قانون الشفعة في ظل القوانين المصرية الجديدة – بحث متميز

قانون الشفعة في ظل القوانين المصرية الجديدة – بحث متميز

 

من المسائل التي ابتدأ المشتغلون بالقانون ببحثها والمحاكم بالنظر فيها ما ترتب على صدور القانون نمرة (18) سنة 23 من التأثير على حق الشفعة وقضايا الشفعة.
وقد قرأت بمجلة المحاماة بالعدد الرابع من سنتها الخامسة حكمًا أصدرته محكمة مصر الابتدائية في 3 من نوفمبر سنة 24 ذهبت فيه إلى أن البيع الحاصل بعقد عرفي غير مسجل وغير ثابت التاريخ لا يصلح أن يكون أساسًا لطلب الشفعة لأن المادة الأولى من القانون نمرة (18) سنة (23) رقم (26) يونيه سنة 1923 صريحة في ضرورة تسجيل العقود الناقلة للملكية ولأنه جاء في الفقرة الثالثة أنه لا يكون للعقود غير المسجلة من الأثر سوى الإلزامات الشخصية بين المتعاقدين ولأن حق الشفعة لا يترتب قانونًا إلا على عقد بيع صحيح ناقل للملكية مستوفٍ للشرائط القانونية (راجع هذا الحكم بالصحائف (333)، (34)، (35) من السنة المذكورة).
شوقني هذا الحكم إلى دراسة المسألة فانتهيت من دراستها على غير ما ذهبت إليه محكمة مصر.

والظاهر أن هذه المحكمة رأت الشريعة الإسلامية الغراء تشترط في البيع الذي تثبت فيه الشفعة أن يكون صحيحًا نافذًا أو فاسدًا انقطع فيه حق الفسخ خاليًا من خيار شرط للبائع فاشترطتها هي أيضًا فكانت النتيجة ما رأيت من مذهبها.

ولذلك كان واجبًا عليّ قبل بحث المسألة أن ألفت القارئ إلى أن الشريعة الإسلامية قد أوجبت هذه الشروط تفريعًا على ما قررته للبيع من الأصول والأحكام المخالفة لنظائرها في القانون.

فالبيع في الشريعة الإسلامية هو تمليك البائع في الحال مالاً للمشتري بمال يكون ثمنًا للمبيع وهي تشترط أن يكون المبيع موجودًا وأن يكون مالاً متقومًا مقدور التسليم ولا تجيز إضافته إلى وقت مستقبل ولا تعليقه بشرط أو حادثة مستقبلة وتمنع مشتري المنقول من التصرف فيه قبل قبضه لتوهم الغرر بعجزه عن التسليم بحبس البائع إياه وتجيز لمشتري العقار الذي لا يخشى هلاكه التصرف فيه قبل قبضه بناءً على أن الغرر بهلاكه ممتنع وأن الغرر بظهور الاستحقاق فيه لا يمكن الاحتراز عنه وتجيز تأجيل الثمن ولا تجيز تأجيل المبيع لما يدخله من بيع الدين بالدين ومن الغرر بعدم التسليم – ولم تجز البيع بشرط الخيار للبائع في الثلاثة الأيام المقدرة أجلاً للخيار إلا على اعتبار دخول الشرط على حكم ثبوت الملك لا على نفس البيع لأن البيع عندهم على ما قالوا هو من قبيل الإثباتات التي لا تحتمل الخطر المؤدي للقمار وفي جعل البيع متعلقًا بالشرط خطر تام كان مقتضى القياس أن لا يجوز إلا أن الشارع قد أجازه ضرورة دفع الغبن فيتقدر بقدر الضرورة وهي تندفع بجعل الشرط داخلاً على حكم ثبوت الملك دون سببه الذي هو نفس البيع (راجع صـ 597 من المجلد الثاني من كتاب كشف الأسرار على أصول الأمام البزدوي).

ومن حق فقهائنا وهذه أحكام البيع عندهم أن يشترطوا لثبوت الشفعة أن يكون المبيع عقارًا مملوكًا وأن يكون بيعه صحيحًا أو فاسدًا انقطع فيه حق الفسخ خاليًا عن خيار شرط للبائع حتى إذا سلم المشتري بالشفعة ورضي بها أو قضى القاضي بها تملك الشفيع العقار حالاً لأنهم لما لم يجيزوا إلا بيع الموجود المملوك ولم يسمحوا بإضافته إلى الزمن المستقبل ولا تعليق وجوده أو فسخه على الشرط (إلا شرط الخيار) وخافوا الغرر اليسير في احتمال الفسخ في كثير من أنواع البيوع أوجبوا شروطهم المتقدم ذكرها في البيع الذي يثبت فيه الشفعة تمشيًا مع هذه الأحكام.

وأنتم عالمون بأن أحكام البيع في القانون المدني تخالف هذه الأحكام فالقانون المدني يجيز المواعدة بالبيع والشراء وإضافة البيع إلى الزمن المستقبل وتعليقه على الشرط الموقف والفاسخ وتصرف المشتري قبل قبض المبيع بكافة أنواع التصرفات ولا يخاف الغرر الكثير فضلاً عن اليسير ويحلل كثيرًا من البيوت التي حرمتها الشريعة الإسلامية للغرر أو للجهالة أو للربا ويجيز الأجل في المبيع والثمن على السواء.

ينبغي إذن أن ندرس المسألة على نور القانون المدني وأقوال فقهائه لأن حلها يجب أن يتمشى على أحكامه التي خالف فيها الشريعة الإسلامية مخالفة ظاهرة.

ما هي حقوق المشتري بعقد بيع غير مسجل؟
كان عقد البيع من حقوق التراضي التي تتم بالإيجاب والقبول ولم تكن الكتابة شرطًا من شروط صحته وإنما كانت أداة لإثباته وفق قواعد الإثبات العامة وقد بقي كذلك من عقود التراضي حتى بعد أن صدر القانون المدني وأوجب تسجيله حتى يمكن الاحتجاج به على الغير لأن هذا الوجوب وارد على حكم انتقال الملكية في حق الغير لا على نفس انعقاد البيع.

بقي كذلك من عقود التراضي بعد أن صدر القانون نمرة (18) سنة 23 الذي جعل التسجيل شرطًا أساسيًا في حق المتعاقدين وغيرهم ولم يصبح مطلقًا من العقود الشكلية التي أوجب القانون لانعقادها أو لصحتها إفراغها في شكل كتابي خاص كالهبة أو الرهن العقاري.
يدلكم على ذلك الفقرة الأخيرة في المادة الأولى من القانون المذكور ونصها:
(أنه لا يكون للعقود غير المسجلة من الأثر سوى الإلزامات الشخصية بين المتعاقدين)

وما جاء في المذكرة الإيضاحية من أن الغرض من إيجاد التسجيل جعله شرطًا أساسيًا لانتقال الملكية والحقوق العينية بالنسبة للمتعاقدين ولغير المتعاقدين على السواء فأصبح العقد الذي يتعهد الشخص بموجبه بنقل الملكية كالبيع والهبة لا ينشأ عنه إلا حق شخص أو دين لمصلحة من اكتسب هذا الحق يجوز له بموجبه أن يلزم من صدر منه التصرف بتنفيذ ما تعهد به أي أن ينقل له الملكية فعلاً ولا يتم هذا النقل إلا بالإجراءات القانونية اللازمة لإشهار هذا التصرف…. إلى أن قال… أما من صدر منه التصرف فليس عليه أن يمتنع عن أي عمل يعرقل هذا التسجيل فإذا حال من صدر منه التصرف دون قيام الطرف الآخر بهذا الإجراء اللازم لنقل الملكية فيكون عرضة لرفع دعوى شخصية عليه.

فها أنتم ترون أن اشتراط التسجيل لم يرد على انعقاد البيع فيكون شرط انعقاده أو صحته كاشتراط الرسمية في الرهن العقاري وإنما ورد على حكم انتقال الملكية فجعله متراخيًا إلى ما بعد التسجيل بعد أن كان يقع فورًا بمجرد التراضي.
وعلى هذا يترتب قانونًا على العقد الصحيح غير المسجل:
1 – أنه يلزم البائع بنقل الملكية بعمل الإجراءات القانونية اللازمة لذلك.
2 – ويلزمه بتسليم المبيع للمشتري وبضمانة عدم المنازعة فيه.
3 – ويلزم المشتري بدفع الثمن.

وهذه الحقوق والدعاوى الشخصية التي خولها القانون للمشتري للمطالبة بها هي حقوق مالية يجوز له التصرف فيها بالتنازل عنها بمقتضى القواعد المدونة في باب بيع الديون والمزاعم ويجوز أن يحل القانون فيها شخصًا آخر محله.

ولا تفهمن أن الدعوى الشخصية التي يملكها المشتري على البائع في مطالبته بنقل الملكية تنتهي حتمًا بالحكم على البائع بتعويض مالي بناءً على أن هذا الإلزام هو إلزام بعمل شيء لأن القاضي ملزم أصلاً بالحكم بالوفاء عينًا ما دام حكمه بذلك لا يمس حرية المدين الشخصية وإذا امتنع البائع عن تحرير العقد الذي تم بالتراضي أو التوقيع عليه جاز للمحكمة أن تحكم بإجباره بالحكم عليه بتهديد مالي وأن تقضي بثبوت حصول البيع وبإقامة الحكم في ذلك مقام العقد فيستطيع المشتري تسجيله.
ولسنا مبتدعين في ذلك فهو ما ذكره بودري في مؤلفه في باب البيع فقرة (65) و(66) عند كلامه على الوعد بالبيع وتمامه بقبول الموعود له وامتناع الواعد عن تحرير عقد البيع فقد قال إن الواعد ملزم بتعهد شخصي بإمضاء البيع.
ويجوز للموعود إجباره على الوفاء به بعد أن أصبحت المواعدة بيعًا وشراءً.

وللقاضي أن يحكم بإثبات حصول البيع واعتبار حكمه بمثابة عقد البيع نفسه (وهو رأي بلانيول جزء (2) فقرة (1406) ورأي جرانمولان في كتابه العقود فقرة (228)) (ورأي دوهلس تحت كلمة بيع فقرة (114) وحلمي عيسى فقرة (206)) ولم نرَ لفقيه آخر رأيًا يخالف هذا الرأي.
لنبحث الآن فيما هو حق الشفيع وما هو الأخذ بالشفعة فنقول إن فقهاء الشريعة الإسلامية صرحوا بأن الذي يثبت للشفيع بمجرد البيع هو مجرد الرأي والمشيئة بين أن يأخذ أو يترك ولذلك لا يورث عندهم كما تورث الأملاك والحقوق اللازمة. [(1)].

والشفيع ليس يتملك شيئًا على المشتري لا بطلب التقرير والمواثبة، ولا بطلب الخصومة ولذلك إذا سلم الشفعة على مال فالتسليم جائز ويرد المال على صاحبه لأن تسليم الشفعة ترك التصرف منه للمالك في ملكه وهو لا يستحق المال إلا بمقابلة ملك له ولا ملك له. (راجع المبسوط صحيفة (116) و(118) جزء (14)).
والأخذ بالشفعة على المختار عندهم هو فسخ في حق إضافة العقد إلى المشتري مع بقاء أصله ليقوم الشفيع مقام المشتري كأن البائع باعه وخاطبه بالإيجاب وإذا أثبتوا للشفيع خيار الرؤية والعيب فلأن العقد قد أضيف إليه وهو يقتضي السلامة فيكون له حق الرد بهما (البحر الرائق جزء (8) صـ (131)) وإذا أوجبوا على الشفيع أن يأخذ من المشتري بثمن حال إذا كان الثمن مؤجلاً فلأن الأجل ثبت بالشرط وليس من لوازم العقد واشتراطه في حق المشتري لا يكون اشتراطًا في حق الشفيع لتفاوت الناس فيه ((135) البحر الرائق جزء (8)).

ومن تفريعاتهم (مريض باع دارًا بألفي درهم وقيمتها ثلاثة آلاف درهم ولا مال له غيرها ثم مات وابنه شفيع الدار فلا شفعة للابن فيها لأنه لو باعها من أبيه بهذا الثمن لم يجز لأنه إما أن يأخذها كما أخذها المشتري فيكون ذلك وصية من المريض لوارثه ولا وصية لوارث أو يأخذها بثلاثة آلاف وذلك لا يستقيم لما فيه من إثبات ثمن في حق الشفيع ليس بثابت في حق المشتري (راجع المبسوط في شفعة المريض صـ (150) جزء (14)) وهذا المعنى واضح في المادة الثالثة عشر من قانون الشفعة التي نصها (يحل الشفيع بالنسبة للبائع محل المشفوع منه في كافة ما كان له وعليه من الحقوق على أن المشتري إذا استحصل على تأجيل الثمن لا ينتفع الشفيع من هذا التأجيل إلا برضاء البائع وإذا ظهر بعد الأخذ بالشفعة أن العقار المشفوع مستحق للغير فليس للشفيع أن يرجع إلا على البائع).

والمحاكم المختلطة تصرح في كثير من أحكامها بأن ليس للشفيع أثناء قيام دعوى الشفعة حق في العقار المشفوع (jus in re) وأن دعوى الشفعة ليست إلا دعوى المطالبة بإحلال الشفيع محل المشتري في الصفقة (jus ad rem) وأنه لا يملك العقار المشفوع إلا بالتراضي أو بحكم القاضي (حكم محكمة الاستئناف المختلطة في 20 ديسمبر سنة 1906 مجلة (البلتان) سنة 19 صـ (42) وحكمها في 6 يونية سنة 1907 سنة 19 صـ (298) وحكمها في 17 إبريل سنة 17 سنة 29 صـ (372)).
وما دام لا يكون للشفيع عند طلب الشفعة وعند قيام دعوى الشفعة حق عيني في العقار المشفوع وما دامت دعوى الشفعة ليست إلا دعوى المطالبة بإحلال الشفيع محل المشتري في حقوقه وواجباته وجب أن تصح دعوى الشفعة في عقار بيع بعقد عرفي غير مسجل سواء أكان منجزًا أم معلقًا وجوده أو فسخه على شرط (راجع دوهلس تحت كلمة شفعة فقرة (15)، (17)) فيخلف الشفيع المشتري في جميع حقوقه وواجباته عند التراضي أو عند حكم القاضي.
ويكون للشفيع مطالبة البائع بالقيام بالإجراءات اللازمة لإشهار التصرف وإجباره على الوفاء بها وللمحكمة أن تحكم عند امتناعه بإثبات حصول البيع واعتبار حكمها بمثابة عقد على ما أسلفناه.

– هذا ومما يؤنسك في الاعتقاد بصحة ما أوردناه أن فقهاء القانون الفرنسي عند شرحهم للمادة (841) من القانون المدني التي تقرر أحكام الاسترداد الوراثي (المقابلة للمادة (462)) اعتبروا دعوى الاسترداد دعوى حلول تفسخ إضافة العقد للمشتري ليعتبر الشفيع ملتقيًا المبيع من البائع مباشرةً (راجع بودري فقرة (1670) الجزء الثالث في المواريث).

وفرعوا على ذلك فقالوا بأنه ليس من الضروري أن يكون عقد البيع صحيحًا وجوزوا الاسترداد في البيع الباطل وفي البيع المعلق على شرط توقيفي أو فاسخ على أن يبقى حكم الشفعة خاضعًا لحكم عقد البيع نفسه (راجع بودري نوتة (1612) و(1614) من الكتاب عينه).
ولذلك قالوا إنه لا محل لتسجيل حكم الاسترداد لأنه فسخ والقانون لا يوجب تسجيل الفسوخ.

ومن هذا ترون أن جميع القواعد القانونية المدونة في باب البيع وجميع المبادئ المقررة في فقه القوانين تسمح بأن يستنتج أن القانون نمرة (18) سنة 1923 لا يوجب اشتراط كون البيع صحيحًا ناقلاً للملكية خاليًا من خيار شرط للبائع كما اشترطت الشريعة الإسلامية ومحكمة مصر في حكمها السابق الذكر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[(1)] الشفعة عند الحنفية من الخيارات التي لا تورث ولا تباع لأن الأصل عندهم هو أن يورث المال دون الحقوق إلا ما قام دليله من إلحاق الحقوق بالأموال وهي تورث عند المالكية والشافعية لأن الأصل عندهم أن تورث الحقوق والأموال إلا ما قام دليله على مفارقة الحق في هذا المعنى للمال (176 من الجزء الثاني من بداية المجتهد لابن رشد في بيع الخيار).

حامد فهمي
المحامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *