الإفراج بالضمان وفقا لقانون الإجراءات الجنائية

الإفراج بالضمان وفقا لقانون الإجراءات الجنائية.

لا يعني إنتهاء التحري إطلاق سراح المقبوض عليه، وإنما يتعين أن يتم ذلك بعد التيقن من حضوره في أي مرحلة لاحقة من إجراءات التحقيق أو المحاكمة، وهذه الأحكام يجب أن تقوم على موازنة بين أمرين الأول إفتراض البراءة في المقبوض عليه وما يستلزمه من عدم إخضاعه لأي عقاب ما لم تتم إدانته بإرتكاب جريمة وذلك يوجب الإفراج عنه، والثاني حق المجتمع في توقيع العقاب على من يرتكب جريمة وما يتطلبه من ضرورة إلزامه بالحضور في الإجراءات التي تقتضي حضوره مما يلزمه بتوفير الضمان لذلك .

لم تعالج أحكام قانون الإجراءات الجنائية المسألة بإعتبار أن الإفراج بالضمان حقاً للمقبوض عليه مما نجم عنه أن خلت أحكامه تماماً من تنظيم إجراءات النظر فى الأمر، فأصبح مسألة يقرر فيها القاضى دون أن يسمع المتهم، أو حتى يراه، و أن قيد القانون سلطة القاضى فى الإفراج بالضمان لجهة رفضه وليس الأمر به.

الجرائم التي لا يجوز الإفراج فيها بضمان

منع القانون الإفراج بالضمان فى الجرائم المعاقب عليها بالإعدام أو القطع حداً مقتفياً أثر القانون الإنجليزى فى القرن التاسع عشر و الذى لم يعد متسقاً مع الفقه الحديث الذى إستقر على أن حبس المتهم السابق للإدانة يجب أن يعامل بإعتباره إجراءاً إستثنائياً، يؤدى بالضرورة إلى إنتهاك حرية القبوض عليه الشخصية والإخلال بحقه في المحاكمة العادلة، لأن بقاء المقبوض عليه في الحراسة يمنعه من تحضير دفاعه، بحيث يلزم حصره فى أضيق الحدود.

لذلك فقد عدلت القوانين الحديثة عن الإفتراض القانوني بأن المقبوض عليه بسبب إتهام يحتمل أن يحكم عليه بالإعدام يجب أن يبقى قيد الحجز لحين محاكمته ،وذلك في مقابل النظر لكل حالة على حدة، فلم يعد مجرد وجود ذلك الإتهام حاجزاً بين المقبوض عليه وبين الإفراج عنه بكفالة، وقد كان للقضاء الإنجليزى فضل الريادة فى ذلك فحتى قبل إلغاء عقوبة الإعدام ،سمح القضاء بإطلاق السراح بالضمان حتى في حالة المقبوض عليهم فى جريمة القتل العمد ،

ومن أوائل القضايا التى أتخذت هذا المنحى قضية حكمت فى الثلاثينات من القرن الماضى، سمح فيها القاضي بالإفراج بالضمان عن إمرأة في ليدز متهمة بقتل ولدها الذى يعانى من عاهة عقلية والبالغ من العمر خمس سنوات لإعتقادها بأن السماء تطلب منها ذلك ،وذلك رغم أنه لم يكن هنالك إدعاء بأنها تعاني من مرض عقلي، وربما يكون السبب أن إحتمال الحكم عليها بالإعدام لم يكن وارداً في ذهن القاضي، وقد كثر إطلاق سراح المقبوض عليهم بجرائم القتل عقب صدور قانون القتل عام 1957م، وتظهر الإحصائية الجنائية في عام 1969م أنه من بين 287 متهم بالقتل في إنجلترا وويلز في ذلك العام تم الإفراج بالضمان عن 24 منهم .

الحق فى الإفراج بالضمان

مهد ذلك لقانون عام 1976م والذي جعلت المادة 4 منه الإفراج بالضمان حقاً للمقبوض عليهم ،وقد فسرت المحاكم الإنجليزية ذلك بوجود إفتراض لصالح الإفراج بالضمان ،وهذا يعني أن على الإتهام أن يثبت ضرورة الإبقاء على المقبوض عليه رهن الإحتجاز، و في حالة تساوي الإحتمالات يكون القرار لصالح الإفراج بالضمان،

كما ويعني أن الحق في الإفراج بالضمان لا يتوقف على طلبه فعلى القاضي أن يقرر في حق المقبوض عليه في الإفراج بالضمان حتى ولو لم يطلب منه ذلك، بل وحتى لو وافق على طلب الشرطة بتجديد حبسه ،لأن قبول المقبوض عليه للبقاء في الحراسة لا يلزم القاضي، والمعيار الوحيد هو ما إذا كان البقاء قيد الإحتجاز ضرورياً وفق القانون أم لا فإن لم يجده كذلك فإن عليه منح المقبوض عليه حقه ولو لم يطلبه .

وهذا لا يعنى أن حق المتهم فى الإفراج بالضمان هو حق مطلق فهو بالقطع ليس كذلك ،ولكن يعنى ذلك أن تحديد جرائم بعينها لا يجوز الإفراج فيها بالضمان لم يعد مقبولاً، وإن جاز للمحكمة وفق معايير معينة حرمان المقبوض عليهم بإرتكاب جرائم خطيرة من الإفراج بالضمان، إلا أنه في هذه الحالة على السلطات العامة أن تسرع في إجراءات التحري والمحاكمة بحيث لا تطول بدرجة تفتقد المعقولية أو تؤدي إلى توقيع عقاب على متهم لم تتم محاكمته بعد، وقد كنا تعرضنا لذلك تفصيلاً في الأسبوع الماضي وسقنا سوابق عديدة من محاكم حقوق الإنسان الإقليمية في أمريكا وأوربا وأفريقيا .

عدم جواز منع الإفراج بالضمان مسبقاً

عند تقديم مشوع قانون الإفراج لعام 98 فى إنجلترا كانت المادة 25 منه تمنع الإفراج بالضمان للمتهمين بجرائم القتل والإغتصاب متى ما كان لهم سوابق، وقد تم تحدى ذلك أمام لجنة حقوق الإنسان الأوروبية في دعوى كاباليرو ضد المملكة المتحدة، فقررت اللجنة أنه بغض النظر عن طبيعة الإتهام الذي يواجهه المقبوض عليه والعقوبة التي قد تترتب عليه،

يجب أن يكون للمحكمة السلطة التقديرية في جميع الأحوال في أن تفحص كل الوقائع حتى تتوصل لقرار حول ما إذا كانت هنالك بالفعل حاجة حقيقية مبنية على المصلحة العامة تبرر عدم إحترام حق المقبوض عليه في الحرية، مع الأخذ في الإعتبار بإفتراض براءته . لذلك فإن رفض الإفراج عن المقبوض عليه فقط بسبب أنه معرض لإتهام معين يخرق حقه الدستوري في إحترام حقه في الحرية.

وقد أقر المحامي العام الإنجليزى في أثناء نظر القانون أمام مجلس اللوردات ،بأنه مهما بلغت خطورة الجريمة فإن تقييد سلطة الشرطة والمحكمة في فحص حالات الإفراج بالضمان فيها لا يحقق العدالة . وقد أقرت حكومة المملكة المتحدة بعد ذلك لدى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية بعدم صحة المادة، وبالتالي فقد تعدلت المادة لتعطي المحكمة سلطة النظر في الإفراج في كل الجرائم .

السماع الإختصامى و تجديد الحجز

إذا توصلنا لأن الإفراج بالضمان هو حق للمقبوض عليهم فإن ذلك يحتم أن يتبنى القانون إجراءات للتقرير فى تلك المسألة تحفظ ذلك الحق ،وهذا ما أغفله القانون السودانى تماما، فلم يحدد كيفية سماع البينات والدفوع بغرض التوصل لقرار حول الإفراج بضمان وهو ما نجم عنه خرق الحقوق الأساسية للمقبوض عليهم، والذين غالباً ما يتم تجديد حبسهم فى اليومية فى دقائق معدودة فى جلسة لا يحضرها المتهم ولا يخطر بها .

وقد إشترطت محكمة حقوق الإنسان الأوروبية أن يسبق رفض الإفراج بالضمان سماعاً إختصامياً Adversarial ،ولكى يكون كذلك إشترطت أن تتوفر فيه عدة شروط أهمها المساواة في الأسلحة Equality of Arms ،والتي تعنى إتاحة فرصة متساوية للطرفين، وقد قررت المحكمة في دعوى نيكولوفا ضد بلغاريا أن إتاحة يومية التحري لمحامي الدفاع قبل يومين فقط من تاريخ الجلسة المحددة لسماع البينة حول الإفراج يخل بمبدأ المساواة في الفرص، لأن الإتهام لم يكشف عن المستندات التي يستند عليها في طلب رفض إطلاق السراح بالضمان، وقد قيل في دعوى R V. DPP, EXPARTE LEEالإنجليزية أنه يتوجب على وكلاء النيابة التحلي بالمسئولية التي تجعلهم واعين بالحاجة لأن يكشفوا للدفاع عن المعلومات والمستندات التي تساعده في دعواه بغرض إطلاق سراح المقبوض عليه بالضمان ،والتي تكون موجودة في السجلات.

كم نحن بعيدين عن كل ذلك بالنسبة للفقه الحديث والذى يرى حتى القانون الإنجليزي قاصراً فى هذا الصدد و لا يوفر سماعاً إختصامياً في مسألة الإفراج بضمان، لأنه يجيز تقديم الطلبات وتدعيمها بشهادة بدون حلف اليمين، ولأنه لا يتيح مناقشة الشهود ة في كل الأحوال، كما و أن القضاء درج على إعتبار بينة الإتهام موثوق بها لأنها تؤخذ من السجلات الرسمية، في حين لا تحظى بينة الدفاع بهذه الثقة

حضور المقبوض عليه لإجراءات تجديد الحبس

وظهور المقبوض عليه بشخصه أو بواسطة ممثله القانوني عند التقرير في أمر تجديد الحبس هو ضمان مهم لا ينص عليه قانوننا و لا يكفى منشور رئيس القضاءالذى يلزم بذلك إذ أنه لا يُتبع في أغلب الدعاوي ،وقد منعت القوانين الحديثة كالمادة 128 (أ) من قانون 1980 الإنجليزية مثلاً تجديد الحبس غيابياً ،بمعنى ضرورة إتاحة الفرصة للمقبوض عليه أو محاميه في الظهور لدى طلب تجديد الحبس، والنظر في دفوعه وبيناته قبل إصدار الأمر،

ورغم أن القانون في إنجلترا لم يكن قبل ذلك ينص على حق المقبوض عليه أن يحضر شخصياً أمام القاضي عند فحص الإفراج بالضمان إلا أن القضاة كانوا بشكل عام يتعاملون مع المسألة بإعتبار أنه من حق المقبوض عليه ذلك، ولذلك فإنه عندما يكون المقبوض عليه من النوع الذي قد يحدث فوضى في المحكمة فإن القضاة كانوا ينتقلون إليه في السجن لسماعه، كما كانوا يعلمون أن إتخاذ قرار بدون حضور المقبوض عليه شخصياً- ما لم يكن ذلك برضاه – يشكل سبباً لإلغاء القرار الصادر في الأمر .

وفقاً لقانون 1998 في إنجلترا، فإن المقبوض عليه يعتبر حاضراً الإجراءات إذ كان في السجن، وتم توصيله بالفيديو بقاعة المحكمة التي تتم فيها الإجراءات ،بحيث يمكنه أن يرى ويسمع ما يدور في المحكمة، ويمكن أيضاً لمن في المحكمة أن يروه ويسمعوه .

وقد ذهبت محكمة حقوق الإنسان الأوروبية إلى أنه ليس ضرورياً حضور المقبوض عليه شخصياً في السماع حول الإفراج بضمان طالما أنه ممثل بمحامي وبشرط أن يكون ذلك بإرادة المقبوض عليه وإن كانت قد حادت عن ذلك في دعوى سانسير ريسى ضد سويسرا حين دفع مقدم الطلب أنه مُنع من الحضور شخصياً، وأن ذلك قد حرمه من مراقبة أداء محاميه وتقديم طلبات شفاهية للمحكمة إذا دعت الحاجة لذلك،

لم تر المحكمة في عدم حضور المدعى الجلسات الإفراج بالضمان في غيبة أي بينة عن معلومات المدعى القانونية ما أضر بقضية الدفاع ،وإن كانت أقرت المدعى على أن عدم إتاحة الفرصة له للرد كتابة على مذكرة وزارة الخارجية السويسرية يخل بمبدأ الأسلحة المتساوية ،و رأي المحكمة فى حضور المتهم مخالف لرأي نفس المحكمة في دعوى جروزينيس ضد ليتوانيا ،فقد ذكرت أن وجود المقبوض عليه شخصياً كان مهم لمساعدة محاميه في السماع بمده بالمعلومات اللازمة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *