إجتهادات القاضي في الحكم في حالة عدم وجود نص قانوني
تمهيد :
اعتبر المشرع المصري مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة المصدر الأخير الذي يلجا إليه القاضي بعد استنفاده للكل الوسائل . فالفرض أنه يواجه نزاعا لا يحكمه نص تشريعي، ولا ينظمه عرف مستقر عليه، ولا يمكن استنباط حكمه من مبادئ الشريعة الإسلامية، وفي هذه الحالة يلجأ القاضي وفقاًً للمادة الأولى من القانون المدني إلى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة لحسم النزاع، وإلا أعتبر منكرأ للعدالة، وتعرض للعقوبة الجنائية المقررة لجريمة النكول عن القضاء.
وإحالة القانون المدني المصري إلى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة مقصود بها، في واقع الأمر، تمكين القاضي من الفصل في النزاع عن طريق الاجتهاد برأيه على ضوء مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة.
وهنا يثور تساؤل حول المقصود بمبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة ؟
يقصد بالقانون الطبيعي:
مجموعة المبادئ المثالية التي لا تتغير في الزمان أو المكان والتي يتوصل إليها الإنسان بتفكيره وعقله وتأمله، وعن طريقها يهتدي المشرع إلى السبيل الموصل بالتشريع إلى درجة الكمال.
أما قواعد العدالة:
فهي شعور كامن في النفس يكشف عنه العقل السليم، ويوحي به الضمير المستنير ويهدف إلى إعطاء كل ذي حق حقه.
وتعد فكرة القانون الطبيعي وقواعد العدالة من الأفكار الفلسفية القديمة التي لعبت دوراً رئيسياً عند تأسيس المحاكم المصرية للعديد من أحكامها في الحالات التي لم يكن هناك نص تشريعي يحكمها، ويمكننا أن نشير في هذا الصدد
على سبيل المثال لا الحصر، إلى إقرار القضاء لمسئولية صاحب الحق في حالة تعسفه عن استعمال حقه، متى ترتب على فعله ما يضر بحقوق الغير، فضلاً عن إقرار القضاء لحماية حقوق المؤلفين الأدبية والمالية قبل تنظيمها بموجب قانون حماية حق المؤلف القديم رقم ۳۵٤ لسنة ۱۹۵٤ م .
ولعلنا نلاحظ أن مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة يحوطها الإبهام والغموض، إذ ليس هناك مضموناً محدداً يرجع إليه القاضي عند حسمه للنزاع المطروح كما هو الحال بالنسبة للتشريع أو العرف أو مبادئ الشريعة الإسلامية، فالأمر لا يعدو أن يكون مبادئ عامة يستخلصها القاضي ليطبقها في ضوء ظروف وملابسات كل نزاع على حده.
وهذا ما يدفعنا إلى إثارة التساؤل الآتي : ما هو حقيقة الدور الذي يلعبه القضاء عند رجوعه لهذه المبادئ ؟
دور القاضي في استخلاص مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة:
إن لجوء القاضي إلى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة نعني اجتهاده بالبحث عن الحل المناسب في النزاع المطروح أمامه. وقد ورد بمجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المدني تبريرأ لذلك بالقول :
” إن المشرع لم يشأ أن يجاري التقنين المدني السويسري فيأذن للقاضي بأن يطبق في هذه الحالة ما كان يضعه هو من القواعد لو عهد إليه بأمر التشريع (۲/۱) بعد أن أخذ على هذه الصيغة من ناحية الشكل أنها تخول للقضاء حق إنشاء الأحكام القانونية مع أن عمله تتنحصر في تطبيق الأحكام فحسب
ولم يشأ المشرع كذلك أن يحيل القاضي إلى المبادئ العامة في قانون الدولة (مادة ۳ من التقنين المدني الإيطالي الجديد) ، أو إلى مبادئ القانون العامة فحسب (مادة ۱ من التقنين الصيني) ، بل احتفظ بعبارتي”القانون الطبيعي وقواعد العدالة”
وإذا كانت عبارة التقنينات الحديثة تفضل هاتين العبارتين من بعض الوجوه بسبب ما يؤخذ عليهما عادة من الإبهام إلا أن الواقع أن هذه العبارات جميعا لا ترد القاضي إلى ضابط يقيني وإنما هي تلزمه ان يجتهد رأيه حتى يقطع عليه سبيل النكول عن القضاء ، وهي تقتضيه في اجتهاده هذا أن يصدر عن اعتبارات موضوعية عامة لا عن تفكير ذاتي خاص فتحيله إلى مبادئ أو قواعد كلية تنسبها تارة إلى القانون الطبيعي وتارة إلى العدالة وتارة إلى قانون الدولة أو القانون بوجه عام دون نعت أو تخصيص.”
الأمور التي يجب علي القاضي مراعتها عند الاجتهاد برأيه:
الأمر الأول : – يجب على القاضي، عند اجتهاده برأيه، إلا يستند إلى أفكاره ومعتقداته الخاصة، وإنما إلى أفكار ومعتقدات الجماعة التي ينتمي إليها، فمن واجبه أن يستبعد أفكاره ومبادئه التي تصطدم مع أفكار المجتمع الذي يعيش فيه .
الأمر الثاني : – يتعين على القاضي ألا يتستر تحت ستار القانون الطبيعي وقواعد العدالة للخروج على المبادئ الأساسية التي يقرها القانون الوضعي، إذ أن مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة مصدر احتياطي لا يمكن اللجوء إليه إلا في حالة عدم وجود نص في المصادر الأخرى للقانون ..