دراسه حول عقد القرض- الدخل الدائم – تحليل قانوني

دراسه حول عقد القرض – الدخل الدائم – تحليل قانوني 

 

التعريف بعقد القرض وخصائصه – نص قانوني :
تنص المادة 538 من التقنين المدني على ما يأتي
” القرض عقد يلتزم به المقرض أن ينقل إلى المقترض ملكية مبلغ من النقود أو أي شيء مثلي آخر ، على أن يرد إليه المقترض عند نهاية القرض شيئاً مثله في مقداره ونوعه وصفته ” ( [2] ) .
ويقابل هذا النص في التقنين المدني السابق المادة 465 / 566 ( [3] ) .
ويقابل في التقنينات المدنية العربية الأخرى : في التقنين المدني السوري م 506 – وفي التقنين المدني الليبي م 537 – وفي التقنين المدني العراقي م 684 – وفي تقنين الموجبات والعقود اللبناني م 754 – 755 ([4]).

ويخلص من النص المتقدم الذكر أن عقد القرض محله يكون دائماً شيئاً مثلياً وهو في الغالب نقود . فينقل المقرض إلى المقترض ملكية الشيء المقترض ، على أن يسترده منه مثله في نهاية القرض ، وذلك دون مقابل أو بمقابل هو الفائدة . وسيأتي بيان ذلك عند الكلام في محل القرض .
ونقف الآن من عقد القرض عند الخصائص الآتية ، وهي خصائص يمكن استخلاصها من التعريف السالف الذكر : ( 1 ) عقد القرض عقد رضائي ( 2 ) وهو عقد ملزم للجانبين ( 3 ) وهو في الأصل عقد تبرع وقد يكون عقد معاوضة .

القرض عقد رضائي :
يظهر من تعريف الفرض كما أوردته المادة 538 مدني أن الفرض يتم بمجرد تلاقي الإيجاب والقبول ، أما نقل ملكية الشيء المقترض وتسليمه إلى المقترض فهذا التزام ينشئنه عقد القرض في ذمة المقرض ،وليس ركناً في العقد ذاته ( [5] ) .
ولم يكن الأمر كذلك في التقنين المدني السابق ، إذ كان القرض في هذا التقنين عقداً عينياً لا يتم إلا بتسليم الشيء المقترض إلى المقترض ونقل ملكيته إليه ( م 465 / 566 مدني سابق ) وكان التقنين المدني السابق يسير في ذلك على غرار التقنين المدني الفرنسي ، وكلا التقنين ورث عينية عقد القرض عن القانون الروماني دون مبرر . فقد كانت هذه العينية مفهومة في القانون الروماني حيث كنت العقود في الأصل شكلية ، ثم استغنى عن الشكل بالتسليم في العقود العينية ومنها الفرض ولم يسلم القانون الروماني بان التراضي وحده كاف لانعقاد العقد إلا في عدد محصور من سمى بالعقود الرضائية . أما اليوم فقد أصبحت القاعدة أن التراضي كاف لانعقاد العقد ، فلم يعد هناك مقتض لإحلال التسليم محل الشكل ، إذ لم نعد في حاجة لا إلى الشكل ولا إلى التسليم . وهذا هو اتجاه التقنينات الحديثة ، فإن تقنين الالتزامات السويسري ( م 321 و م 329 ) جعل القرض عقداً رضائياً ، وعلى نهجه سار التقنين المدني المصري الجديد ( [6] ) .
وعينية عقد القرض في القانون الفرنسي ينتقدها الفقه بحق ، إذ هي كما قدمنا ليست إلا أثراً من آثار تقاليد القانون الروماني بقى بعد أن زال مبرره . وكان بوتييه يقيمها على أساس أن المقترض لا ينبغي أن يلتزم برد مثل الشيء المقترض إلا بعد أن يقبض الشيء ( [7] ) .ويمكن الرد على ذلك بأنه لا يوجد ما يمنع من أن يتم عقد القرض قبل أن يتولد في ذمة المقترض التزام برد المثل ،ثم يتولد هذا الالتزام بعد أن ينفذ المقرض التزامه بإعطاء الشيء إلى المقترض وهذا هو الذي يحدث في عقد الإيجار ، فإن المستأجر لا يلتزم برد العين المؤجرة إلا بعد أن ينفذ المؤجر التزامه بتسليمها إياه ، ومع ذلك يتم عقد الإيجار قبل هذا التسليم إذ هو عقد رضائي دون شك([8]).
على أنه لا توجد أهمية عملية من القول بأن القرض عقد عيني لا يتم إلا بالتسليم ، ما دامت الرضائية هي الأصل في التعاقد . ففي القانون الفرنسي يمكن أن يحل محل القرض العيني وعد بالقرض رضائي ينتهي إلى ذات النتيجة التي ينتهي إليها القرض العيني . وما على المتعاقدين إلا أن يتعاقدا على وعد بالقرض ، فيعد أحدهما الآخر أن يقرضه شيئاً . ويتم الوعد في هذه الحالة بمجرد التراضي ، لأن الأصل في التعاقد الرضائية كما قدمنا . وعند ذلك يستطيع الموعود له أن يجبر الواعد على تنفيذ وعده ، فيتسلم منه الشيء الموعود بقرضه ، فتصل بذلك عن طريق الوعد بالقرض إلى القرض الكامل ( [9] ) .

 

القرض عقد ملزم للجانبين :
والقرض ينشيء التزامات متقابلة في جانب كل من المقرض والمقترض ، فهو إذن عقد ملزم للجانبين . والالتزامات التي ينشئها في جانب المقرض هي أن ينقل ملكية الشيء المقترض ويسلمه إياه ، ولا يسترده منه إلا عند نهاية القرض ، ويضمن الاستحقاق والعيوب الخفية أما الالتزامات التي ينشئها في جانب المقترض فهي أن يرد المثل عند نهاية القرض وأن يدفع المصروفات ، وقد يدفع الفوائد مقابلاً للقرض . وسيأتي تفصيل كل ذلك .
وليس القرض عقداً ملزماً للجانبين منذ أصبح عقداً رضائياً فحسب ، بل هو في نظرنا كان ملزماً للجانبين حتى لما كان عقداً عينياً في التقنين المدني السابق . ذلك أن القرض وهو عقد عيني كان ينشئ التزاماً في ذمة المقرض ، لا بالتسليم فإن هذا كان ركناً لا التزاماً ، بل بالامتناع عن استرداد المثل قبل نهاية القرض .يؤكد ذلك ما ورد في الفقرة الأولي من المادة 539 مدني من أنه ” يجب على المقرض أن يسلم الشيء موضوع العقد إلى المقترض ، ولا يجوز له أن يطالبه برد المثل إلا عند الانتهاء القرض ” . فالالتزام بتسليم الشيء إلى المقترض كان في التقنين المدني السابق ركناً لا التزاماً كما سبق القول ، أما الالتزام بالامتناع عن المطالبة يرد المثل إلا عند انتهاء القرض ، فهذا الالتزام قائم في ذمة المقرض سواء كان القرض عقداً رضائياً أو عقد عينياً .ويتبين من ذلك أن القرض ، عندما كان عقداً عينياً ،كان ينشئ التزاماً في جانب المقرض ، وقد يكون من الالتزامات المقابلة له في جانب المقترض التزام بدفع فوائد مشترطة في العقد . فإذا أخل المقترض بالتزامه من دفع الفوائد ، جاز للمقرض فسخ القرض واسترداد ما أقرض . وهذا التحليل يفسر ما انعقد عليه الإجماع من أن قاعدة الفسخ تسري على عقد القرض ، فلا تكون في حاجة إلى القول مع بعض الفقهاء أن قاعدة الفسخ تسري على العقود الملزمة لجانب وأحد كما تسري على العقود الملزمة للجانبين ، ولا إلى مسايرة فقهاء آخرين في تسمية الفسخ في عقد القرض بالإقساط ( decheance ) ، بل يبقى الفسخ على طبيعته مقصوراً على العقود الملزمة للجانبين ومنها عقد القرض حتى لو كان عقداً عينياً . ونرى أن هذا التحليل لا يزال ضرورياً حتى بعد أن أصبح التسليم في عقد القرض التزاماً لا ركناً وأصبح القرض عقداً رضائياً ، وذلك أن المقرض إذا فسخ العقد في حالة إخلال المقترض بالتزامه من دفع الفوائد ، فإن المقرض لا يتحلل بذلك من الالتزامات بالتسليم ، بل من الالتزام بالامتناع عن المطالبة بالاسترداد إلى نهاية القرض ( [10] ) .

 

القرض عقد تبرع في الأصل :
والأصل في عقد القرض أن يكون تبرعاً ، إذ المقرض يخرج عن ملكية الشيء إلى المقترض ولا يسترد المثل إلا بعد مدة الزمن ، وذلك دون مقابل ، فهو متبرع . على أنه إذا اشترط على المقترض دفع فوائد معينة في مقابل ، فهو متبرع . على أنه إذا اشترط على المقترض دفع فوائد معينة في مقابل القرض ، أصبح القرض عقد معاوضة .ولكن الفوائد لا تجب إلا إذا اشترطت ، إذ الأصل في القرض كما قدمنا أن يكون عقد تبرع . وتقول المادة 542 في هذا المعنى : ” على المقترض أن يدفع الفوائد المتفق عليها عند حلول مواعيد استحقاقها ، فإذا لم يكن هناك اتفاق على الفوائد اعتبر القرض بغير أجر “.

 

تمييز القرض عن بعض ما يلتبس به من العقود :
والقرض يتميز تميزاً واضحاً عن بعض العقود ، فلا يلتبس بها . من ذلك عقد الهبة ، فالقرض نقل ملكية الشيء على أن يسترده مثله ، أما الهبة فنقل ملكية الشيء على إلا يسترده هو ولا مثله . وإنما يشترك القرض بغير فائدة مع الهبة في أن كلا منهما عقد تبرع . ومن ذلك عقد الإيجار ، فالقرض ينقل ملكية الشيء ، أما الإيجار ،فلا ينقل الملكية وإنما يلتزم المؤجر بتمكين المستأجر من الانتفاع بالشيء على أن يرده بعينه في نهاية الإيجار ، لا أن يرد مثله كما في القرض . وإنما يتشابه القرض بالفائدة والإيجار من الناحية الاقتصادية في أن صاحب المال في الحالتين يجعل الغير ينتفع بماله في تظهير مقابل ،ومن هنا سمى المقرض بمؤجر النقود ( bailleur de fonds )أو المانح(ت-مصطفى) .
ولكن القرض قد يتلبس بعقود أخرى ، نذكر منها بوجه خاص البيع والشركة والوديعة والعارية .

 

تمييز القرض عن البيع :
وفي أكثر الأحوال يتميز القرض في وضوح عن عقد البيع ، فالبيع نقل ملكية المبيع في مقابل ثمن من النقود ، أما القرض فنقل ملكية الشيء المقترض على أن يسترد مثله بفوائد أو بدون فوائد . على أنه قد يدق في بعض الأحوال التمييز بين العقدين ، ونذكر من ذلك ما يأتي .
1 – عندما كان بيع الوفاء جائزاً – كما كان الأمر في التقنين المدني السابق – كان كثيراً ما يلتبس بالقرض ، بل كان كثيراً ما يخفي القرض ، ومن أجل ذلك حرمه التقنين المدني الجديد . فقد كان المقرض يأخذ من المقترض العين ويسمي العقد بيع وفاء ، ويعطيه مبلغاً من النقود هو في حقيقة قرض ولكن المتعاقدين يسميانه ثمناً . فإذا لم يرد المقترض النقود في الميعاد المحدد ، أصبح المقرض مالكاً للعين ملكية باتة . ولو سميت الأشياء بأسمائها الصحيحة ، لكانت العين رهناً ، ولما أمكن المقرض أن يتملكها ، بل وجب عليه بيعها في المزاد لاستيفاء القرض ( [11] ) .
2 – ولا يزال هناك ، حتى في التقنين المدني الجديد ، نوع من الاتفاقات هو شرط التملك عند الوفاء ، بمقتضاه يقبل المقترض إذا لم يف القرض في الميعاد ، أن يتملك المقرض العين المرهونة في نظير القرض ، فينقلب القرض بيعاً . والفرق بين هذه الصورة والصورة السابقة ، أن العقد في الصورة السابقة يبدأ بيعاً ويبقى بيعاً ، أما في الصورة التي نحن بصددها فيبدأ العقد قرضاً ثم يتحول بيعاً . وشرط التملك عند الوفاء باطل ، وقد نصت الفقرة الأولي من المادة 1052 مدني في هذا المعنى على أنه ” يقع باطلاً كل اتفاق يجعل للدائن الحق عند عدم استيفاء الدين وقت حلول أجله في أن يتملك العقار المرهون في نظير ثمن معلوم أيا كان … ” ( [12] ) .
3 – وهناك ما يسمى ببيع العينة ، وحقيقته قرض . وصورته أن يبيع المقترض متاعاً للمقرض بثمن معجل يقبضه منه وهذا هو القرض ، ثم يعيد المقرض بيع نفس المتاع من المقترض بثمن مؤجل أعلى من الثمن المعجل الذي دفعه . مثل ذلك أن يبيع شخص ساعة من آخر بثمن معجل هو عشرون مثلاً . فإذا قبض البائع العشرين ، عاد فاشترى الساعة ذاتها ممن اشتراها منه بخمس وعشرين مؤجلة . فتعود إليه الساعة وينتهي الأمر إلى أنه قبض عشرين معجلة سماها ثمن الساعة ، والتزم بخمس وعشرين مؤجلة ، و الفرق فوائد ويغلب أن تكون فوائد فاحشة سترها عقد البيع ( [13] ) .

 

تمييز القرض عن الشركة :
ويتميز القرض عن الشركة تمييزاً واضحاً في اكثر الأحوال . فالمقرض يسترد المثل من المقترض ، ولا شأن له بما إذا كان المقترض قد ربح أو خسر من استغلاله للقرض . أما الشريك فلا يسترد حصته من الشركة بعد انقضائها إلا بعد أن يساهم في الربح أو في الخسارة . وقد قدمنا أن هذه المساهمة في الربح وفي الخسارة هي التي تميز الشركة عن القرض .
ويدق التمييز . كما رأينا عند الكلام في الشركة ( [14] ) ، إذا قدم شخص مالا لآخر ، واشترط عليه أن يسترد مثله وان يساهم في الربح دون الخسارة . فمن رأي أن هذه شركة رآها شركة باطلة ، إذ هي شركة الأسد ( [15] ) . ومن رأي أن هذا قرض اعتبر أن من قدم المال قد أقرضه للآخر ، واشترط فائدة للقرض هي نسبة معينة من الربح ، وتكون الفائدة هنا أمراً احتمالية قد يتحقق إذا تحقق ربح وقد لا يتحقق إذا انعدم الربح وينبني على ذلك أنه إذا تحقق ربح وزاد نصيب المقرض فيه على الفائدة المسموح بها قانوناً ، أنزل النصيب إلى الحد القانوني . وينبني على ذلك أيضاً أن المقرض لا يشترك غالباً في إدارة العمل الذي قدم المال من أجله ولا تكون له رقابة عليه إذ ليس بشريك ( [16] ) . ويتوقف الأمر على نية الطرفين ، فإن نيتهما إلى المشاركة في العمل ، اعتبر من قدم المال شريكاً اشترط عدم المساهمة في الخسارة فتكون الشركة باطلة ،وإلا كان العقد قرضاً على النحو الذي أسلفناه ( [17] ) .
وقد تتفق جماعة على أن يقدم كل منهم مبلغاً من النقود ، على أن يأخذ كل منهم بدوره مجموع هذه المبالغ مدة عام مثلاً ،ويردها ليأخذها غيره ، فينتفع كل منهم بمجموع هذه المبالغ مدة معينة . وهذا ما يسمى بقرض الائتمان المؤجل ( prêt a crédit différé ) ( [18] ) . فهذا عقد ظاهره شركة تختلط بالقرض ، ومع ذلك فقد قضت محكمة الاستئناف المختلطة بأن اتفاق مستخدمي متجر على أن يودعوا ما يقتصدونه عند أحدهم ليستثمره لمصلحتهم ، وعند الاقتضاء يقدم منه شيئاً إلى من كان في حاجة إلى ذلك ، لا يعتبر عقد الشركة ، بل هو عقد غير مسمى يدور بين الوكالة والوديعة الناقصة ، فلا يجوز الحكم بالحل والتصفية ( [19] ) . ولا يجوز لمستخدم منهم خرج من الخدمة أن يطالب بحل الهيئة وتصفيتها ، بل كل ما يستطيع هو أن يطالب بقيمة حصته وقت خروجه ( [20] ) .

 

تمييز القرض عن الوديعة :
ويتميز القرض عن الوديعة في أن القرض ينقل ملكية الشيء المقترض إلى المقترض على أن يرد مثله في نهاية القرض إلى المقرض ، أما الوديعة فلا تنقل ملكية الشيء المودع إلى المودع عنده بل يبقى ملك المودع ويسترده بالذات . هذا إلى أن المقترض ينتفع بمبلغ القرض بعد أن أصبح مالكاً له ، أما المودع عنده فلا ينتفع بمبلغ القرض بعد أن أصبح مالكاً له ، أما المودع عنده فلا ينتفع بالشيء المودع بل يلتزم بحفظه حتى يرده إلى صاحبه .
ومع ذلك فقد يودع شخص عند آخر مبلغاً من النقود أو شيئاً آخر ومع ذلك فقد يودع شخص عند آخر مبلغاً من النقود أو شيئاً آخر مما يلك بالاستعمال ، ويأذن له في استعماله ، وهذا ما يسمى بالوديعة الناقصة ( dépôt irrégulier ) وقد حسم التقنين المدني الجديد الخلاف في طبيعة الوديعة الناقصة ، فكيفها بأنها قرض . وتقول المادة 726 مدني في هذا المعنى : ” إذا كانت الوديعة مبلغاً من النقود أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال ، وكان المودع عنده مأذوناً له في استعماله ، اعتبر العقد قرضاً ” .
أما في فرنسا فالفقه مختلف في تكييف الوديعة الناقصة . والرأي الغالب هو الرجوع إلى نية المتعاقدين . فإن كان صاحب النقود قصد أن يتخلص من عناء حفظها بإيداعها عند الآخر ، فالعقد وديعة . أما أن قصد الطرفان منفعة من تسلم النقود عن طريق استعمالها لمصلحته ، فالعقد قرض . ويكون العقد قرضاً بوجه خاص إذا كان تسلم النقود مصروفاً ( [21] ) .

 

تمييز القرض عن العارية :
وقد درج كثير من التقنينات – منها التقنين الفرنسي والتقنين المصري السابق – على جمع القرض والعارية في مكان وأحد وتسمية العقدين بالعارية ، وللتمييز بينهما يسمى القرض عارية استهلاك ( prêt de consommation ) والعارية عارية استعمال ( prêt a usage ) .
والفرق ما بين العقدين فرق جوهري .ففي القرض ينقل المقرض ملكية شيء مثلي على أن يسترد المثل عند نهاية القرض ، ومن ثم كان القرض من العقود التي ترد على الملكية . أما العارية ، فالمعير لا ينقل ملكية العين المعارة إلى المستعير ، بل يقتصر على تسليمها إياه لينتفع بها على أن يردها بذاتها عند نهاية العارية ، ومن ثم كانت العارية ،ومن ثم كانت العارية من العقود التي ترد على الانتفاع بالشيء . ومن أجل ذلك فرق التقنين المدني الجديد ما بين العقدين ، فوضع القرض بين العقود التي ترد على الملكية ، والعارية بين العقود التي ترد على الانتفاع بالشيء .
والذي يميز القرض عن العارية أن محل القرض يجب أن يكون شيئاً مثلياً ، لأن المقترض يلتزم برد مثله ( م 538 مدني سالفة الذكر ) . أما محل العارية فيجب أن يكون شيئاً قيمياً لا مثلياً ، لأن المستعير يرده بعينه لا بمثله . ومع ذلك فقد عرفت المادة 635 مدني العارية بأنها ” عقد يلتزم به المعير أن يسلم المستعير شيئاً غير قابل للاستهلاك ليستعمله بلا عوض لمدة معينة أو في غرض معين ، على أن يرده بعد الاستعمال ، ما دام هذا الشيء مثلياًِ . مثل ذلك أن تقترض مكتبة من أخرى نسخة من كتاب لتبيعها إلى عميل ، على أن ترد مثلها إلى المكتبة التي أقرضتها النسخة . وقد يعير شخص آخر شيئاً قابلاً للاستهلاك ، ما دام هذا الشيء قد اعتبر لذاته فأصبح قيمياً على هذا النحو .مثل ذلك أن يعير شخص صرافاً مبلغاً من النقود يعوض به عجزاً عنده ، على أن يرد الصراف هذا المبلغ بذاته إلى المعير بعد انتهاء التفتيش .ومثل ذلك أيضاً أن يعير شخص صيرفياً قطعاً من النقود يضعها في ” الفترينة ” على أن يردها بذاتها ( [22] ) .( prêt adpompam et ostentation ) .

 

التنظيم التشريعي للقرض والدخل الدائم :
كان التقنين المدني السابق يجمع ، كما قدمنا ، بين القرضين والعارية في باب وأحد ،وكان يضم إلى كل من المقرض والعارية في نفس الباب الدخل الدائم والإيرادات المرتبة مدى الحياة . ولما كانت الصلة مفقودة بين هذه العقود المتنافرة في طبيعتها ، فقد فصل بينها التقنين المدني الجديد ،وجعل القرض والدخل الدائم وهما من طبيعة واحدة في فصل وأحد بين العقود الواردة على الانتفاع بالشيء وخصص للإيراد المرتب مدى الحياة فصلاً مستقلاً بين عقود الغرر : ” يجمع التقنين الحالي ( السابق ) ما بين عاريتي الاستعمال والاستهلاك والدخل الدائم والدخل المرتب مدى الحياة في باب وأحد والصلة ما بين هذه العقود أقرب إلى أن تكون لفظية ، وإلا فإن طبيعة كل عقد تتنافر مع طبيعة العقد الآخر فعارية الاستعمال ترد على المنفعة ، أما العارية الاستهلاك فترد على الملكية . وإذا كان الدخل الدائم عقداً محدداً ، فإن الدخل المرتب مدى الحياة عقد احتمالي . والأولي أن يجمع عارية الاستهلاك والدخل الدائم في مكان وأحد فكلاهما قرض ، وان توضع عارية الاستعمال مكانها بين العقود التي ترد على المنفعة ، والدخل المرتب مدى الحياة مكانه بين العقود الاحتمالية . وهذا ما فعل المشروع ” ( [23] ) .
وقد ترتب التقنين المدني الجديد عقد القرض ترتيباً منطقياً لا نجده في التقنين المدني السابق ، فذكر أولا التزامات المقرض ، وهي إلى جانب نقل الملكية تسليم الشيء وضمان الاستحقاق وضمان العيب ، وهذه هي الالتزامات التي تنشئها عادة العقود الناقلة للملكية ، رأيناها قبل ذلك في البيع والمقايضة والهبة والشركة . ثم ذكر بعد ذلك التزامات المقترض ، وهي رد المثل ودفع الفوائد أن وجدت . وذكر أخيراً الوجوه التي ينتهي بها القرض ( [24] ) .
أما الدخل الدائم ، فقد أوجز فيه التقنين المدني السابق إيجازاً مخلا فعالج التقنين المدني الجديد هذا العيب ، إذ عرف العقد ، وبين أحكامه وأفاض بوجه خاص في أحكام الاستبدال به والاستبدال خصيصة رئيسية فيه ([25])

 

أهم الفروق بين التقنين الجديد والتقنين السابق في عقد القرض :
وقد أوردت المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي أهم الفروق بين التقنين الجديد والتقنين السابق في عقد القرض فيما يأتي :
1 – جعل التقنين الجديد القرض عقداً رضائياً ، وكان عينياً في التقنين السابق .
2 – بين التقنين الجديد في وضوح أن القرض عقد ملزم للجانبين فهناك التزامات في ذمة المقترض تقابلها التزامات أخرى في ذمة المقترض .
3 – نقل التقنين الجديد أحكام الفوائد إلى الأحكام العامة في نظرية الالتزام
4 – أغفل التقنين الجديد نصاً أورده التقنين السابق خاصاً برد القيمة العددية للنقد أياً كان اختلاف أسعار المسكوكات ، اكتفاء بالنص العام ( م 134 مدني) الوارد في هذا الشأن .
5 – بين التقنين الجديد أسباب انقضاء القرض بياناً وافياً . وجدت في مسألة هامة ، إذ أجاز انتهاء القرض بفائدة متى انقضت ستة أشهر على القرض وأعلن المدين رغبته في إلغاء العقد ورد ما اقترض ، على أنه يلزم المدين بأداء الفوائد المستحقة عن ستة الأشهر التالية للإعلان ( [26] ) .

 

———————————————————————————–

( [1] ) مراجع : جيوار في عقد القرض – أوبرى ورو وإسمان الطبعة السادسة جزء 6 – بودري وفال الطبعة الثالثة جزء 23 – بلانيول وريبير وسافاتييه الطبعة الثانية جزء 1 1 – دي باج ودكرز ( Dekkers ) جزء 5 – بلانيول وريبير وبولانجيه الطبعة الثالثة جزء 2 – كولان وكابيتان ودي لامور انديير الطبعة العاشرة جزء 2 – جوسران الطبعة الثانية جزء 2 انسيكلوبيدي داللوز 4 لفظ prêt الأستاذ محمد كامل مرسي في العقود المسماة جزء 2 – الأستاذ محمود جمال الدين زكي في العقود المسماة سنة 1953 .
( [2] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 722 عن المشروع التمهيدي على وجه مطابق لما استقر عليه في التقنين المدني الجديد . وأقرته لجنة المراجعة تحت رقم 566 من المشروع النهائي . ووافق عليه مجلس النواب ، فمجلس الشيوخ تحت رقم 538 ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 4 ص 409 – ص 240 ) .
( [3] ) التقنين المدني السابق م 465 / 566 : والعارية بالاستهلاك هي أن المعير ينقل إلى المستعير ملكية شيء يلتزم المستعير بتعويضه بشيء آخر من عين نوعه ومقداره وصفته بعد الميعاد المتفق عليه .
( والتقنين المدني السابق كان يعتبر القرض عقداً عينياً لا يتم إلا بالتسليم ، أما التقنين المدين الجديد فيعتبره عقداً رضائياً يتم بمجرد توافق الإيجاب والقبول . والعبرة بتاريخ تكوين العقد ، فإن كان ذلك قبل 15 أكتوبر سنة 1949 فلا يتم القرض إلا بالتسليم ، وإلا تم بمجرد توافق الإيجاب والقبول . على أن العقد الذي لم يتم التسليم فيه قبل 15 أكتوبر سنة 1949 يمكن اعتباره وعداً بقرض يجبر الواعد على تنفيذه بتسليم الشيء فيتم القرض ) .
( [4] ) التقنينات المدنية العربية الأخرى :
التقنين المدني السوري م 506 ( مطابق ) .
التقنين المدني الليبي م 537 ( مطابق ) .
التقنين المدني العراقي م 684 : القرض هو أن يدفع شخص لآخر عينا معلومة من الأعيان المثلية التي تستهلك بالانتفاع بها ليرد مثلها . ( والظاهر أن عقد القرض في التقنين العراقي عقد عيني : أنظر الأستاذ حسن الذنون فقرة 210 ) .
تقنين الموجبات والعقود اللبناني م 754 : قرض الاستهلاك عقد بمقتضاه يسلم أحد الفريقين الفريق الآخر نقوداً أو غيرها من المثليات ، بشرط أن يرد إليه المقترض في الأجل المتفق عليه مقداراً يماثلها نوعاً وصفة .
م 755 : ينعقد أيضاً قرض الاستهلاك إذا كان لدائن في ذمة شخص آخر على سبيل الوديعة أو غيرها مبلغ من النقود أو المثليات ، فأجاز لمديونه أن يبقى لديه تلك النقود أو الأشياء على الأقراض . ( والظاهر أن التقنين اللبناني يجعل القرض عقداً عينيا لا يتم إلا بالتسليم ، ويعتد بالتسليم الحكيم فيما إذا كان الشيء المقترض عند المقترض قبل القرض على سبيل الوديعة أو غيرها ويستبقيه المقترض بعقد القرض ) .
( [5] ) أنظر المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في مجموعة الأعمال التحضيرية ج 4 ص 410 .
( [6] ) أنظر الوسيط للمؤلف 1 فقرة 49 .
( [7] ) بوبتييه في الالتزام فقرة 6 – وانظر أيضاً جيوار فقةر 8 – فقرة ) .
( [8] ) بودري وفال 23 فقرة 596 وفقرة 701 .
( [9] ) أنظر في تفصيل ذلك نظرية العقد للمؤلف فقرة 122 – فقرة 123 – الأستاذ محمود جمال الدين زكي في العقود المسماة ص 177 هامش 1 – بلانيول وريبير وسافاتييه 11 فقرة 1136 – وانظر في عهد التقنين المدني السابق حيث أن القرض عقداً عينياً وكان يمكن أن يسبقه وعد ملزم بالقرض : استئناف مختلط 8 مارس سنة 1891 م 6 ص 187 – وقارن استئناف مختلط 21 مارس سنة 1906 م 18 ص 159 .
( [10] ) أنظر في الاعتراض على رأينا هذا وفي الرد على الاعتراض الوسيط للمؤلف جزء أول ص 159 ص هامش رقم 1 .
( [11] ) ومحكمة الموضوع هي التي تستخلص نية المتعاقدين هل انصرفت إلى القرض لا إلى البيع ، وتستخلصها من ظروف القضية . وقد قضت محكمة النقض بأنه إذا كانت المحكمة حين قالت إن العقد المتنازع عليه عقد قرض لا بيع خلافاً لظاهره ، قد أقامت ذلك على نية طرفيه كانت منصرفة إلى القرض لا إلى البيع ، مستخلصة هذه النية من ورقة العقد التي عاصرت تحرير العقد ومن التحقيق الذي أجرى في الدعوى والقرائن الأخرى التي أوردتها استخلاصاً لم يرد عليه طعن الطاعن في حكمها ، فيتعين رفض هذا الطعن ( نقض مدني 3 ابريل سنة 1947 مجموعة عمر 5 رقم 180 ص 390 ) .
( [12] ) أنظر أيضاً بالنسبة إلى رهن الحيازة م 1108 مدني .
( [13] ) وهذا ما كان بوتييه يسميه Mohatra ، ويغلب أن يكون من بيع العينة في الفقه الإسلامي .
( [14] ) أنظر آنفاً فقرة 159 .
( [15] ) أنظر آنفاً فقرة 171 .
( [16] ) أنظر حكم محكمة استئناف مصر في 8 ابريل سنة 1943 المجموعة الرسمية 43 رقم 244 آنفاً فقرة 160 في الهامش .
( [17] ) بودري وفال 23 فقرة 693 – وانظر في الفروق بين الشركة والقرض بودري وفال 23 فقرة 695 بلانيول وريبير وسافاتييه 11 فقرة 1139 .
( [18] ) أنظر آنفاً فقرة 160 في الهامش – وانظر في القرض في فرنسا بلانيول وريبير وسافتييه 11 فقرة 1141 مكررة ثالثاً .
( [19] ) استئناف مختلط 22 مايو سنة 1920 م 32 ص 323 .
( [20] ) استئناف مختلط 8 ديسمبر سنة 1927 م 40 ص 73 .
( [21] ) أنظر في هذه المسألة بودري وفال 23 فقرة 1902 – فقرة 1097 .
( [22] ) أنظر بودري وفال 23 فقرة 601 – وإذا اعار شخص آخر أسهماً ينتفع بفوائدها على أن يرد الأسهم بالذات ، فالعقد عارية لا قرض ( استئناف مختلط 20 مايو سنة 1948 م 60 ص 124 ) – وأهم الفروق بين القرض والعارية – وهما الآن عقدان رضائيان ملزمان للجانبين في التقنين المدني الجديد – أن القرض عقد ناقل للملكية والعارية لا تنقل إلا حيازة عرضية ( ويستتبع ذلك نتائج هامة في تبعة الهلاك وفي حقوق المقرض أو المعير عند إعسار المقترض أو المستعير ) ، وأن القرض قد يكون تبرعاً أو معاوضة إذا كان بفائدة أما العارية فلا تكون إلا تبرعاً ، وأن للمعير على عكس المقرض أن يسترد العين المعارة قبل الوقت المحدد في العقد إذا عرضت له حاجة ماسة ( بودري وفال 23 فقرة 602 – الأستاذ محمد كامل مرسي في العقود المسماة 2 فقرة 225 ) .
( [23] ) مجموعة الأعمال التحضيرية ج 4 ص 407 .
( [24] ) المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في مجموعة الأعمال التحضيرية ج 4 ص 407 .
( [25] ) المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في مجموعة الأعمال التحضيرية ج 4 ص 407 .
( [26] ) أنظر في كل ذلك المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في مجموعة الأعمال التحضيرية ج 4 ص 407 – 408 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *