر وذلك في حالة ما إذا كان العاقد الآخر يعلم بهذا الباعث ، ويعتبر الباعث في هذه الحالة أمراً ملاحظاً في العقد وانه بدونه لا يمكن أن يتم العقد ( [10] ) .

على أن النظرية التقليدية في السبب لم تعدم لها مكاناً في القضاء الوطني ، وقد تردد صداها في بعض الأحكام . فقد قضت محكمة استئناف مصر الوطنية بأنه لا محل للبحث في عقد البيع في الأسباب التي يدعيها البائع كباعث على صدور العقد ، لأن الباعث من الأمور التي لا يلتفت إليها في صحة العقد ، وهو والسبب الصحيح أمران مختلفان لا يصح الخلط بينهما ( [11] ) . وقضت محكمة النقض بان السبب القانوني في عقد القرض هو دفع المقرض نقداً إلى المقترض ، ومن هذا الدفع يتولد الالتزام برد المقابل ، فإذا انتفى السبب هذا المعنى بطل العقد ( [12] ) . ويجوز أن يؤول حكم محكمة استئناف مصر بأن الباعث لم يكن معلوماً من الطرف الآخر فلا يعتد به ، وأن يؤول حكم محكمة النقض بان السبب الذي عنته في حكمها هو السبب المنشيء لعقد القرض .

وقد كان القضاء المختلط أكثر إمعاناً من القضاء الوطني في الأخذ بالنظرية الحديثة في السبب . وإذا كانت محكمة الاستئناف المختلطة قضت في حكم قديم لها ( [13] ) بان الإيجار أو القرض لا يكون باطلا حتى لو كان المستأجر أو المقترض قصد إدارة العين للعهارة أو استعمال المبلغ المقترض في إدارة العين للعهارة ، وحتى لو كان المؤجر أو المقترض عالماً بذلك ، فقد هجرت بعد ذلك هذه النظرية التقليدية ، وأخذت في أحكام كثيرة بالنظرية الحديثة . فقضت بان بيع اسلحة محرم استيرداها إلى مصر يكون باطلا لعدم مشروعية السبب متى كان البائع عالماً بهذا التحريم ( [14] ) . وقضت بان اتفاق البائع والمشتري على الثامن الحقيقي للصفقة ، مع بقائه مخفياً حتى يذكرا ثمناً صورياً أقل من الثمن الحقيقي ، فيتمكن المشتري بذلك من تخفيض رسوم التسجيل بطريق الغش ، يكون اتفاقاً باطلاً لعدم مشروعية السبب ، ولا يستطيع المشتري التمسك بالثمن الحقيقي في مواجهة الشفيع ، كما لا يستطيع البائع التمسك بهذا الثمن في مواجهة المشتري ( [15] ) . وقضت بان عقد القرض يكون باطلا إذا قصد المقترض منه أن يتمكن من المقامرة وكان المقرض عالماً بهذا القصد ( [16] ) ، لكن إذا ثبت أن المقترض لم يستعمل القرض فعلا ي المقامرة فإن الدليل على القصد غير المشروع لا يقوم ويكون عقد القرض صحيحا ( [17] ) . وقضت بان التوكيل المعطي لسمسار لعقد صفقات بقصد المضاربة في البورصة عقد باطل لعدم مشروعية السبب ( [18] ) ، ولكن قصد المضاربة يجب أن يكون معلوماً من السمسار وإلا فلا يعتد به ( [19] ) . وقضت محكمة الإسكندرية التجارية المختلطة بأنه إذا كان الباعث على التبرع استبقاء العلاقة ما بين الخليل وخليلته كان العقد باطلا ، أما إذا كان هو التعويض عما أصاب الخليلة من الضرر بسبب المعاشرة فالباعث مشروع والعقد صحيح ( [20] ) . ولم يكن القضاء المختلط يعتبر التبرع لولد غير شرعي باطلا ، بل يعتبره وفاء لا لتزام طبيعي ، ويعطيه حكم الوصية فيجوز فيما لا يزيد عن الثلث ( [21] ) .

وإذا كان القاضي المصري – لا سيما القضاء الوطني – قد أخذ في الماضي بالنظرية التقليدية في بعض أحكامه ، فلم يعد بعد صدور القانون الجديد محل للأخذ بهذه النظرية . وأصبح من المتعين الآن الأخذ بالنظرية الحديثة التي اعتنقها القانون الجديد ، على ما تصرح به الأعمال التحضيرية فيما قدمناه .

2 – الفصل ما بين منطقة السبب ومنطقة الغلط في القانون الحالي
 إبعاد ” السبب غير الصحيح ” من دائرة السبب إلى دائرة الغلط:
قدمنا عند الكلام في نظرية الغلط أن التمييز بين السبب غير الصحيح والغلط في الباعث كان مفهوماً وقت أن كانت النظرية التقليدية في كل من الغلط والسبب قائمة . فالنظرية التقليدية في الغلط كانت تميز بين الغلط في السبب وهو يجعل العقد باطلا ، وبين الغلط في الباعث وهو لا يؤثر في صحة العقد ، والنظرية التقليدية في السبب كانت تميز بين السبب أي الغرض المباشر من الالتزام وهو الذي يعتد به ، وبين الباعث وهو عديم الأثر ، ومن ثم كان مفهوماً أن الغلط في السبب يجعل العقد باطلا وأن الغلط في الباعث لا يؤثر في صحة العقد ، لأن السبب بالمعنى التقليدي ألصق بالعقد من الباعث فالغلط فيه أمر خطير من شأنه أن يعدم العقد ، أما الباعث فأمر خارجي عن العقد فلا يعتد بالغلط فيه .

ثم تطورت نظرية الغلط ، فاستبدلنا بالنظرية التقليدية النظرية الحديثة . وأصبح الغلط في الباعث طبقاً لهذه النظرية الأخيرة يجعل العقد قابلا للإبطال . فإذا نحن واجهنا هذه النظرية الحديثة في الغلط بالنظرية التقليدية في السبب ، بقى الفرق قائماً بين الغلط في السبب بمعناه التقليدي وهو الغرض المباشر من الالتزام وبين الغلط في الباعث وهو أمر خارجي عن العقد ، وأمكن تبرير الفرق في الحكم : فالغلط في السبب اللصيق بالعقد يجعل العقد باطلا ، أما الغلط في الباعث الخارج عن العقد فلا يجعل العقد إلا قابلا للإبطال .

ولكن لما تطورت نظرية السبب هي الأخرى واستبدلنا بالنظرية التقليدية النظرية الحديثة ، وأصبح السبب هو عين الباعث ، لم يعد هناك محل للتمييز بين الغلط في السبب بهذا المعنى الجديد وبين الغلط في الباعث . فكلاهما غلط في الباعث . ووجب إذن أن ندرك أن نظرية الغلط قد اتسعت دائرتها كما اتسعت دائرة نظرية السبب ، حتى تدخلت كل دائرة في الأخرى ، فأصبحت هناك منطقة مشتركة بين الدائرتين يتعين أن نستخلصها لاحداهما ، وإلا وقعنا في المحظور الذي أشرنا إليه عند الكلام في نظرية الغلط ، ووقع خلط عجيب ما بين نظريتي السبب والغلط ، إذ تبقى هذه المنطقة المشتركة فيما بينهما يتنازعها كل منهما ، فإذا سميناها بالسبب غير الصحيح أو السبب المغلوط ( cause erronee ) كان العقد باطلا ، وإذا سميناها بالغلط في الباعث ( erreur sur le motif ) كان العقد قابلا للإبطال ( [22] ) .
لذلك كان لا بد من التأمل فيما صارت إليه الأمور بعد تطور نظرية السبب ونظرية الغلط واستبدال النظرية الحديثة في كل منهما بالنظرية التقليدية . وقد لفت ذلك نظر بعض الفقهاء ، ولكنهم لم يشيروا في ذلك برأي حاسم ( [23] ) .

أما القانون الجديد فقد وقف موقفاً صريحاً من هذه المنطقة المشتركة ما بين السبب والغلط ، واعتبر أن السبب غير الصحيح ( أو السبب المغلوط ) هو والغلط في الباعث شيء واحد ، كلاهما غلط في الباعث كما قدمنا ، وكلاهما يجعل العقد قابلا للإبطال . وبعد أن كانت المنطقة المشتركة المشار إليها يتنازعها كل من السبب والغلط على النحو الذي بيناه ، استخلصها القانون الجديد للغلط ، واختفى من نصوص السبب في القانون الجديد النص الخاص بالسبب غير الصحيح . وهذا النظر تبرره اعتبارات منطقية واعتبارات تاريخية .

أما الاعتبارات المنطقية فترجع إلى أنه بعد أن اتسعت فكرة السبب فأصبح السبب هو الباعث ، فإن الغلط فيه لم يعد هو الغلط في السبب الضيق اللصيق بالعقد الذي تقول به النظرية التقليدية في السبب ، بل صار هو عين الغلط في الباعث الذي تقول به النظرية الحديثة في الغلط . ووجب أن يعطي الغلط في السبب إلى دائرة الغلط ، ولا يصبح هناك محل للكلام عن السبب غير الصحيح في نظرية السبب ، فهو لا يزيد على أن يكون غلطاً في الباعث ، ومحل الكلام عنه إنما يكون في نظرية الغلط . أما الغلط في السبب بمعناه التقليدي فقد قدمنا أنه غلط يمنع من تكوين العقد لانعدام الرضاء أو لانعدام المحل ، فالكلام فيه هو أيضاً لا يكون في نظرية السبب ( [24] ) .
وأما الاعتبارات التاريخية فترجع إلى تاريخ نظرية السبب ، وكيف استخدم الفقهاء الكنسيون هذه الفكرة بعد أن حرروا الإرادة من قيود الشكل على ما قدمنا . فقد رأينا إنهم هم الذين صنعوا نظرية السبب ، وجعلوا منها نظرية خصبة منتجة . وقد استخدموها بادئ الأمر لحماية مصلحة عامة هي المشروعية . ثم أقحموا بعد ذلك على السبب غرضاً آخر بعيداً عن الغرض الأول ، فاستخدموا نظرية السبب لحماية مصلحة خاصة فردية هي تحرير الإرادة من عيب الغلط . فمن وقع في غلط فعه إلى التعاقد ، كمن تعاقد لسبب غير مشروع ، يستطيع أن يتمسك بنظرية السبب . وظاهر أن فكرة الغلط دخيلة على نظرية السبب ، فالأولى تحمي مصلحة خاصة للأفراد ، أما الأخرى فتحمي مصلحة عامة للجماعة . والأولى إلى رجاع نظرية السبب سيرتها الأولى ، فتتمحض لحماية المصلحة العامة . وينتقل السبب غير الصحيح إلى دائرة الغلط ، ولا يبقى في دائرة السبب إلا السبب غير المشروع . وهذا ما فعله القانون الجديد .

 لا يوجد للسبب في القانون الجديد إلا شرط واحد هو أن يكون مشروعاً:
ومن ثم لا نجد في القانون الجديد عبارة ” السبب الصحيح ” التي كنا نقرأها في القانون القديم ، فقد اختفت وأخلت باختفائها الميدان للسبب المشروع وحده . وقد رأينا أن المادة 136 من القانون الجديد تنص على أنه إذا لم يكن للالتزام سبب أو كان سببه مخالفاً للنظام العام أو الآداب ، كان العقد باطلا . وكان القانون القديم في المادتين 94 / 148 يتطلب لصحة التعهدات والعقود أن تكون مبنية على سبب صحيح جائز قانوناً .

فلا يشترط إذن في السبب إلا شرط واحد هو أن يكون مشروعاً . ومن أجل المشروعية وحدها قامت نظرية السبب أول ما قامت ، واليها وحدها عادت في القانون الجديد .

والواقع من الأمر أن السبب ، بمعنى الباعث الدافع على التعاقد ، يجب استبقاؤه ، على إلا يستخدم إلا لحماية المشروعية في التعاقد . ذلك أنه هو وحده الذي يستطيع أن يقوم بهذه الحماية في صورة السبب المشروع ، ولا يغني عنه ركن آخر ، لا ركن المحل ولا ركن الرضاء ( [25] ) . ولكن عند هذا الحد يجب أن تقف مهمته ، فلا تجاوز ذلك إلى حماية العاقد ضد الغلط في صورة السبب الصحيح ، فإن نظرية الغلط تغني عندئذ عن نظرية السبب ، بل وتفضلها من حيث الجزاء .

وقد فهم القضاء ، في مصر وفي فرنسا ، وهو يلامس الحياة العملية ، مهمة السبب على هذا الوجه فتراه يكاد يقتصر على السبب غير المشروع في إبطال العقد . وقل أن تجد تطبيقاً قضائياً لما يدعى بالسبب غير الصحيح إذ هو يختلط في العمل بالغلط . ويكفي للتثبت من ذلك استظهار ما أوردناه من أحكام القضاء المصري والفرنسي في السبب لنراها جميعاً قد عرضت للسبب غير المشروع لا للسبب غير الصحيح ( [26] ) . وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن القضاء قد اتجه اتجاهاً عملياً منتجاً في نظرية السبب . وقد قام على هذا النحو بمهمته خير قيام . أما الفقه فلا يزال مطلوباً منه أن يقوم بمهمته هو الآخر ، فيعين القضاء على شق طريقه ، ويصوغ له نظرية جديدة في السبب تتمشى مع مقتضيات العمل . وقد سبق القانون الجديد الفقه إلى ذلك ، فخطا بنظرية السبب خطوة جديدة حاسمة في تاريخ تطوره الحديث . فاتسع أفق السبب بعد هذا الضيق الذي كان ملحوظاً في النظرية التقليدية ، وخلص من الشوائب التي كانت تعتريه من جراء اختلاطه بنظرية غريبة عنه هي نظرية الغلط .

 مأخذان على القانون الجديد:
على أن هناك مأخذين على القانون الجديد ، تمعا في العبارة التي صدرت بها المادة 136 . فقد جاء في صدر هذه المادة : ” إذا لم يكن للالتزام سبب ” . فالسبب قد نسب إلى الالتزام ، وكان الأولى أن ينسب إلى العقد إذ هو متلازم مع الإرادة كما رأينا . ثم افترض النص احتمال أن يكون هناك التزام دون سبب ، وهذا احتمال لا يتصور ، فما دمنا نجعل السبب هو الباعث ، فكل إرادة لا بد أن يكون لها باعث إلا إذا صدرت من غير ذي تمييز ( [27] ) .

والعبارة التي ننتقدها أليق بالنظرية التقليدية ، ففي هذه النظرية ينسب السبب إلى الالتزام ويتصور أن يكون غير موجود . ولكن لا يجوز أن يفهم منذ لك أن القانون الجديد قد استبقى النظرية التقليدية ، فإن الأعمال التحضيرية صريحة في أنه قد نبذها واعتنق النظرية الحديثة ( [28] ) .

3 – إثبات السبب
النصوص القانونية:
نصت المادة 137 من القانون الجديد على ما يأتي :
” 1 – كل الالتزام لم يذكر له سبب في العقد يفترض أن له سببا مشروعا ، ما لم يقم الدليل على غير ذلك ” .
” 2 – ويعتبر السبب المذكور في العقد هو السبب الحقيقي حتى يقوم الدليل على ما يخالف ذلك ، فإذا قام الدليل على صورية السبب فعلي من يدعي أن للالتزام سببا أخر مشروعا أن يثبت ما يدعيه ” ( [29] ) .
وهذا النص لا مقابل له في القانون القديم ، ولكنه يقرر أحكاماً غير مستحدثة . فقد كان القضاء المصري يطبقها من قبل . ولم يفعل القانون الجديد إلا أن قننها لما لها من أهمية عملية .

وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” أما فيما يتعلق بإثبات السبب فثمة قاعدتان اساسيتان : ( أولاهما ) افتراض توافر السبب المشروع في الالتزام ولو اغفل ذكره في العقد إلى أن يقوم الدليل على خلاف ذلك . ويكون عبء إثبات عدم وجود السبب أو عدم مشروعيته على عاتق المدين الذي يطعن في العقد . ( والثانية ) افتراض مطابقة السبب المذكور في العقد للحقيقة إلى أن يقيم المدين الدليل على صوريته . فإذا أقيم هذا الدليل وجب على الدائن أن يثبت توافر الالتزام على سبب حقيقي تلحق به صفة المشروعية ” ( [30] ) .

ويتبين مما تقدم أن هناك فرضين : ( الأول ) أن يكون السبب غير مذكور في العقد . ( والثاني ) أن يكون هناك سبب ذكر في العقد ( [31] ) . ونستعرض كلا من الفرضين.

 السبب غير مذكور في العقد:
وهذا هو الفرض الوارد في الفقرة الأولى من المادة 137 . وقد كان المنطق القانوني يقضي بأن الدائن ، وهو المكلف بإثبات الدين ، هو الذي يثبت السبب لأن الدين لا يقوم بدونه . ولكن القانون الجديد وضع قرينة قانونية يفترض بمقتضاها أن للعقد سبباً مشروعاً ولو لم يذكر هذا السبب . على أن القرينة قابلة لإثبات العكس . فإذا ادعى المدين أن للعقد سبباً غير مشروع سمع منه ذلك وكلف هو بإثباته . وله الإثبات بجميع الطرق ، بما في ذلك البينة والقرائن ( [32] ) . وقد كان الفقه ( [33] ) والقضاء ( [34] ) في مصر يأخذان بهذه الأحكام دون نص ، فجاء القانون الجديد مؤيداً لها كما قدمنا .

ويلاحظ أنه إذا ادعى المدين أن للعقد سبباً غير مشروع واثبت ذلك ، فعليه أيضاً أن يثبت علم الدائن بهذا السبب . وله إثبات هذا العلم بجميع الطرق لأنه واقعة مادية . ويستوي في ذلك إلا يكون السبب مذكوراً في العقد أو أن يكون قد ذكر سبب صوري وثبت أن السبب الحقيقي غير مشروع كما سيأتي :

 السبب مذكور في العقد:
وهذا هو الفرض الوارد في الفقرة الثانية من المادة 137 . وقد وضع النص هنا أيضاً قرينة قانونية على أن السبب المذكور في العقد هو السبب الحقيقي الذي رضى المدين أن يلتزم من اجله . والقرينة قابلة لإثبات العكس . فإذا ادعى المدين أن السبب المذكور في العقد ليس هو السبب الحقيقي ، بل هو سبب صوري يستر سبباً غير مشروع ، فله أن يتخذ أحد موقفين : ( 1 ) إما أن يقتصر على إثبات الصورية ، وفي هذه الحالة ينتقل عبء إثبات السبب الحقيقي ومشروعيته إلى الدائن ( [35] ) ، ( 2 ) وإما أن يثبت رأساً أن السبب الحقيقي للعقد غير مشروع .

فإذا أراد أن يثبت صورية السبب . وكانت قيمة التزامه تزيد على عشرة جنيهات ، وجب أن يثبت ذلك بالكتابة أو بما يقوم مقامها ( [36] ) . ويكون الأمر كذلك أيضاً حتى لو لم تزد قيمة الالتزام على عشرة جنيهات إذا كان السبب الضروري مكتوباً ، لأنه لا يجوز إثبات عكس المكتوب إلا بالكتابة .

وإذا أراد المدين أن يثبت رأساً عدم مشروعية السبب ، فله أن يثبت ذلك بجميع الطرق ومنها البينة والقرائن ، حتى لو كان السبب الصوري مكتوباً ، ومهما بلغت قيمة الالتزام ، لأن إخفاء عدم المشروعية غش ، والغش يجوز إثباته بجميع الطرق ( [37] ).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( [1] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادتين 189 و 190 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : م 189 : يكون العقد باطلا إذا التزم المتعاقد دون سبب أو لسبب غير مشروع – م 190 – كي كون السبب غير مشروع إذا كان مخالفاً للنظام العام أو للآداب . وفي لجنة المراجعة ادمجت المادتان في مادة واحدة على الوجه الآتي : ” إذا لم يكن للالتزام سبب ، أو كان سببه مخالفاً للنظام العام أو الآداب ، كان العقد باطلا ” . وأصبح رقم المادة 140 في المشروع النهائي – ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وكذلك فعلت لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ، وأصبح رقم المادة 136 . ووافق عليها مجلس الشيوخ دون تعديل ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 226 – ص 228 ) .

( [2] ) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 225 . وقد أشارت المذكرة الإيضاحية إلى تعديلين استحدثهما القانون الجديد فقالت : ” ورغم أن المشروع قد التزم حدود التصوير التقليدي للسبب كما ارتسمت معالمه في التقنينات اللاتينية ، إلا أنه عرض له بتعديلين متفاوتي الأهمية . فيراعى أولاً أنه اقتصر على رد عدم مشروعية السبب إلى تعارضه مع النظام العام أو الآداب دون أن يشير إلى مخالفته لنص من نصوص القانون . وهو بإغفال هذه الإشارة يخالف ما اتبعه التقنين الفرنسي وأكثر التقنينات اللاتينية معتدا في ذلك بعين الاعتبارات التي أملت عليه مسلكه فيما يتعلق بعدم مشروعية المحل . والواقع أنه قد يؤخذ على الإشارة إلى مخالفة السبب لنص من نصوص القانون إفراطها في السعة أو تجردها من الفائدة . فهي تجاوز حدود المقصود إذا صرفت عبارة ” نص القانون ” إلى الأحكام التشريعية كافة . وهي تصبح عديمة الغناء إذا اقتصر المقصود من هذه العبارة على الأحكام الامرة التي لا يجوز الخروج عليها بمشيئة الأفراد . ويراعى من ناحية أخرى أن المشروع قد اغفل ذكر ” السبب الصحيح ” ، وهو ما يكون غير مطابق للواقع ، وهذا هو أهم التعديلين ” ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 225 ) .

( [3] ) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 227 .

( [4] ) وقد يقال أيضاً – كما قيل في صدد الغلط والتدليس والإكراه – إن العقد يقوم لا على التراضي ، بل على سبيل التعويض .

( [5] ) أنظر الدكتور عبد السلام ذهني بك في النظرية العامة في الالتزامات ص 145 وما بعدها – الدكتور محمد صالح بك في أصول التعهدات ص 264 وما بعدها .

( [6] ) أنظر والتون 1 ص 61 – ص 63 – الدكتور محمد وهيبة في النظرية العامة في الالتزامات فقرة 318 – نظرية العقد للمؤلف فقرة 544 – فقرة 548 .

( [7] ) وقد أشارت المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي إلى نظرية السبب المزدوجة التي أخذ بها التقنين اللبنانين ولم يأخذ بها القانون الجديد ، فقالت في هذا الصدد ما يأتي : ” ويفرق ا لتقنين اللبنانين بين سبب الالتزام وسبب العقد ( م 194 ) . فسبب الالتزام هو الباعث الذي يدفع إليه مباشرة . وهو بهذا الوصف يتمثل في صورة واحدة في كل ضرب من ضروب الالتزام ، ويعتبر جزءاً من التعاقد نفسه . فهو في العقود الملزمة للجانبين الالتزام المقابل ، وفي العقود العينية تسلم المعقود عليه ، وفي التبرعات نية التبرع ، وفي المعاوضات الملزمة لجانب واحد التزام مدني أو طبيعي كان قائماً بين المتعاقدين قبل التعاقد ( م 195 ) . أما سبب العقد فهو الباعث الشخصي الذي يدعو المتعاقد إلى إبرامه ، وهو لا يعتبر شقاً من التعاقد ، فهو يختلف باختلاف الأحوال في العقد الواحد . بيد أن هذه التفرقة ليست في الواقع إلا إبقاء على التمييز بين دلالة السبب في الفقه التقليدي وبين دلالته الحديثة كما استخلصها القضاء . ولما كان التصوير التقليدي ضيق الحدود فقد رؤى الإعراض عنه ” ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 227 ) – أنظر أيضاً جوسران 2 فقرة 148 .
وممن يقول بازدواج السبب الدكتور حشمت أبو ستيت بك فقرة 242 ، وهو صريح في هذا المعنى . أنظر أيضاً الدكتور بهجت بدوي بك ص 173 – ص 174 .

( [8] ) 24 فبراير سنة 1915 الشرائع 2 رقم 216 ص 210 .

( [9] ) 13 يونية سنة 1909 المجموعة الرسمية 11 رقم 3 ص 6 – الحقوق 24 ص 230 .

( [10] ) 20 فبراير سنة 1930 المحاماة 11 رقم 39 ص 72 .

( [11] ) 26 نوفمبر سنة 1929 المحاماة 10 رقم 147 ص 295 .

( [12] ) 3 نوفمبر سنة 1932 مجلة القانون والاقتصاد 3 ص 476 .

( [13] ) 22 نوفمبر سنة 1877 المجموعة الرسمية للقضاء المختلط 3 ص 18 .

( [14] ) 27 يناير سنة 1909 م 21 ص 136 .

( [15] ) 22 يناير سنة 1924 م 36 ص 170 – ولمحكمة النقض قضاء في مسألة كهذه في حكم لها صدر اخيراً ( لم ينشر بعد ) ذهبت فيه إلى أن الشفيع يعتبر من الغير بالنسبة إلى الثمن الصوري ، فله أن يأخذ به دون الثمن الحقيقي ما دامت له مصلحة في ذلك . وعندهنا أن الشفيع لا يعتبر من الغبر في عقد البيع الذي ذكر فيه الثمن الصوري المخفض ، لأن الغير في الصورية هو شخص ثبت له حق على العين محل التصرف الصوري دون أن يكون هذا الحق ناشئاً عن التصرف الصوري ذاته ، والشفيع شخص ثبت له حق على العين الشمفوعة نشا عن البيع الصوري فلا يكون ” غيراً ” . وإذا أراد الأخذ بالشفعة وجب أن يدفع الثمن الحقيقي ، قل هذا الثمن عما هو مذكرو في العقد أو زاد . وسنعرض لهذه المسألة بتفصيل أوفى عند الكلام في الصورية .
أما قضاء محكمة الاستئناف المختلطة الذي أوردناه هنا ، فوجه الاستشهاد به أنه يأخذ بالنظرية الحديثة في السبب ، ولكن نأخذ عليه أنه إذا اعتبر الاتفاق على الثمن الحقيقي باطلا لعدم مشروعية السبب ، وجب أيضاً أن يعتبر الاتفاق على الثمن الصوري غير موجود لصوريته ، فيسقط الاتفاق في الحالتين . ولا يستطيع الشفيع أن يتمسك لا بالثمن الصوري ولا بالثمن الحقيقي . بل هو لا يستطيع الأخذ بالشفعة إطلاقاً لن البيع الذي يريد بسببه الأخذ بالشفعة ير موجود لانعدام الثمن .

( [16] ) 25 فبراير سنة 1897 م 9 ص 194 – 15 مايو سنة 1929 م 41 ص 394 .

( [17] ) 24 يونية سنة 1931 جازيت 22 رقم 279 ص 249 .

( [18] ) 16 مارس سنة 1933 م 45 ص 203 .

( [19] ) 5 ديسمبر سنة 1934 م 47 ص 50 .

( [20] ) 8 يونية سنة 1916 جازيت 6 رقم 536 ص 176 .

( [21] ) محكمة الاستئناف المختلطة في 10 مارس سنة 1897 م 9 ص 190 .

( [22] ) أنظر آنفاً فقرة 173 .

( [23] ) من ذلك ما ورد في بلانيول وريبير وبولانجيه ( الطبعة الثالثة 1949 ) 2 فقرة 205 وفقرة 304 وفقرة 824 ( وقد سبقت الإشارة إليها آنفاً في حاشية الفقرة 173 من هذا الكتاب ) من أن الغلط في الباعث هو في الواقع غلط في السبب ، والجزءا في الحالتين هو البطلان النسبي لا البطلان المطلق ، وذلك لأن شرط الصحة في السبب تراد به حماية مصلحة فردية ، فجزاء الإخلال به البطلان النسبي ، أما شرط المشروعية فتراد به حماية مصلحة عامة ، فجزاء الإخلال به البطلان المطلق – أنظر أيضاً في هذا المعنى بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 263 .
ومن ذلك أيضاً ما هب إليه الدكتور حلمي بهجت بدوى بك ( أصول الالتزامات ص 179 و ص 186 وص 232 ) من أن الغلط صورة من صور السبب غير الصحيح ، فهو يصوغه على أنه قصور الغرض المباشر الذي اتجهت إليه إرادة المتعاقد عن إجابة الحافز الرئيسي الذي حفزه للتعاقد ، ويقول إن هذه الصيغة هي بعينها صيغة السبب غير الصحيح ، وهي على هذا الوجه صالحة للتطبيق على جميع أنواع الغلط دون حاجة إلى تقسيم الغلط إلى غلط في الشخص وغلط في الشيء وغلط في غير ذلك ، لأن العبرة ليست بذات الشخص أو بذات الشيء وإنما بالغرض الذاتي أي بالحافز الرئيسي . فإذا ما خلص له أن حالتي الغلط والتدليس هما بعينهما حالة السبب غير الصحيح ، جعل الجزاء في كل هذه الأحوال البطلان النسبي لا البطلان المطلق . فهو يلحق الغلط بالسبب في ماهيته ، ثم يلحق السبب بالغلط في جزائه . وقد سبقت الإشارة إلى ذلك ( أنظر آنفاً حاشية الفقرة 173 ) .

( [24] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” ويراعى من ناحية أخرى أن المشروع قد اغفل ذكر ” السبب غير الصحيح ” ، وهو ما يكون غير مطابق للواقع ، وهذا هو أهم التعديلين . فالحق أن الغلط في هذا الشأن لا يعدو أن يكون غلطا في الباعث . وقد كان يخلق التنبيه إلى ما في الإبقاء على التفرقة بين الغلط والسبب غير الصحيح من تشبث بأهداب السطحيات والفوارق الصناعية ، بعد أن أصابت فكرة الغلط من السعة ما جعلها تجاوز نطاقها المادي الضيق ، وتصبح فكرة نسفية تتناول الباعث المستحث ، وتنتهي بذلك إلى صورتها السوية في ” الغلط الجوهري ” . ولهذا رؤى إخراج ” السبب غير الصحيح ” أو الغلط في السبب من بين أسباب البطلان المطلق واعتباره سبباً للبطلان النسبي ، شأنه في ذلك شأن سائر ضرور الغلط . ولم يتسبق المشروع من صور السبب غير الصحيح إلا السبب الصوري . ومع ذلك فقد رد حكمه إلى فكرة المشروعية ، وجعل السبب الحقيقي مرجع الحكم فيما يرتب العقد من آثار ، فإن كان هذا السبب مشروعاً صح العقد ، وإن كان غير مشروع بطل العقد لعدم مشروعية سببه لا للصورية ” ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 225 – ص 226 ) .

( [25] ) ولا يجوز أن يقال إنه يمكن الاستغناء عن مشروعية السبب ، والاقتصار على اشتراط أن يكون العقد غير مخالف للنظام العام أو الآداب كما فعل التقنين الألماني مثلا . فإن هذا الاشتراط لا يستقيم إلا إذا قيل إن المقصود به أن يكون غرض العقد غير مخالف للنظام العام أو الآداب . وغرض العقد هو سببه ، والتعبير عن الغرض بالسبب أدق من ناحية الصياغة الفنية .

( [26] ) أنظر في هذا المعنى بلانيول وريبير وبولانجيه ( الطبعة الثالثة سنة 1949 ) 2 فقرة 281 ، وقد جاء في هذه الفقرة ما يأتي : ” لم يستخدم القضاء كثيراً فكرتي انعدام السبب والسبب غير الصحيح فقد كان لديه لهذا الغرض أداة أخرى هي إبطال العقد الغلط . ولكنه على النقيض من ذلك استخدم إلى مدى بعيد فكرة السبب غير المشروع ، فقد أعطته المادة 1133 وسيلة من وسائل الصنعة الفنية لتقرير جزاء للقاعدة التي اشتملت عليها المادة السادسة من القانون المدني الفرنسي ” .

( [27] ) وكان من الحير أن تصاغ المادة 136 على الوجه الآتي : ” إذا التزم المتعاقد لسبب غير مشروع ، كان العقد باطلا ” .

( [28] ) قارن الدكتور أبو عافية في التصرف المجرد فقرة 54 ص 199 هامش رقم 9 .

( [29] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 192 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي : ط 1 – يفترض في كل التزام أن له سبباً مشروعاً ، ولو لم يذكر هذا السبب في العقد ، ما لم يقم الدليل على غير ذلك . 2 – ويعتبر السبب المذكور في العقد هو السبب الحقيقي حتى يقوم الدليل على ما يخالف ذلك . 3 – فإذا قام الدليل على صورية السبب أو على عدم مشروعيته فعلى من يدعى أن للالتزام سبباً آخر مشروعاً أن يثبت ما يدعيه ” . وقد اقترح في لجنة المراجعة إدماج الفقرتين الثانية والثالثة في فقرة واحدة وحذف عبارة ” أو على عدم مشروعيته ” من الفقرة الثالثة لأنها تنص على حالة من حالات صورية السبب ، واقترح أحد الأعضاء إدخال تعديل لفظي على الفقرة الأولى ، فوافقت اللجنة على هذه الاقتراحات ، وأصبح نص المادة النهائي ( م 141 ) مطابقا للنص الوارد في القانون الجديد . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل . وفي لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ اقترح حذف العبارة الأخيرة من الفقرة الثانية وهي : ” فإذا قام الدليل على صورية السبب فعلى من يدعى أن للالتزام سبباً آخر مشروعاً أن يثبت ما يدعيه ” ، لأن هذه العبارة ليست إلا تطبيقاً للقواعد العامة في الإثبات ، ولكن اللجنة انتهت آخر الأمر إلى إقرار بقائها . وأصبح رقم المادة 137 . ووافق مجلس الشيوخ عليها دون تعديل ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 229 – ص 232 ) .

( [30] ) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 227 .

( [31] ) سواء ذكر في السند المكتوب الذي يثبت العقد أو ذكر عند التعاقد ذاته . وغنى عن البيان أن السبب الذي يذكر في العقد هو الباعث الدافع إلى التعاقد ، وإن كان الباعث قل أن يذكر في العقد . ويبدو أن نص المادة 137 من القانون الجديد أكثر مسايرة للسبب بمعناه في النظرية التقليدية ، لاسيما عندنا تتحدث المذكرة الإيضاحية عن عبء إثبات عدم وجود السبب ، ولكن لا شيء يمنع من أن يذكر السبب بمعنى الباعث في العقد ، وعندئذ يعتبر هذا السبب المذكور هو السبب الحقيقي حتى يقوم الدليل على صورية السبب أو على عدم مشروعيته .

( [32] ) نقض مدني في 7 ديسمبر سنة 1933 مجموعة عمر 1 رقم 151 ص 284 – وفي 11 يناير سنة 1945 مجموعة عمر 4 رقم 182 ص 517 – استئناف وطني في 18 مارس سنة 1914 المجموعة الرسمية 15 رقم 82 ص 161 – محكمة استئناف مصر في 13 مايو سنة 1943 المحاماة 26 رقم 49 ص 105 .
وهناك فرق بين عقد غير مذكور سببه وعقد مجرد : الأول إذا اثبت المدين أن له سبباً غير مشروع يكون باطلا كما رأينا ، أما الثاني فلا يبطل ولكن يدفع بدعوى الإثراء بلا سبب فيتخلص منه المدين إذا كان لم يوفه أو يسترده إذا كان قد وفاه . وقد تقدم ذكر ذلك في التصرف المجرد .

( [33] ) دى هلتس 3 ص 117 فقرة 14 – هالتون 1 ص 241 – والتون 1 ص 102 – عبد السلام ذهني بك فقرة 173 – نظرية العقد للمؤلف فقرة 549 – الدكتور حلمي بهجت بدوي فقرة 106 – الدكتور حشمت أبو ستيت فقرة 244 .

( [34] ) استئناف مختلط في 10 مارس سنة 1897 م ) ص 190 – وفي 2 فبراير 1911 م 23 ص 151 – وفي 26 فبراير سنة 1930 م 42 ص 324 – وفي 13 مايو سنة 1931 – م 43 ص 390 – وفي أول ابريل سنة 1943 م 55 ص 116 – وفي 19 يونية سنة 1945 م 57 ص 183 .

( [35] ) ومن ذلك نرى أن السبب إذا لم يذكر في العقد فهو مفروض ، وعلى المدين إثبات العكس . أما إذا ذكر واثبت المدين صوريته فإن عبء الإثبات السبب الحقيقي ينتقل إلى الدائن ( نقض مدني في 3 نوفمبر سنة 1932 مجموعة عمر 1 رقم 67 ص 138 – وفي 28 مايو سنة 1942 مجموعة عمر 3 رقم 165 ص 469 ) . وانظر في أحكام القضاء المصري هذه المسألة نظرية العقد للمؤلف ص 579 هامش رقم 2 .
وقد قضت محكمة النقض بأنه إذا اقر الدائن بعدم صحة السبب الوارد في سند الدين وذكر سبباً آخر مشروعاً على أنه السبب الحقيقي ، كان إقراره هذا غير قابل للتجزئة ، وكان الالتزام قائماً وصحيحاً ما لم يثبت المدين أن هذا السبب الأخير غير صحيح ( 15 ابريل سنة 1937 مجموعة عمر 2 رقم 52 ص 150 – وفي هذا المعنى استئناف مختلط في 22 مارس سنة 1933 م 45 ص 209 ) .

( [36] ) وقد قضت محكمة النقض بان عقد القرض يجوز إثبات صورية سببه بالأوراق الصادرة من المتمسك به ، فإذا كانت سندات الدين مذكوراً فيها أن قيمتها دفعت نقداً ، ثم أتضح من الرسائل الصادرة من مدعية الدين إلى مدينها في مناسبات وظروف مختلفة قبل تواريخ السندات وبعدها إنها كانت تستجدي المدين وتشكر له احسانه وتبرعه لها ، فهذه الرسائل يجوز اعتبارها دليلا كتابياً كافياً في نفي وجود قرض حقيقي ( 10 نوفمبر سنة 1932 مجموعة عمر 1 رقم 67 ص 138 – ويلاحظ أن السبب هنا مفهوم بالمعنى المعروف في النظرية التقليدية ، ويغني عنه ركن التراضي على عقد القرض ، فيكون عقد القرض ذاته في هذه القضية هو العقد الصوري ، ولا محل للكلام في صورية السبب ، إلا إذا اتخذت طبيعية العقد قرينة على سببه ، وهذا ما يقع غالباً ) .

( [37] ) استئناف مصر الوطنية في 14 ديسمبر سنة 1922 المجموعة الرسمية 25 رقم 34 / 1 – وفي 12 مارس سنة 1930 المجموعة الرسمية 31 رقم 126 ص 324 – وفي 23 يناير سنة 1932 المحاماة 12 رقم 24 ص 69 – استئناف مختلط في 7 يونية سنة 1917 م 29 ص 489 – وفي 22 يناير سنة 1919 م 31 ص 136 – وفي 31 مايو سنة 1923 م 35 ص 483 – وفي 20 ديسمبر سنة 1923 م 36 ص 104 – هذا وإذا تبين أن سبب السند هو الربا الفاحش فللمدين إثبات ذلك بجميع الطرق لأن السبب غير مشروع ( استئناف مصر الوطنية في 12 مارس سنة 1930 المجموعة الرسمية 31 رقم 126 ص 324 – استئناف مختلط في 25 نوفمبر سنة 1896 م 9 ص 37 – وفي 22 ديسمبر سنة 1897 م 10 ص 48 ) . على أن مجرد الادعاء بوجود الربا الفاحش لا يكفي للترخيص في إثباته، إذ أنه لا يجوز قبول الإثبات بالبينة على ما يخالف المكتوب ما لم تدل الوقائع الثابتة في الدعوى على أن هناك قرائن قوية على وجود الربا الفاحش ( استئناف وطني في 2 ابريل سنة 1913 المجموعة الرسمية 14 رقم 89 – وفي 29 مارس سنة 1917 المجموعة الرسمية 18 رقم 69 – استئناف مختلط في 3 ديسمبر 1930 جازيت 22 رقم 310 ص 263 – وفي 4 مارس سنة 1931 جازيت 22 رقم 307 ص 263 ) . فإذا نبت أن هناك فوائد ربوية ، فعلى الدائن أن يثبت كم كان المقدار المقترض ، فإذا لم يثبت ذلك فإن المحكمة تقبل اعتراف المدين ( استئناف مختلط في ) ديسمبر سنة 1930 جازيت 22 رقم 307 ص 263 وهو الحكم الذي سبقت الإشارة إليه ) .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *