بحث حول الآثار اللاحقة لتسجيل تنبيه نزع الملكية في القانون
مجلة المحاماة – العدد العاشر
السنة الثالثة – يوليه سنة 1923
تسجيل تنبيه نزع الملكية وآثاره في القانون الأهلي
1 – هل يترتب على تسجيل التنبيه في القانون الأهلي غل يد المدين عن التصرف في العقار المراد التنفيذ عليه ؟
اختلفت الآراء في هذا الموضوع اختلافًا كبيرًا, فقال البعض بأن تسجيل التنبيه يمنع المدين من التصرف في العقار المذكور في ورقة التنبيه, ورأى آخرون أنه لا يترتب عليه هذا الأثر نظرًا لعدم النص عليه.
وقد كتبنا في هذا الموضوع طويلاً في كتابنا (طرق التنفيذ والتحفظ) وأخذنا بالرأي الثاني للأسباب التي ذكرناها فيه.
ثم ظهر في عالم الوجود مؤلف الأستاذ الدكتور عبد السلام ذهني في (المداينات) أي (الالتزامات) فأخذ في الجزء الثاني منه بالرأي الأول القائل بمنع التصرف، وظهر من بعده مقال لحضرة الأستاذ الدكتور عبد الفتاح بك السيد نشر في مجلة المحاماة في عددها السادس من السنة الثالثة ذكر فيه أنه ما زال متشبثًا برأيه الذي أبداه في حكم أصدره مذ كان قاضيًا في محكمة شبين الكوم الجزئية وأنه يعود إليه ولو مؤخرًا ليعززه بما يدفع عنه تأثير الردود التي جئنا بها في كتاب (طرق التنفيذ والتحفظ) وإننا نثني على همة الأستاذين ثناءً عظيمًا لما ألقيا على الموضوع من نور, ومع ذلك لا نرى محلاً للأخذ برأيهما فيه, ونؤمل أننا سنستطيع أن نأتي هنا بإيضاحات جديدة يتمكن بها غيرنا من مشاركتنا في البحث علنا نصل جميعًا إلى إدراك الرأي الصحيح بلا كبير عناء.
2 – يعلم الجميع أن مبدأ منع التصرف قد جاءنا من نص المادة (686)، وما بعدها من قانون المرافعات الفرنسي الذي عدل في سنة 1841, وجعل فيه منع التصرف أثرًا من آثار تسجيل محضر الحجز، وجاءت من بعد ذلك المادة (34) من قانون الحجز العقاري لصالح البنوك العقارية الصادر في 28 فبراير سنة 1852, فجعلت منع التصرف يترتب على تسجيل التنبيه الذي يجريه البنك العقاري، وأن هذا المبدأ قد أدخل في القانون المختلط في مادة (608) في سنة 1886, وأن الشارع الأهلي لم ينص مطلقًا على أن منع التصرف يترتب على أي إجراء من إجراءات نزع الملكية العقارية.
3 – ونحن نريد هنا أن نبين أولاً ما هي المسائل المتفق عليها في هذا الموضوع في أحكام فرنسا وعن شراحها وما يختلفون فيه حتى يتسنى لنا أن ندرك مقدار الخطأ والصواب في الرأي الذي يصح أن يتخذ في القانون الأهلي الذي لا ينص على منع التصرف، ونعتقد أنه إذا تبين مقدار الخلف الموجود في تفسير هذا الموضوع في القانون الفرنسي فإن حالة الرأي الذي يتخذ عندنا لا تلبث أن تظهر ويتضح الخطأ من الصواب.
4 – القانون الفرنسي ينص على منع التصرف.
ومن المسلم به فيه أنه إذا حصل التصرف بعد تسجيل محضر الحجز فهو باطل غير أن هذا البطلان ليس بطلانًا تامًا ولا جوهريًا ولا هو غير قابل للزوال, وأنه على العكس بإجماع الآراء بطلان نسبي لا ينتفع به غير الأشخاص المذكورين على سبيل الحصر في المادة المقابلة للمادة (608) مختلط وهم: الدائن الطالب والدائنون الآخرون الذين أعلنوا المدين بالتنبيه والدائنون المسجلون [(1)]، ولا يجوز التمسك بهذا البطلان لا للمدين ولا للمشتري من المدين.
كذلك من المسلم به فيه أنه لغاية تسجيل محضر الحجز يكون المدين حرًا في التصرف وإعطاء الرهون بلا قيد ولا شرط, ولذلك ليس للدائنين أن يعتبروا التصرفات الحاصلة منه حتى بعد الحجز باطلة ما دامت قد وقعت قبل تسجيل الحجز, ولا يستثنى من ذلك غير حالات التواطؤ والإفلاس والصورية
وفي غير هذه الأحوال تكون التصرفات صحيحة ويبطل الحجز [(2)].
ولكن الخلاف كبير جدًا في معرفة نقطتين أساسيتين فيما يتعلق بالتصرف في القانون الفرنسي:
النقطة الأولى: ما معنى التصرف ؟
النقطة الثانية: هل المنع واقع على التصرف نفسه أم المنع يكون من مقتضاه عدم الاعتداد بالتصرفات الحاصلة قبل تسجيل الحجز إذا لم تسجل مطلقًا أو إذا لم تسجل إلا بعد تسجيل الحجز حتى ولو كانت ثابتة التاريخ من قبل التسجيل المذكور؟
أو بمعنى آخر ما هي طبيعة حق الدائن بصفته حاجزًا وهل يعتبر من الغير في مادة التسجيل ؟ وسنتناول البحث في هاتين النقطتين ثم نبين النتائج العملية للخلاف قبل أن ننتقل إلى الموضوع في القانون الأهلي.
النقطة الأولى: معنى التصرف:
5 – التصرف هنا يشمل نقل الملكية بعوض وبغير عوض وإعطاء حق عيني ينتزع من الملكية على العقار كحق الانتفاع وحق السكنى (ويشمل البيع الاختياري في المحكمة والرهن الحيازي في مصر) [(3)].
ولكن الخلاف كبير في معرفة مصير الرهن التأميني Hypothéque, هل يجوز من بعد تسجيل الحجز أو التنبيه أو لا يجوز ؟
رأى البعض أنه لا يجوز ومنهم جلاسون [(4)] وبلانيول [(5)] ومحكمة الاستئناف المختلطة في بعض أحكامها [(6)]، ورأت أغلبية العلماء والأحكام أن الرهن التأميني يجوز من بعد تسجيل الحجز [(7)].
إذا كان الأمر كذلك فإن هذه نقطة تدعو إلى أن يفكر فيها مليًا كل من يتصدى للقول بأن تسجيل التنبيه عندنا يترتب عليه منع التصرف بلا نص ذلك لأنهم ظنوا أن الغرض من نظام منع التصرف هو مجرد حماية الدائن الطالب خصوصًا الدائن العادي وتأمينه على دفع دينه حتى لا يستطيع أحد أن يفتات عليه [(8)]، ولكن الغرض ليس كذلك كما سيتضح من مناقشة الموضوع.
6 – ويستند أصحاب الرأي الأول إلى أن الرهن لا يصح أن يصدر إلا عن شخص له حق التصرف في العقار، وبما أن المدين ممنوع عن التصرف فهو ممنوع أيضًا عن الرهن.
وإن هذا الرهن مضر بحقوق الدائنين العاديين، فيجب أن يكون باطلاً لأن القانون قد وضع الدائن العادي الذي أوقع حجزًا عقاريًا في مركز خاص يمتاز به فيجب أن لا يحرمه المدين من استبقاء الضمان الذي وضع تحت أمر القضاء بتوقيع الحجز عليه, وبما أن التصرف فيه لا يضر الدائن المذكور لعدم نفاذه عليه فيجب ألا يضره الرهن أيضًا، لأن الضمان ينقص إذا صح الرهن.
وبناءً على هذا الرأي إذا توقع الرهن قبل تسجيل الحجز فلا يصح تسجيله بعد ذلك لأن الدائن العادي الذي أوقع حجزًا عقاريًا يصبح من الغير في مادة التسجيل فيكون له أن يحتج بأسبقية تسجيل الحجز [(9)].
7 – يستند أصحاب الرأي الثاني – وهو في نظرنا الرأي الصحيح – إلى أسباب ثلاثة:
الأول: تاريخي.
والثاني: منطقي.
والثالث: قانوني.
8 – فأما السبب التاريخي: فهو أن عند مناقشة مشروع القانون الذي أدخل منع التصرف قد تقرر رسميًا أن الرهن لا يدخل ضمن المنع وقد أريد إدخال تعديل من مقتضاه جعل الرهن ضمن التصرفات الممنوعة فرفض التعديل وتقدم الطلب في هذا الموضوع مرة أخرى بشكل آخر فلم يقابل في المرتين بغير الرفض, وأصبح مقررًا في الأعمال التحضيرية لقانون منع التصرف أن التصرف لا يشمل الرهن التأميني وهذه نقطة يجمع الكل على صحتها [(10)].
9 – وأما السبب المنطقي فهو أن نصوص القانون في موضوع منع التصرف لا تسمح مطلقًا بأن يكون التصرف رهنًا.
المادة (608) مختلط التي شملت ما في المواد الفرنسية (686) و(689) تقول بالحرف الواحد:
(لا يجوز للمدين من يوم تسجيل التنبيه أن يتصرف في العقارات المذكورة في التنبيه وإلا كان التصرف باطلاً من تلقاء نفسه، وبلا حاجة لحكم بذلك, غير أن هذا التصرف ينفذ إذا قام خليفة المتصرف l’acquéreur قبل اليوم المعين للبيع بإيداع مبلغ يكفي لوفاء جميع ديون وأرباح ومصاريف الدائن مريد الحجز والدائنين الآخرين الذين أعلنوا المدين بالتنبيه العقاري وسائر الدائنين المسجلة رهونهم على العقار وبشرط أن يعلنهم جميعًا بذلك الإيداع, وإذا كانت النقود المودعة مقترضة من الغير فلا يكون لهؤلاء حق الرهن إلا بعد الدائنين المسجلين وقت التصرف وإذا لم يحصل الإيداع قبل رسو المزاد فلا يعطى ميعاد للإيداع لأي سبب من الأسباب) [(11)].
فهل يسمح هذا النص بأن يكون الشخص الذي حصل إليه التصرف الممنوع دائنًا مرتهنًا ؟ كلا.
أرجو القارئ أن يستبدل كلمة التصرف بكلمة الرهن وكلمة خليفة المتصرف acquéreur بكلمة الدائن المرتهن ويقرأ المادة على هذا المنوال, فهل يستقيم التركيب ؟ وهل يكون معقولاً أن نكلف الدائن المرتهن إذا أراد استبقاء رهنه أن يدفع ديون جميع من ذكروا في المادة حتى يستبقي مرتبته العقارية, أي حتى يستبقي امتيازه على الثمن عند بيع يحصل بعد إجراءات أخرى ؟
وماذا عساها أن تكون مصلحته في دفع ديون جميع من ذكروا ؟ هذا لا يتصور مطلقًا.
إن النصوص في هذا الموضوع إنما تسمح بأن يكون المتصرف إليه شخصيًا قد انتقلت إليه (ملكية) العقار أو جزء منه أو حق عيني آخر منتزع من الملكية كالانتفاع والسكنى فيدفع ديون الدائنين المذكورين ويستبقي هذه (الملكية) جزئية كانت أو كلية, أما الدائن المرتهن فلا يطلب منه دفع الديون لاستبقاء الملكية لأنه لم يحصل على ملكية مطلقًا، وإنما حصل على تأمين لا يضر لا بالمشتري بالمزاد (لأن البيع الجبري سيخلص له العقار من كل الرهون)، ولا يضر بالدائنين المرتهنين، لأن رهونهم مفضلة على رهنه بحكم أسبقية تسجيلها، وإنما يضر حق الدائن المرتهن الجديد بحقوق الدائنين العاديين فقط.
10 – السبب القانوني هو أن الدائن العادي الذي يسعى في بيع عقار مدينه جبرًا عليه ليس له أن يطالب بمنع المدين عن إعطاء رهون جديدة بعد تسجيل الحجز, لأن الحجز الذي أوقعه لا يمكن أن يكون سببًا لتفضيله على غيره من الدائنين وليس له أن يلوم إلا نفسه لكونه قد أخطأ في الاعتماد على ذمة مدينه ولم يتطلب رهنًا يضمن له مرتبة عقارية يمتاز بها دينه على ديون غيره، وهب جدلاً أن له حقًا بمقتضى الحجز الذي أوقعه في منع مدينه من أن يرهن العقار، فهل يمكن القول بأن له باعتباره حاجزًا أي حق من الحقوق يمتاز به على أي دائن آخر يحجز على ثمن العقار تحت يد المشتري بالمزاد أو تحت يد كاتب المحكمة الذي أودع عنده الثمن, كلا فإنه من المقرر في هذا الموضوع بدون أدنى شك ولا جدال أن لكل دائن أن يوقع حجزًا أو يقدم طلبًا لينال حصته في توزيع الثمن, ولا يمتاز الدائن الحاجز على العقار على أي دائن آخر لمجرد كونه هو الذي سعى في بيع العقار, فبأي حق يكون له أن يمنع المدين من أن يعطى رهونًا يميز بها دائنًا آخر عليه ؟
الرد على هذا السؤال يتناول البحث في طبيعة حق الحاجز بصفته حاجزًا وما هو التكييف القانوني لهذا الحق وهذا ما يتبين من البحث التالي.
النقطة الثانية: طبيعة حق الحاجز
11 – الحاجز على العقار إما أن يكون دائنًا مرتهنًا وإما أن يكون دائنًا عاديًا, فإذا كان دائنًا مرتهنًا فإنه يمكن أن يعتمد مبدئيًا في القانونين الفرنسي والمختلط على سببين مختلفين لحماية حقه ضد تصرفات المدين, الأول حق الرهن والثاني حق الحجز, فالرهن ينشئ له حقًا عينيًا على العقار يسمح له بتتبعه وحجزه تحت يد أي شخص يكون ليحصل على دينه من ثمنه ولا يمتد هذا الحق إلى أكثر من ذلك, فلا يكون الرهن مانعًا المدين من التصرف في العقار بل يجوز للمدين أن يتصرف حتى بعد الحجز الحاصل من الدائن المرتهن ما دام التصرف حائزًا لتاريخ ثابت قبل تسجيل محضر الحجز بند (4)، وإذا كان للدائن المرتهن حق عيني على العقار فإن حجزه لا يحصل بمقتضى هذا الحق العيني وإنما يحصل بمقتضى كونه دائنًا، ولا يغير حصول الحجز من طبيعة حقه هذا، ذلك هو النظر الصحيح [(12)]، وبمقتضاه يكون المدين ممنوعًا من التصرف من يوم تسجيل الحجز ولكن لا يؤثر الحجز على التصرفات الحاصلة من قبله فلا يلغيها لأن الغرض هو منع التصرفات الجديدة لا التأثير على التصرفات السابقة متى كانت أسبقيتها ثابتة, ولا عبرة بكونها لم تسجل وهناك رأي آخر يقول بأن الدائن الحاجز يحصل على حق عيني بمجرد تسجيل الحجز حتى ولو كان دائنًا عاديًا وما دام أن الحق العيني ناشئ عن تسجيل الحجز فهو من حق الدائن المرتهن من حق الدائن العادي على السواء [(13)]، وهناك رأي ثالث يفرق بين الحاجزين بحسب كونهم مرتهنين أو عاديين فإذا كانوا مرتهنين جعل لهم حقًا عينيًا جديدًا ناشئًا عن تسجيل محضر الحجز بعكس ما إذا كانوا عاديين فلا يكون لهم أدنى حق عيني على العقار رغم كونهم قد حجزوا وسجلوا حجزهم [(14)]، ويقولون إن هذا الرأي هو الذي تحكم به المحاكم غالبًا في فرنسا [(15)] وهذا صحيح نظرًا للملاحظة التي أبديناها على الرأي الثاني ويعتمد هذا الرأي على المادة (3) من قانون (1855) التي تقول إن التصرفات غير المسجلة لا يعتد بها ضد الغير الذين اكتسبوا حقوقًا على العقار وأن هذه الألفاظ اختيرت خاصةً بحسب أقوال مقرر القانون المذكور، لمنع الدائنين العاديين من أن يتمسكوا بعدم التسجيل ولا شك حينئذٍ في أن تصرفات المدين غير المسجلة تكون حجة على دائنيه العاديين [(16)] أما إذا كان الحاجز دائنًا عاديًا فلا يعتمد إلا على حق الحجز، ولكن ما طبيعة هذا الحجز ؟ اختلفت الآراء فيه، فقال البعض إنه حق عيني اكتسب على العقار المراد التنفيذ عليه وحفظ بالتسجيل [(17)]، وقال آخرون إنه حق يصبح بمقتضاه الدائن العادي الذي أوقع حجزًا من طبقة (الغير) في مادة التسجيل فله أن لا يعبأ بكل تصرف لم يكن مسجلاً من قبل تسجيل الحجز أو التنبيه [(18)] وبديهي أن كلاً من الرأيين لا يعتمد إلا على النص الصريح الوارد في مادة (686)، والذي يقضي بمنع التصرف، وهذه النقطة في منتهى الأهمية، بل هي أساس كل القواعد الثابتة وهي مثار الخلاف لأن الخلاف واقع على تفسير ما يدخل تحت المنع المقرر بالنص لا ما لا يدخل تحته.
ورأى آخرون ورأيهم في نظرنا هو الرأي الصحيح أن القانون إنما أراد بالنص المذكور أن يسهل على الدائن حصول الإجراءات بحيث لا يستطيع المدين عرقلتها بالتواطؤ مع الغير فأمر بأن يعلن ذلك الغير بتسجيل محضر الحجز أو التنبيه ومتى تم هذا الإعلان فيكون ثمة قرينة قانونية قاطعة بأن التواطؤ موجود, وعلى قوة هذه القرينة يرتكن الشارع في إبطال كل ما يحصل من التصرفات بعد تسجيل الإجراءات باعتبار أنها حصلت لمصلحة شخص سيئ النية وبذلك يعفى الدائن الحاجز من إثبات سوء النية أو التواطؤ أو الضرر أو غير ذلك من شروط دعوى إبطال التصرف L’action paulienne فكأن كل ما أريد بالنص على منع التصرف هو إيجاد قرينة قانونية لصالح الحاجز تعفيه من إثبات شروط تلك الدعوى لنقض التصرفات الحاصلة بعد الإجراءات.
ينبني على ذلك أن التصرف الحاصل قبل تسجيل الحجز أو التنبيه لا تلحقه تلك القرينة لأن شرط التمسك بها هو علم المشتري أو نحوه، ذلك العلم الذي يعتبر حاصلاً بمجرد تسجيل الحجز, ويكفي ثبوت حصول التصرف قبل التسجيل حتى يعتبر التصرف صحيحًا، فإذا كان التصرف ثابت التاريخ قبل التسجيل المذكور فإنه يكون صحيحًا [(19)].
ورأى بعض المؤلفين [(20)] أن تسجيل الحجز يجعل المدين غير أهل للتصرف incapable ولكن هذا الرأي غير صحيح بدليل أنه من المسلم به كما قلنا في بند (4) هنا إن التصرف يكون صحيحًا بين المدين والمشتري أو نحوه وأن البطلان كما يذكره جلاسون نفسه نسبي محض [(21)]، ورأى البعض الآخر وهو رأي غير صائب أيضًا أن منع التصرف مبني على طبيعة الحجز وأن كل حجز يستتبع عدم جواز التصرف indisponibilité من جانب المدين [(22)]، والدليل الظاهر في القانون الفرنسي على بطلان هذا الرأي هو أن الحجز نفسه لا يمنع التصرف ولا يبطله وإنما الذي يمنعه أو يبطله هو النص الصريح الموجود في القانون والذي لا يترتب المنع إلا على تسجيل الحجز لا على الحجز نفسه [(23)] ومن المقرر أيضًا أن هذا النص استثنائي:
يقول بذلك جلاسون نفسه ويبني على كونه استثناءً أنه يجب أن يقتصر على منع البيع فإذا حصل عقد آخر بعد تسجيل الحجز كعقد الإجارة مثلاً فلا يمكن اعتباره لاغيًا من نفسه بل لا بد من رفع دعوى ببطلانه من جانب الدائنين [(24)].
12 – ولم يكن ليوجد أدنى شك في الحل المتقدم من يوم صدور قانون سنة 1841, الفرنسي الذي نص على منع التصرف إلى أن صدر قانون (23) مارس سنة 1855 الذي أوجب تسجيل حق الملكية والحقوق العينية العقارية الأخرى وكان يجب ألا يحصل أي خلاف فيما بعد نظرًا لأن الملكية كانت تنتقل قبل قانون (1855), بلا حاجة للتسجيل وكان التمييز بين المالكين لأي عقار يحصل بحسب أسبقية تاريخ التمليك, إذ كان الرهن التأميني يسجل في ذلك الوقت فكانت الملكية تعتبر ثابتة بين مدعي الملكية والدائن المرتهن بحسب تاريخ انتقال الملكية فإذا انتقلت قبل تسجيل محضر الحجز فقد أصبح واجبًا على الدائن العادي أن يرفع دعوى بطلان التصرف وواجبًا على الدائن المرتهن أن يعتبر المتصرف إليه حائزًا tiers – détentenr ويوجه إليه ما يلزم من الإجراءات مع العلم بأن الدائن المرتهن كان يحفظ حقه بالتسجيل في ذلك الوقت وكان محضر الحجز يسجل في ذلك الوقت وكان انتقال الملكية لا يسجل, فكان يجب أن تبقى الحال كما هي بينهم جميعًا بعد صدور قانون التسجيل في سنة 1855, إلا فيما يتعلق بالرهن وانتقال الملكية فإن العلاقة بين الراهن والمالك هي وحدها التي يلتفت فيها إلى أسبقية التسجيل لأن القانون المذكور وجد لتنظيم هذه العلاقة.
13 – ولكن بعض الكتاب نسى هذه الظروف وأغفل الحكمة التي من أجلها وضع نظام منع التصرف ورأى أن المقام مقام تسجيل وتنازع بين أشخاص متعددين يحفظون حقوقهم بالتسجيل مع اختلاف طبيعة تلك الحقوق فأصبحوا لا يميزون بين حق وحق إلا بأسبقية التسجيل وأغفلوا النظر إلى طبيعة الحقوق وإلى ما تستتبعه تلك الطبيعة من القواعد فنشأ عن ذلك خلط كبير واختلاف حاد.
14 – ورأي العلماء الذين يعتمد على رأيهم أن الحجز لا ينشئ حقًا عينيًا على العقار لمصلحة الحاجز [(25)] وأنه إذا كان الشارع قد أراد أن يقول بعكس ذلك فإنه كان يضع له من القواعد ما يتناسب مع القواعد المقررة قبل سنة 1855, فيقول مثلاً: لا يصح للمدين من بعد الحجز أن يتصرف في العقار (أضرارًا بالحاجز)، ولكن المادة (686) مرافعات فرنسي تقرر عكس هذه القاعدة تقول لا يصح للمدين أن يتصرف من بعد (تسجيل الحجز) لا من بعد (الحجز) فهي تجيز التصرفات الحاصلة من بعد الحجز وتجعلها نافذة على الحاجز بشرط أن تكون ذا تاريخ ثابت سابق على الحجز, ولذلك فإن النص المتقدم يقرر عدم وجود أي حق عيني لمصلحة الحاجز، وإذ كان الأمر كذلك فقد قررت محكمة النقض والإبرام الفرنسية أن الحاجز ليس له أن يتمسك بعدم تسجيل التصرف الحاصل قبل تسجيل محضر الحجز متى كان ثابت التاريخ من قبله لأن الحاجز لا يكون من (الغير) في مادة التسجيل [(26)] والاعتراض الوحيد على ذلك أن الإجارة الطويلة يجب أن تسجل وهي ليست حقًا عينيًا ولذلك فلا يكون صحيحًا أن يقال إن التمسك بالتسجيل إنما يكون لصاحب الحق العيني، ولكن هذا الاعتراض مدفوع بأمرين الأول أن القانون نص عليها بالذات والثاني أن الإجارة الطويلة تؤثر بطبيعتها في الانتفاع بالعقار فتحرم منه أصحاب الحقوق حرمانًا يكاد يشبه الحرمان الناشئ من الحقوق العينية المنتزعة من الملكية, فإذا ما سجلت أمكن كل شخص يريد اكتساب حق على العقار أن يتأكد من وجودها ويتخذ عدته بعد العلم بها, وفوق ذلك فإن جل تطبيق المادة 613/ 740 مدني المتعلقة بالإجارات ووصولات الأجرة المعجلة الواجب تسجيلها هو بالنسبة لحقوق الدائنين المرتهنين الذين يريدون التنفيذ على العقار فأراد القانون أن يشهر المستأجر عقد إجارته ووصولات ما دفع من الأجرة مقدمًا حتى يعلم بها الدائنون المرتهنون وقت حصول الرهن فإذا لم تكن الإجارة مسجلة مثل الرهن فلا عبرة بتسجيلها قبل تسجيل التنبيه أو محضر الحجز ولا تسري من بعدهما إلا لمدة تسع سنين عندنا إذا كانت ثابتة التاريخ قبل تسجيل التنبيه بعكس ما إذا كانت مسجلة قبل الرهن فإنها تسري بكامل مدتها [(27)].
15 – كذلك رأى العلماء الذين يعتد برأيهم أن حالة القوانين الحاضرة لا تسمح مطلقًا باعتبار الحاجز من الغير (في مادة التسجيل)، وهنا يجب التمييز الدقيق بين حالة من يسمون (الغير) بلا وصف آخر، وبين من (يسمون الغير في مادة التسجيل).
16 – فالحاجز هو من الغير ولو كان دائنًا عاديًا، بمعنى أن حجزه يكسبه صفة جديدة تسمح له بالتمسك بنص المادة (1328) مدني فرنسي المقابلة للمادة المصرية 228/ 293 أي أن له أن لا يعتد بالإيصالات التي لم يكن تاريخها ثابتًا قانونًا قبل تسجيل محضر الحجز ولا بالتصرفات الحاصلة على العقار نفسه إذا لم تكن ثابتة التاريخ كذلك, وذلك لأنه بعد تسجيل الحجز يكون له حق مستقل عن حق المدين يسمح له بعدم التمسك بالعقود العرفية التي يحررها مدينه ما لم يثبت تاريخها قبل تسجيل الحجز.
17 – ولكن الحاجز ليس من الغير (في مادة التسجيل) أي ليس من الغير بالنسبة لتطبيق المادة الثالثة من قانون 1855 (611 و737 مصري) لأن هذه المادة تذكر أشخاصًا ذوي أوصاف خاصة لا يدخل من ضمنهم الدائن العادي ولو كان قد سجل الحجز على أحد عقارات مدينه [(28)].
18 – وإذا كان بعض القوانين الأجنبية قد جاء بنصوص يمكن أن يفهم منها صراحةً أو ضمنًا أنه يجعل الدائنين العاديين من الغير في مادة التسجيل [(29)] فإنه من المؤكد أن هذه ليست القاعدة في القانون الفرنسي ولا في القانون المصري رغم كونه محكمة الاستئناف الأهلية أرادت أن تلقي شيئًا من الشك على هذه النقطة بحكمها الآتي ذكره في بند (41) من هذا المقال.
19 – ينبني على ذلك كله أن الدائن العادي الذي أوقع حجزًا على عقار مدينه ليس له أن يحتج على مشتري العقار الذي اشترى قبل تسجيل محضر الحجز حتى ولو لم يكن قد سجل قبل تسجيل محضر الحجز وليس له أن يطلب إبطال هذا الشراء لأن هذا الشراء قد حصل قبل تسجيله محضر الحجز فهو ليس ممنوعًا على الرأي الصحيح نظرًا لكون الحاجز لا يحصل على حق عيني بمقتضى حجزه ونظرًا لكونه لا يعتبر (من الغير) الذين لهم حق الاعتراض على عدم التسجيل.
خلاصة الأبحاث الفرنسية
20 – يتبين من الأبحاث المتقدمة أنه بالرغم من وجود نصوص خاصة تمنع التصرف في فرنسا من بعد تسجيل محضر الحجز أو التنبيه فإن الخلاف قائم هناك على ما إذا كان يجوز للمدين أن يمنح لدائنيه رهونًا تأمينية بعد التسجيل المذكور والرأي الصحيح الذي تؤيده آراء العلماء والمحاكم هو أن الرهن جائز بعد تسجيل الحجز.
إن الخلاف قائم أيضًا على حق الدائن في اعتبار التصرف الحاصل قبل التسجيل المذكور باطلاً إذا لم يكن مسجلاً قبل التسجيل المذكور وأن الرأي الذي عليه أكثر العلماء وكل الأحكام الصادرة من أعلى المحاكم أن التصرف يكون صحيحًا ولو لم يكن مسجلاً قبل تسجيل الحجز.
القانون المختلط قبل دكريتو 1886
21 – كان يشتمل القانون المذكور على نوعين من الإجراءات: النوع الأول يسلكه الدائن الذي ليس له رهن على العقار حتى ولو كان العقار مرهونًا لغيره, وهذا النوع طويل جدًا ويشتمل على تنبيه وتسجيل التنبيه وحجز وتسجيل الحجز وتحرير قائمة شروط وإعلان إيداعها لأرباب الديون المسجلة ومعارضات في قائمة شروط البيع ثم إجراءات البيع (مادة 605 إلى 666 مختلط قديم).
النوع الثاني سريع جدًا يسلكه الدائن الذي له رهن على العقار إذا كان البيع مقصورًا على العقار المرهون له وإجراءاته تنحصر في تنبيه يسجل ولا حجز فيه ولا تسجيل ويمكن أن يحصل البيع بعد مضي ستة أسابيع فقط من مضي خمسة عشر يومًا على التنبيه إذا لم يدفع المدين الدين وتحرر قائمة شروط يعلن إيداعها لأرباب الديون المسجلة وتحصل المعارضات قبل يوم البيع بثمانية أيام بالأقل وينظر فيها في ظرف الثمانية الأيام المذكورة بلا استئناف للحكم (مادة 667 إلى 675 مختلط قديم).
22 – ومعلوم أن الرهن القضائي كان موجودًا قبل سنة 1886, وكان كل دائن عادي يسارع إلى أخذ حكم ولو بصحة الإمضاء ويحصل على رهن ويسارع إلى اتخاذ الإجراءات السريعة, وما كان الشارع المختلط بمضطر مطلقًا لأن يوجد نصًا يقابل المادة (608) الحالية التي تنص على منع التصرف وذلك نظرًا لسرعة الإجراءات التي تستند إلى حق الرهن وهو بطبيعته يحفظ حق الدائن من أن يضره أي تصرف يحصل بعد الرهن، فإذا لم يكن ثمة تصرفات حاصلة قبل بدء الإجراءات فلا يعبأ بها بعده, وإذا حصل تصرف أنذر حائز العقار وسار في الإجراءات ضد المدين ثم الحائز وشأنه في اختيار الطريق التي يفضلها على غيرها مما ورد ذكره في القانون المدني.
23 – وقد روى لنا الأستاذ عبد الفتاح بك السيد في مقالته المنشورة في المحاماة (صـ 195) أن المحاكم المختلطة في ذلك العهد كانت تحكم بمنع المدين من التصرف على أثر تسجيل التنبيه وبعضها يحكم به على أثر تسجيل الحجز والحقيقة أن الحكمين قد جاءا في معرض البحث عن حقوق الدائنين المرتهنين وأن الدائنين الذين حكمت لمصلحتهم المحاكم المختلطة في هذين الحكمين كانا من الدائنين المرتهنين فليس في الحكمين شيء يفيد الدائن العادي الذي يريد الأستاذ حمايته.
24 – على أن الحكم الأول [(30)] في نظرنا سديد ولكن لغير الأسباب التي بنته عليها المحكمة وتتلخص وقائع الدعوى فيه أن دائنًا مرتهنًا اتخذ الإجراءات السريعة المقررة له كما جاء في بند (21) هنا ثم أوقف البيع برفع دعوى استحقاق وكان هناك دائنون مرتهنون آخرون فاشترى الدائن الأول والعقار وأراد أن يحتسب نفسه حائزًا Tiers détenteur وطلب من دائن آخر أن يقبل منه الثمن الذي يعرضه عليه طبقًا للقانون المدني, فالمحكمة قالت بعدم صحة البيع لأنه حاصل بعد تسجيل التنبيه بناءً على أن (الحجز العقاري من طبيعته أن يضع العقار المحجوز تحت يد القضاء ولا يجوز للمدين أن يتصرف فيه بدون موافقة الدائنين الآخرين فهو بالنسبة إليهم باطل بطلانًا جوهريًا مطلقًا ولا يمكن التمسك به ضده) هكذا قالت وهذا غير صحيح طبقًا لما أوردناه من أقوال علماء القانون الفرنسي ومحاكمه (بند (4) و(11) و(14) هنا)، ولكن السبب في عدم جواز شراء الدائن للعقار الذي أراد التنفيذ عليه إضرارًا بالدائنين الآخرين هو نص المادة (627) مختلط قديم الصريح الذي يجعل الدائنين المرتهنين جميعًا مشتركين في إجراءات التنفيذ بعد التأشير على هامش محضر الحجز بحصول إعلان هؤلاء الدائنين بإيداع قائمة شروط البيع إذ قبل حصول هذا التأشير يكون له الحق وحده في التنازل عن الإجراءات وشطب ما حصل تسجيله من الأوراق المتعلقة بالحجز بدون أن يتفق مع أحد من الدائنين المرتهنين الآخرين أما بعد التأشير فلا يكون ذلك صحيحًا إلا برضاء كلي منهم أو بعد أخذ حكم نهائي ضدهم جميعًا (626/ 627) هذه هي الحقيقة التي يبنى عليها الحكم الأول لا الحجز نفسه ولا تسجيل التنبيه ولا غير ذلك مما لم يرتب له أي أثر في موضوع التصرفات.
25 – الحكم الثاني [(31)] أيضًا يخص دائنًا مرتهنًا سار في الإجراءات السريعة وسجل التنبيه طبقًا للمادة (668) القديمة وكان العقار قد بيع ولم يسجل البيع إلا بعد تسجيل التنبيه بخمسة أيام والمشتري وضع يده على العقار وادعى ملكيته بخمس سنين فقالت المحكمة إن التنبيه في حكم الحجز (لأن الإجراءات السريعة لم يكن فيها حجز كما مر في بند (21) هنا)، والحجز من شأنه أن يضع العقار المرهون تحت يد القضاء ولذلك ما كان للمدين أن يتصرف وإلا كان ذلك باطلاً فلا يمكن للمشتري أن يتمسك بخمس سنين لأنه ليس لديه سبب صحيح لأن البيع ممنوع قانونًا وهذا الحكم كله خلط، لأن التمسك بالسبب الصحيح ووضع اليد لا يكون إلا لمن اشترى من غير المالك، ومقرر أن البيع حصل من المدين المالك, أما قوله إن الحجز يمنع من التصرف فهذا القول قد ظهر الخطأ فيه من إجماع علماء فرنسا وأحكامها، على أنه لا يمنع بند (4) و(14).
26 – فلا محل بعد ذلك للرجوع إلى أحكام كلها خطأ في خطأ للاستنارة بالمبادئ الخاطئة التي تقررها لنا ولدينا الينابيع الفياضة من علم الفرنسيين، مؤلفيهم ومحاكمهم.
القانون المختلط بعد دركريتو 1886
27 – لما علت الشكوى من سوء تصرف الدائنين مع المصريين وأساء الأولون استعمال النصوص القديمة أصبح التنفيذ العقاري لا يحصل إلا بالطريق السريعة ولصالح الدائن المرتهن دائمًا لأن كل دائن كان في مقدوره أن يصبح ذا رهن قضائي إذا لم يكن عنده رهن تأميني من أول الأمر (بند 22) اضطرت الحكومة إلى تعديل القانون فوحدت الإجراءات وجعلتها واحدة للدائنين العاديين والمرتهنين على السواء وفي مقابل البطء الذي أدخل عليها والتنظيم الذي أحاط بها للمحافظة على حقوق كل من يهمهم شأن العقار على العموم أخذ الشارع نصوص القانون الفرنسي المتعلقة بمنع التصرف وأدخلها بدكريتو 1886, ووضعها كلها في مادة (608) الجديدة وجعل منع التصرف أثرًا من آثار تسجيل التنبيه على نسق قانون البنوك العقارية الفرنسية الصادر في سنة 1852.
28 – أما الأحكام المختلطة الصادرة بعد دكريتو 1886, فهي متمشية تمامًا مع المبادئ الفرنسية الصحيحة في موضوع منع التصرف (بند 20 هنا) إلا فيما يتعلق بالرهن فقد صدرت بعض أحكام لا تجيز الرهن من بعد تسجيل التنبيه [(32)]، وهذان الحكمان لم يبحثا مطلقًا في موضوع جواز الرهن وعدم جوازه بعد تسجيل التنبيه (محضر الحجز في فرنسا) بل أخذًا به كقضية مسلمة وجعلاً لحق الاختصاص حكم الرهن مع أن المسألة مقطوع فيها بعكس هذا الرأي في فرنسا (بند 7 – 10 هنا)، ولذلك فلا يكون لهما قيمة علمية في هذا البحث, على أن المحكمة قررت فيهما أن منع التصرف لا ينتج بطلانًا بالمعنى الحقيقي بل مجرد وجه لعدم التمسك بالرهن Simple inopposabilité وأن هذا الوجه خاص بالدائنين الحاجزين والمرتهنين والذين أعلنوا المدين بالتنبيه فمن لم يكن منهم يسري عليه الرهن أو الاختصاص وأنه إذا سقطت الإجراءات المتخذة للتنفيذ على العقار فكل الرهون والاختصاصات تبقى صحيحة وتنتج نتائجها التامة.
29 – قلنا إنه فيما عدا الحكمين المذكورين المتعلقين بالرهن والاختصاص فليس في الأحكام المختلطة ما ينافي المبادئ الفرنسية الصحيحة.
فقد قررت محكمة الاستئناف المختلطة في حكمها الصادر في 30 نوفمبر سنة 1916 الآتي ذكره في البند الثاني أن مجرد تسجيل تنبيه الحجز العقاري لا يترتب عليه حق عيني للحاجز على العقار يكون له بمقتضاه أن يتمسك بالمادة (337) مدني مختلط ويعتمد على عدم تسجيل عقد البيع الواقع على العقار المراد التنفيذ عليه متى كان البيع حائزًا لتاريخ ثابت سابق على تسجيل التنبيه وهذا المبدأ صحيح كما قدمنا في بند (20).
30 – أما من حيث إن الأحكام المختلطة كافة تتطلب أن يكون الحائز للعقار ذا عقد مسجل (كتاب التنفيذ بند 643)، فهذا شرط ضروري وصحيح بحسب الآراء الفرنسية المعتد بها ولا علاقة له مطلقًا بموضوعنا وذلك لأن الحائز Tiers détenteur هو من انتقل إليه العقار المرهون بعوض أو بغير عوض فإذا أراد الدائن المرتهن أن ينفذ على العقار فله ذلك بشرط إنذار الحائز ولا تظهر ملكية الحائز ولا تثبت قبل الدائن المرتهن إلا إذا سجل الحائز عقد تملكه فما لم يسجله فإن الدائن المرتهن باعتباره من الغير بالنسبة لكل من تلقى أو يتلقى حقًا عينيًا على العقار، له أن يعتبر حق الحائز غير ذي أثر بالنسبة إليه حتى ولو كان يعلم أنه قد انتقل إلى يد حائز لأن العبرة بين أصحاب الحقوق العينية الذين تلقوا حقوقهم من شخص واحد هي بالتسجيل، فهذا الموضوع لا علاقة له بالكلية بموضوع منع التصرف.
31 – ولا بد لنا من الإشارة هنا إلى أن ما ذهب إليه الأستاذ الدكتور عبد السلام ذهني في (المداينات) الجزء الثاني صـ (397) و(398) غير صحيح فإنه روي أن هناك دورين للقضاء المختلط: الدور الأول، أنه قرر في سنة 1916 أن مجرد تسجيل تنبيه الحجز العقاري لا يترتب عليه حق عيني للحاجز على العقار طبقًا لحكم الاستئناف المختلط الصادر في 30 نوفمبر سنة 1916 السالف ذكره (مج ت م 29 صـ 84 وجازيت 7 صـ 36 نمرة 104).
والدور الثاني أن القضاء المختلط قرر الأخذ برأي (لابيه) و(جلاسون) وقال بأن الدائن العادي نازع الملكية يكتسب حقًا عينيًا على العقار الذي ينزع ملكيته، وقال إن هذا المبدأ تقرر في حكم الاستئناف المختلط الصادر في 18 مارس سنة 1920, (مج ت م 32 صـ 209)، وذكر أن ما قرره بالنص هو (من اشترى عقارًا بعقد عرفي غير مسجل لا يجوز له الاحتجاج به ضد الدائن نازع ملكية العقار الذي اكتسب حقًا عينيًا عليه ويعتبر هذا المشتري من طبقة الغير الواردين بالمادة (737)، وأنه لم يرد بأسباب الحكم ما يشير بأن هناك خلافًا في هذا الرأي بل ورد المبدأ كأنه بديهية من البديهيات القانونية، وقال أيضًا عن إنه ذكر ذلك من غير جدل ولا تمحيص، وكان ذلك مر عليه مرور البداهة التي توحي بها روح القانون والعدل.
32 – والحقيقة أن الدور الثاني الذي يتكلم عنه الأستاذ لم يوجد بالكلية لأن الحكم يتكلم عن حالة خاصة غير الحالة التي ظنها الأستاذ ولم يقرر ما ذكره حضرته إلا مضافًا إليه (ظرف آخر) يخرج به الحكم حكمًا صحيحًا مقررًا لمبدأ آخر متفق على صحته من الجميع.
إن الحكم لم يأخذ برأي لابيه ولا جلاسون وهذا الأخير لم يذكر كما قال الأستاذ في صـ 398 إن الحاجز يكتسب حقًا عينيًا, وقد شرح الأستاذ هذه النقطة شرحًا جليًا في كتابه نفسه في صـ 389 حيث كتب ستة عشر سطرًا عن رأي جلاسون وكونه لم يقل بأن الحق عيني بل اعتمد على نظرية الغيرية.
إن الحكم لم يقل (من اشترى عقارًا بعقد عرفي غير مسجل لا يجوز له الاحتجاج به ضد الدائن نازع ملكية العقار الذي اكتسب حقًا عينيًا عليه)، ويعتبر هذا المشتري من طبقة الغير الواردين بالمادة (737) ولكن قال:
(أن الست زينب لا يمكنها أن تتمسك بعقدها ضد الدائن نازع الملكية ومشتري العقار الذي اكتسب حقًا عينيًا عليه ويجب اعتباره من الغير طبقًا للمادة (737) Créancier poursuivant adjudicataire فالأستاذ لم يلتفت للفظ Adjudicatire وظن أن القاعدة تحمي الدائن الطالب فحسب مع كونه تكلم عن المشتري بعد ذلك ومع أن المحكمة تقرر القاعدة بالنسبة للمشتري بالمزاد الذي سجل عقده بالضرورة ولم تكن السيدة زينب قد سجلت عقدها مطلقًا, فهو مفضل عليها بلا شك ولا جدال لأن كلاً منهما تلقي الحق عن المدين وأحدهما سجل والآخر لم يسجل.
33 – بذلك لا يكون في القضاء المختلط ما ينفي المبادئ الصحيحة ولا ما يؤيد فكرة الحق العيني الناشئ عن تسجيل التنبيه أو نحوه.
القضاء الأهلي
34 – في القضاء الأهلي حكمان غريبان أحدهما [(33)] لم يتناول البحث العلمي من كل الوجوه الضرورية بل أخذ بما يوحيه الاستنتاج المنطقي من الظاهر بدون التفات إلى الحكمة القانونية التي بنيت عليها النصوص وبدون التفات إلى تاريخ النصوص ومآخذها بل ولا إلى معناها, وثانيهما [(34)] ذهب مذهبًا بعيدًا جدًا عن متناول النصوص المصرية وأراد أن يدخل في القانون المصري ما ليس فيه لمجرد النزعة إلى الأخذ بمذاهب أجنبية ليس لها أصل ولا فرع في القانون المصري [(35)].
35 – أما الحكم الأول فصادر من محكمة جزئية أصدره زميلنا الأستاذ عبد الفتاح بك السيد وكان حكمه أساسًا للرأي الذي عارضناه في كتاب التنفيذ بند (704)، وما بعده مما لا محل لإعادته هنا وغاية الأمر تصح الإشارة هنا إلى أن الحكم قد بني على خطأ تاريخي إذا اعتمد على أن القانون الأهلي مأخوذ عن القانون المختلط فيجب الرجوع إليه لتفسير ما غمض منه والحقيقة أن القانون الأهلي لم يؤخذ عن القانون المختلط في هذا الموضوع بل أخذ عن القانون الإيطالي [(36)] وفوق ذلك فإن النص المانع للتصرف لم يدخل في القانون المختلط إلا سنة 1886, أي بعد ظهور القانون الأهلي بنحو ثلاث سنين فلم يكن ثمة محل للاعتماد على القانون المختلط وحتى ولو كانت الظروف كما قال الحكم.
فإن قواعد التفسير الصحيحة تأبى الاستنتاج الذي ذهب إليه حكم شبين الكوم من حيث منع التصرف.
36 – الغلطة الثانية التي يرتكز عليها حكم شبين الكوم والتي وقع فيها الأستاذ عبد السلام ذهني في المداينات بعد أن شرحناها وما حولها شرحًا طويلاً في كتاب التنفيذ والتي يظهر أن الأستاذ عبد الفتاح بك السيد قد اقتنع بحقيقة ما ذكرنا عنها ردًا عليها فيها بدليل أنه لم يناقش حجتنا ضدها، هي أنه لا يمكن أن يكون الشارع قد أراد حرمان المدين من التأجير ومن الثمار بدون أن يكون قد أراد حرمانه من التصرف في العين نفسها وقد تفنن الأستاذ ذهني في إيراد هذا الاستنتاج على أشكال مختلفة فرواه مثلاً في صحيفة (376) مرتين حيث قال عن الشارع (فإنه لم يفته طبعًا أن الحجز في الثمرة لا بد وأن يكون من باب أولى في العين)، (وإذا كان قد اهتم بحماية الدائن بشأن الغلة فكيف يفوته هذا الاهتمام بما هو أهم وأعظم وهو العين نفسها ولذلك يصح الأخذ بمنهج القياس من باب أولى)، وقال في صفحة (377) (وما دام أن الخطر أصاب الثمرة فالأمر من باب أولى في الرقبة) قال كذلك في صـ 379 (وقد بينا أن الشارع الأهلي وضع نصوصًا أخرى في حماية الدائن بالنسبة للغلة ويستحيل أن يعنى بأمر الغلة دون الملكية وهي لها تتبع كل الإجراءات والتعقيدات وهي المقصودة بالذات)، (ولذا لما اعتقد الشارع الأهلي أنه وضع جميع القواعد الحامية للدائن بالنسبة للملكية جاء وصرف همه في حمايته بالنسبة للغلة فألحق الثمرة بالعين إلخ).
37 – إن الاستنتاج المتقدم مبني على خطأ جسيم هو عدم الالتفات إلى معنى (إلحاق الثمرات بالعقار) ولمصلحة من يحصل ذلك الالتحاق هو استنتاج لا يجوز أن يصدر في معرض الأبحاث العلمية لأنها مبنية على تدقيق يفترض معه كل قارئ أنه قد حصل والواقع أنه لم يحصل مع أننا قد ألفتنا النظر إليه في كتاب التنفيذ في بند (708) فكان يجب أن يجعله كل من الأستاذين محلاً لالتفاته قبل أن يعيد الاستنتاج نفسه ويتفنن في وضعه بصيغ مختلفة.
طبعًا أنه إذا كان المراد هو حجز الثمرات تبعًا لحجز العقار لمصلحة الدائن الحاجز أيًا كان فإن استنتاجهم يكون صحيحًا ونكون نحن الخاطئين, أما وإلحاق الثمرات بالعقار لم يشرع إلا لمصلحة الدائنين المرتهنين وحدهم دون الدائنين الحاجزين ودون الدائنين العاديين الآخرين وكان مفروضًا فيه وجود حق عيني على العقار سبب الرهن وهو ثابت لكل دائن يلحق الثمر بالنسبة إليه ولا يكون ثمة أي معنى لإلحاق الثمرات بالعقار إذا لم يوجد دائنون مرتهنون فإن الحجة تهوى ولا يكون لها أدنى قيمة.
ولقد وجدنا لحسن الحظ سندًا متينًا لفكرتنا هذه في مؤلف بودرى لاكانتنرى ودي لوان جزء 27 (الثالث في الرهون) صـ 290 بند (2024) حيث قال في معرض الكلام على حقوق الدائنين المرتهنين على غلة العقار المبيعة قبل تسجيل محضر الحجز العقاري والتي لم تفصل عن الأرض إلا بعده قال إن فصل الثمرات عن العقار قبل التسجيل هو وحده المانع من الالتحاق فإذا لم تفصل الثمرات فإنها تلحق بالعقار وينتج تسجيل الحجز كل نتائجه ثم قال شارحًا (ربما يظن أن هذا الحل غريب ومجحف فإذا تذكر الإنسان أنه يجوز للمدين أن يتصرف في العقار إلى أن يسجل محضر الحجز فإنه يكون غريبًا أن يكون له حق التصرف في العقار ولا يكون له حق التصرف في الثمرات ولكن إذا تأملنا مليًا وجدنا أن المشرع كان بصيرًا لأن التصرف في العقار لا يضر الدائنين المرتهنين ضررًا جديًا إذ لهم حق تتبع العقار بين يدي أي شخص ينتقل إليه بعكس الحالة في بيع المحصول القائم على ساقه فإنه إذا كان صحيحًا يترتب عليه ضرر بليغ بالنسبة إليهم حيث يضيع عليهم حق التتبع ولا يكون لهم على المحصول أي امتياز, لذلك نص القانون على حماية حقهم بشكل مطلق لأنه يريد حمايتهم).
38 – إن النص على تقييد حق المدين في التأجير لا يقصد منه غير تنفيذ مبدأ إلحاق الثمرات بالعقار وهذا المبدأ يتلخص في أنه حكم قانوني به تعتبر الأجرة والثمرات مثل ثمن العقار المرهون فلا محل لهذا الحكم إذا كان العقار غير مرهون وتكون الأجرة خالصة للمدين إلى أن يحجز عليها الدائنون حجزًا خاصًا وفي هذه الحالة لا يفضل في توزيعها دائن حاجز على دائن حاجز آخر بل يستوي جميع الحاجزين في حقهم عليها فتقسم بينهم كلها بنسبة ديونهم, ما خص منها المدة التي أعقبت تسجيل التنبيه أو محضر الحجز وما خص المدة السابقة على ذلك التسجيل.
أما إذا كان العقار مرهونًا فإن تسجيل التنبيه أو محضر الحجز يجعل الثمرات والإيرادات في حكم العقار فيخرجها عن الضمان العام الذي للدائنين العاديين ولا يستولي عليها من الدائنين المرتهنين غير من يكون لهم حق الاستيلاء على الثمن وذلك بحسب درجة امتيازهم – وهذا الالتحاق يحصل بنص القانون بمجرد تسجيل التنبيه أو محضر الحجز – وأمر هذا الالتحاق إنما يهم الدائنين فيما بينهم ولا شأن للمدين فيه بمعنى أن الثمر إذا التحق بالعقار يكون من حق المرتهنين وحدهم فإذا لم يلتحق فإنه يكون من حق جميع الدائنين الحاجزين عليه وإذا كان من الجائز لكل دائن أن يقوم بأعمال التحفظ اللازمة فقد خول القانون لكل دائن مهما كانت صفة دينه أن ينذر المستأجر للعقار بعدم الدفع فتصبح الأجرة محجوزة تحت يده وملحقة بالعقار لفائدة المرتهنين وحدهم وبحسب ترتيبهم.
39 – ذلك معنى التحاق الثمرات بالعقار من بعد تسجيل التنبيه أو محضر الحجز وليس معناه كما ظن الأستاذان أن القانون يحرم المدين من التصرف في الثمر فيكون حرمانه من التصرف في العقار من باب أولى.
أو لم يردا أن المؤلفين الفرنسيين والمحاكم الفرنسية يجمعون بلا شذوذ على أن للمدين أن يتصرف في العقار تصرفًا صحيحًا لغاية يوم تسجيل الحجز مع كونه قد حرم في القانون الفرنسي من حرية التأجير ابتداءً من إعلانه بالتنبيه [(37)] الحقيقة إن التحاق الثمرات بالعقار وتقييد حق المدين في التأجير أمران لا دخل لهما بالكلية في مسألة منع التصرف فلا محل لاستنتاج الأخير من النصوص المتعلقة بالأمرين الأولين كما قدمنا.