نشأة قانون الأحوال الشخصية في الفقة والقانون

نشأة قانون الأحوال الشخصية في الفقة والقانون

 

المحور الأول
المفهوم
اصطلح فقهاء القانون على تسمية ما يتعلق بقضايا النكاح والطلاق والوصية والميراث بالأحوال الشخصية، إذ كان المعهود عند العلماء السابقين وما تعلق بعرفهم العلمي تسمية القضايا المتعلقة بالأسرة بأسماء خاصة، وهي كتاب النكاح وكتاب الطلاق وكتاب الوصية وكتاب المواريث أو الفرائض، أو جعلها في إطار أبواب، وليست كتباً، كباب النكاح وباب الطلاق.. وهكذا.

والحقيقة أن هذا الاصطلاح ليس أصيلاً في الشريعة الإسلامية وإنما أدخل في العلوم الشرعية والقانونية اقتباساً من القوانين الوضعية، ولنا حول هذا المصطلح وقفة نجلي من خلالها الموقف الشرعي من استخدام المصطلحات الدخيلة على علوم الشرع قبولاً أو رفضاً.

الأصل الذي ننطلق منه في تقويم مصطلح الأحوال الشخصية هو: (لا مشّاحة في الاصطلاح)، وقوام هذه القاعدة أن استخدام المصطلحات الأصل فيه على الإباحة، فالمشاحة معناها التدافع والاختلاف، وبهذا يكون معنى القاعدة لا اختلاف في الاصطلاح، ولكن هذا بشرطين:

الأول: أن يكون الاصطلاح الجديد معبراً عن المضمون العلمي المقصود في العلم.

الثاني: ألا يكون مصادماً للشريعة، بحيث يعود عليها بالإبطال.

وبناء على هذا التأصيل يطرح التساؤل الآتي: هل مصطلح الأحوال الشخصية يمكن تبنيه للتعبير عن المضمون الشرعي للعلاقات الأسرية نكاحاً وطلاقاً ووصية وميراثاً؟ والذي يظهر لنا صلاحية المصطلح للتعبير عنها؛ وذلك لأمرين:

الأول: أنه اصطلاح لا يتعارض مع الشريعة وقواعدها ومقاصدها.

الثاني: أن هذا الاصطلاح أعطى المضمون الشرعي للعلاقات الأسرية معنى أكثر تحديداً وأدق مدلولاً.

وتأسيساً على ذلك يمكن اعتماد مصطلح الأحوال الشخصية لبناء الأحكام الأسرية؛ ليكون جامعاً لها، وطالما أننا في إطار التعريف العلمي للمصطلح يلزمنا بيان مفهومه؛ إذ الأصل أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولا يمكن إدراك المضمون على الوجه الأكمل إلا بالوقوف على المفهوم الجامع للصفات الأساسية، وقد عُرفت الأحوال الشخصية عدة تعريفات، والتعريف المختار هو:
((الأحوال الشخصية هي مجموعة ما يتميز به الإنسان من الصفات الطبيعية أو العائلية التي رتب عليها القانون أثراً قانونياً في حياته الاجتماعية))

ومن أمثلة ذلك: كون الإنسان ذكراً أو أنثى، وكونه زوجاً أو أرملاً أو مطلقاً أو أبا شرعياً، وكونه تام الأهلية أو ناقصها لصغر سن أو جنون، وكونه مطلق الأهلية أو مقيدها بسبب من الأسباب الشرعية والقانونية.

المحور الثاني
نظرة الإسلام إلى المرأة
لا يختلف اثنان في أن العهد الجاهلي الذي سبق النبوة كان أسوأ العهود في جانب العلاقات الأسرية، إذ كانت النظرة إلى المرأة لا تتجاوز كونها موضع شهوة الرجل، وأنها بمثابة المتاع يباع ويشترى، ويكفي في هذا التصوير القرآني لحالة المرأة في العصر الجاهلي، إذ يقول الله تعالى:﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [النحل: 58، 59] فهنا السياق يرسم صورة منكرة لعادات الجاهلية، بحيث يرزق الرجل الفتاة فيصيبه الهم والحزن والضيق، وهو كظيم يكظم غيضه وغمه، كأنها بلية من البلايا العظيمة ومصيبة من المصائب الكبيرة، بحيث يصل الأمر إلى أن يتوارى ويختفي عن أعين الناس خشية سؤاله عما رزق من الولد، فيترتب على ذلك التعيير والعيب، فيبقى متردداً في فعله، وليس له تجاه ذلك إلا أحد أمرين: إما الوأد أو الإمساك على هوان وذلك.

وقد لخصت لنا أمنا عائشة رضي الله عنها صورة العلاقة الأسرية بما يجلي لنا حجم الانحراف الذي أصاب العلاقات الأسرية في ذلك الوقت، فتقول: ” النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء، فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إن أحب وإنما يفعل رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها فتقول لهم قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت وهو ابنك يا فلان فتسمي من أحبت منهم باسمه فيلحق به ولدها، ونكاح رابع يجتمع الناس الكثير لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات يكن علماً لمن أرادهن دخل عليهن.. فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم هدم نكاح أهل الجاهلية إلا نكاح الإسلام اليوم “[معالم السنن، أبو سليمان الخطابي، ج3ص277].

لقد كانت نظرة الإسلام إلى المرأة تعد في حقيقة الأمر باصطلاح المعاصرين ثورة في التطورات والأوضاع، وفي المشاعر والضمائر، إذ كرم الله الإنسان واستتبع تكريمه للجنس البشري تكريمه للأنثى، ووصفها بأنها شطر النفس البشرية، فلا تفاضل بين الشطرين الكريمين على الله، وجعل للعلاقات الأسرية الجامعة للنوعين أحكاماً شرعية ضابطة لها، وقد امتازت هذه الأحكام بجملة من الخصائص والمميزات، أبرزها:

أولاً: أن التكليف بالأحكام الشرعية يشمل الرجل والمرأة إلا ما خص أحد النوعين بأحكام مغايرة لأحكام النوع الآخر كالنفقة بالنسبة للرجل والحيض بالنسبة للمرأة.

ثانياً: المساواة في الحقوق والواجبات، إلا ما خص أحدهما بواجبات مغايرة للآخر، وقد دل عليها قوله تعالى: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾ [البقرة: آية 228]، والدرجة في سياق الآية لها معنيان متداخلان، الأول متعلق بالطلاق كما يدل عليه السياق النصي وهو أن الرجل بيده العصمة في النكاح، وهو الذي يبقي المرأة في ذمته أو يطلقها، فالطلاق بيد الرجل وليس بيد المرأة وهو أمر يفرضه طبيعة الموقف الذي يضبط العلاقة بين الرجل والمرأة، والمعنى الثاني أن للرجل على المرأة درجة ليس هي درجة التفضيل والتشريف وإنما هي درجة التكليف، وقد اقتضته الطبيعة الخلقية للرجل.

ثالثاً: للمرأة أهلية مطلقة، أي لها حق التصرف في أموالها بالبيع والشراء والهبة والتجارة دون خضوعها لقانون الزوج.

رابعاً: المرأة في الشريعة لها ذمة مستقلة عن ذمة زوجها.

المحور الثالث
نظرة تاريخية في قضايا الأحوال الشخصية في الإسلام
بعد تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة النبوية، عقب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ونزول كثير من الأحكام التشريعية بمختلف صورها السياسة والاقتصادية والاجتماعية، وكان نصيب قضايا الأسرة والأحوال الشخصية منها ليس بالقليل، واستدعت الحاجات الإنسانية بحكم ما نشأ من علاقات أن يكون هناك من يقوم بضبطها على وجوهها بضبطها على وجوهها التشريعية، وكان منها المجال القضائي، ولم تكن قضايا الأحوال الشخصية مستقلة آنئذ عن قسيماتها من القضايا الأخرى، بل لم يكن القضاء مستقلاً عن غيره من السلطات، إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم بيده حكم الدولة والقضاء والإفتاء؛ لكونه المرجع للأمة في حياته عليه الصلاة والسلام، ومع هذا فإن اتساع الدولة بعد الفتوحات الإسلامية التي غطت الجزيرة العربية اقتضى إرسال الولاة إلى تلك البلاد، كما هو الشأن في إرسال علي رضي الله عنه إلى اليمن، وجعل عتاب بن أسيد على مكة، وكان هؤلاء الولاة يمارسون وظيفة الحكم والقضاء.

ثم بعد اكتمال التنزيل القرآني ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم وتنصيب أبي بكر الصديق رضي الله عنه الخلافة بعده لم يختلف عهده من حيث صورة الحكم والقضاء عما كان عليه الحال زمن النبوة، إلا أن الفارق بين العهدين أن المرجعية عند أبي بكر الصديق مبنية على الكتاب والسنة وما يؤدي إليه النظر والاجتهاد بعد البحث والمشورة، وآلت الخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وشهد عهده فصل القضاء عن الحكم، وأملاه توسع الدولة وتشعب المصالح والحاجات، وقد ترتب عليه عهد القضاء إلى أشخاص معروفين بالعلم والفتوى، كجعل أبي الدرداء رضي الله عنه على قضاء المدينة، وأبي موسى الأشعري رضي الله عنه على قضاء البصرة، واستمر الحال قائماً بلا تغيير في عهد الخليفتين عثمان وعلي رضي الله عنهما.

وفي عهد الدولة الأموية كان الاهتمام منصباً على فتح البلدان الجديدة ونشر الدعوة الإسلامية، ولم يطرأ ما يغير حال القضاء عن سابقه في العهود المتقدمة، سوى أن بعض الحوادث ألزمت القضاة تسجيل الأحكام في سجلات خاصة خشية إصدار أحكام قضائية شفوية تفضي إلى إنكارها من قبل من صدرت بحقهم هذه الأحكام، وتسجيل الأحكام وتدوينها بلا شك يعد من الحاجات التي فرضتها المصلحة العامة، وكانت المرجعية قائمة على الكتاب والسنة واجتهاد الصحابة والتابعين.

وفي الوقت الذي مثل تأسيس الدولة العباسية شكلاً مغايراً للدولة الإسلامية، من حيث اتساع الدولة وكثرة الرعايا وتزايد الحوادث والوقائع، استلزم كل ذلك إرسال الفقهاء والقضاة إلى الأمصار، والذي ميز العهد العباسي عن العهود السابقة مظهران:

الأول: ظهور المذاهب الفقهية، وأشهرها مذاهب الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، بخلاف غيرهم المذاهب التي أضحت مندرسة بتقادم الزمن كمذهب الأوزاعي والليث بن سعد وأبي ثور والطبري وداود بن علي الظاهري وغيرهم.

الثاني: تدوين الأحكام والمسائل الفقهية والقضائية، ووضع القواعد والضوابط العامة المستندة على أدلة الأحكام وقواعد التشريع الإسلامي.

وكان لتدوين المذاهب الفقهية الأربعة وانتشار مدارسها في العالم الإسلامي عاملاً مساعداً في جعل القضاء المذهبي سائداً في المسائل القضائية، مع التفاوت في مدى تأثير المذهب في هذه المسائل بحسب البيئة الفقهية التابعة للمذهب المعني، فمثلاً نجد المذهب الحنفي كان منتشراً في بلاد المشرق وما وراء النهر، بينما انتشر المذهب الشافعي في بلاد الشام، بينما كان للمذهب المالكي حضوره في بلاد المغرب، وانعكست هذه الصورة على الأحكام القضائية، فنجد القاضي يحكم بموجب ما أملاه عليه الراجح في المذهب الذي يتبناه، وقد ساد هذا المظهر دولة المماليك، بل من الوقائع أن الظاهر بيبرس عين لكل مذهب قاضياً يقضي بموجب أحكام المذهب، مع بعض التفضيل لمذهب الشافعية.

لكن تغير الحال إبان الدولة العثمانية، حيث تبنت المذهب الحنفي ليكون مذهباً للدولة، وانعكس هذا أيضاً على القضاء، بل جعلوا للقضاء مدونات خاصة مأخوذة من المذهب، كما هو الشأن في مجلة الأحكام العدلية التي كانت مرجع القضاة في العالم الإسلامي حتى إلغاء الخلافة الإسلامية وانهيار الدولة العثمانية وانقسام العالم الإسلامي إلى دول وإمارات.

والملفت للنظر في أثناء هذه القراءة التاريخية المختصرة أن الأحوال الشخصية من حيث مضمونها لم تخرج عن الأحكام القضائية على وجه الاختصاص، إلا في بدايات القرن العشرين، إبان الاحتلال الانكليزي والفرنسي للبلاد العربية والإسلامية، وكما أشرنا سابقاً أن الأحوال الشخصية من حيث الاصطلاح لم تكن أصيلة في القضاء الشرعي، وإنما اقتبست من القانون الوضعي الأوربي، وانتشارها على الساحة القضائية من جهة الاختصاص، وخصوصاً في العراق جرى في النصف الأول من القرن العشرين وتحديداً في ثلاثينيات القرن المعني وصولاً إلى قانون الأحوال الشخصية عام 1959م.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *