دراسة لمحل الإلتزام وشرط أن يكون المحل قابل للتعامل فيه – بحث قانوني

دراسة لمحل الإلتزام وشرط أن يكون المحل قابل للتعامل فيه – بحث قانوني

 

شرط أن يكون المحل قابل للتعامل فيه (dans le commerce) (النظام العام والآداب)
 متى يعتبر الشيء غير قابل للتعامل فيه:
يكون الشيء غير قابل للتعامل فيه، فلا يصلح أن يكون محلا للالتزام، إذا كانت طبيعته أو الغرض الذي خصص له يأبى ذلك، أو إذا كان التعامل فيه غير مشروع.

فالشيء لا يكون قابلا للتعامل فيه بطبيعته إذا كان لا يصلح أن يكون محلا للتعاقد، كالشمس والهواء والبحر. ويرجع عدم القابلية للتعامل إلى استحالته ( [1] ) .
وقد يصبح التعامل ممكناً في هذه الأشياء من بعض النواحي، فأشعة الشمس يحصرها المصور (الفوتوغرافي)، والهواء يستعمله الكيمائي في أغراضه، والبحر يؤخذ من مائة ما يصلح أن يكون محلا للامتلاك. فعند ذلك نصبح الشمس والهواء والبحر قابلة للتعامل فيها من هذه النواحي الخاصة، وتصلح إذن أن تكون محلا للالتزام.

وقد يكون الشيء غير قابل للتعامل فيه بالنظر إلى الغرض الذي خصص له. فالملك العام لا يصح بيعه ولا التصرف فيه لأنه مخصص لمنفعة عامة، وتخصيصه هذا يتنافى مع جواز التصرف فيه. والمال الموقوف، يجعل ريعه لسلسلة من المنتفعين، يقتضي ألا يجوز التصرف فيه ما دام وقفاً. وعدم القابلية للتعامل هنا نسبي. فالملك العام إذا كان لا يصلح محلا للتصرف فإنه يصلح محلا للإيجار، كما في شغل جزء من الطريق العام أو منح رخصة لإقامة حمامات أو ” كابينات ” على شواطئ البحار. والمال الموقوف إذا كان لا يجوز بيعه فإنه يجوز إيجاره. والضابط في كل هذا أن عدم القابلية للتعامل إنما يرجع إلى الغرض الذي خصص الشيء له، فكل تعامل يتنافى مع هذا الغرض لا يجوز، أما التعامل الذي لا يتنافى معه فهو جائز.

وقد يكون الشيء غير قابل للتعامل لأن ذلك غير مشروع. وعدم المشروعية يرجع إما إلى نص في القانون أو إلى مخالفة هذا التعامل للنظام العام أو للآداب. على أن نص القانون الذي يمنع من التعامل في الشيء يكون مبنياً على اعتبارات ترجع هي ذاتها إلى النظام العام أو إلى الآداب. فما ورد فيه نص يحرم التعامل فيه إنما هو في الوقت عينه مخالفة للنظام العام أو للآداب أولهما معاً. ووجود النص دليل على عناية المشرع بالأمر فآثر أن يورد له نصاً. أو هو إيضاح في مقام قد يكون عدم النص فيه مؤدياً للغموض، كالنص الذي يحرم التعامل في التركة المستقبلة. أو هو تحديد لأمر يرى المشرع تحديده، كما حدد الربا الفاحش. أو هو تحريم لأمر تقضي ظروف البلد الخاصة بتحريمه، كما حظر المشرع المصري الاتجار في الحشيش والمخدرات وكما حرم ببيع الوفاء. فيمكن القول إذن أن المحل يكون غير مشروع إذا كان مخالفاً للنظام العام أو الآداب، سواء ورد نص في القانون بتحريمه أو لم يرد. وتقرر المادة 135 من القانون المدني الجديد هذه القاعدة العامة في العبارات الآتية: ” إذا كان محل الالتزام مخالفاً للنظام العام أو الآداب كان العقد باطلا ( [2] ) ” . فلا يجوز إذن أن يكون الشيء المخالف للنظام العام أو الآداب محلا للالتزام، ويستتبع ذلك أنه لا يجوز الاتفاق على ما يخالف النظام العام والآداب.

فإذا عرفنا النظام العام والآداب أمكن أن نقرر ما إذا كان نص معين في القانون يعتبر من النظام العام أو الآداب فلا يجوز الاتفاق على ما يخالفه، وأمكن أيضاً أن نقرر حتى عند انعدام النص ما إذا كان الشيء مخالفاً للنظام العام أو الآداب فلا يصح أن يقوم عليه الالتزام. وهذا ما نتولى الآن بحثه.

 النظام العام والآداب ( * ) L’ordre public et les bonnes mœurs:
القواعد القانونية التي تعتبر من النظام العام هي قواعد يقصد بها إلى تحقيق مصلحة عامة، سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، تتعلق بنظام المجتمع الأعلى وتعلو على مصلحة الأفراد. فيجب على جميع الأفراد مراعاة هذه المصلحة وتحقيقها، ولا يجوز لهم أن يناهضوها باتفاقات فيما بينهم، حتى لو حققت هذه الاتفاقات لهم مصالح فردية، فإن المصالح الفردية لا تقوم أمام المصلحة العامة. ويلاحظ أن دائرة النظام العام تضيق إذا تغلبت نزعة المذاهب الفردية، فإن هذه المذاهب تطلق الحرية للفرد، فلا تتدخل الدولة في شؤونه، ولا تحميه إذا كان ضعيفاً، ولا تكبح جماحه إذا كان قوياً، فإذا تغلبت النزعة الاشتراكية ومذاهب التضامن الاجتماعية اتسعت دائرة النظام العام، وأصبحت الدولة تقوم بشؤون كانت تتركها للفرد، وتتولى حماية الضعيف ضد القوى. بل هي تحمي الضعيف ضد نفسه، كما رأينا ذلك في عقود الإذعان وفي نظرية الاستغلال. ولا تستطيع أن نحصر النظام العام في دائرة دون أخرى، فهو شيء متغير، يضيق ويتسع حسب ما يعده الناس في حضارة معينة ” مصلحة عامة “. ولا توجد قاعدة ثابتة تحدد ” النظام العام ” تحديداً مطلقاً يتمشى على كل زمان ومكان، لأن النظام العام شيء نسبي، وكل ما تستطيع هو أن نضع معياراً مرناً يكون معيار ” المصلحة العامة “، وتطبيق هذا المعيار في حضارة معينة يؤدي إلى نتائج غير التي نصل إليها في حضارة أخرى ( [3] ) .

والآداب، في امة معينة وفي جيل معين، هي مجموعة من القواعد وجد الناس أنفسهم ملزمين باتباعها طبقاً لناموس أدبي يسود علاقاتهم الاجتماعية. وهذا الناموس الأدبي هو وليد المعتقدات الموروثة والعادات المتأصلة وما جرى به العرف وتواضع عليه الناس. وللدين أثر كبير في تكييفه. وكلما اقترب الدين من الحضارة، كلما ارتفع المعيار الخلقي، وزاد التشدد فيه. ومن هنا نرى أن العوامل التي تكيف الناموس الأدبي كثيرة مختلفة. فالعادات والعرف والدين والتقاليد وإلى جانب ذلك، بل في الصميم منه، ميزان إنساني يزن الحسن والقبح، ونوع من الإلهام البشري يميز بين الخير والشر، كل هذه العوامل مجتمعة توجد الناموس الأدبي الذي تخضع الناس له، ولو لم يأمرهم القانون بذلك. ومعيار الآداب أو ” الناموس الأدبي ” ليس معياراً ذاتياً يرجع فيه كل شخص لنفسه ولتقديره الذاتي، بل هو معيار اجتماعي يرجع فيه الشخص لما تواضع عليه الناس. وهو في ذات الوقت معيار غير ثابت، يتطور تبعاً لتطور الفكرة الأدبية في حضارة معينة فهناك أمور كانت تعتبر مخالفة للآداب فيما مضى، كالتامين على الحياة والوساطة في الزواج والعرى، أصبحت الآن ينظر لها نظراً آخر. وهناك بالعكس أمور أصبحت الآن مخالفة للآداب، كالاسترقاق وإدخال المهربات في بلاد أجنبية، وكانت من قبل غير ذلك ( [4] ) .

ونرى من ذلك أن النظام العام والآداب هما الباب الذي تدخل منه العوامل الاجتماعية والاقتصادية والخلقية، فتؤثر في القانون وروابطه، وتجعله يتمشى مع التطورات الاجتماعية والاقتصادية والخلقية في الجيل والبيئة. وتتسع دائرة النظام العام والآداب أو تضيق تبعاً لهذه التطورات، وطريقة فهم الناس لنظم عصرهم ، وما تواضعوا عليه من آداب ، وتبعاً لتقدم العلوم الاجتماعية . كل هذا يترك للقاضي يفسره التفسير الملائم لروح عصره ، فالقاضي يكاد إذن يكون مشرعاً في هذه الدائرة المرنة ، بل هو مشرع يتقيد بآداب عصره ونظم أمته الأساسية ومصالحها العامة ( [5] ) . ونحن في العصور الحاضرة نشهد تغلب النزعة الاشتراكية واتساع دائرة النظام العام من ناحية، ونشهد من ناحية أخرى تأثر القانون المضطرد بالعوامل الخلقية، حتى صح أن يسمى هذا العصر بعصر تغلغل الروح الاشتراكية والروح الخلقية في القانون (socialization et moralization du droit) ( [6] ) . على أن الفكرتين اللتين تسودان النظام العام والآداب، فتبعثان فيهما الخصب والمرونة والقابلية للتطور هما:
(أولاً) فكرة المعيار، فمعيار النظام العام هو المصلحة العامة، ومعيار الآداب هو الناموس الأدبي، وهما معياران موضوعيان لا ذاتيان.
(وثانياً) فكرة النسبية، فلا يمكن تحديد دائرة النظام العام والآداب إلا في امة معينة، وفي جيل معين.
وخير سبيل لتحديد ما يراد بالنظام العام والآداب أن نورد تطبيقات عملية لذلك، فنستعرض اتفاقات تخالف النظام العام، وأخرى تخالف الآداب، في عصرنا الحاضر.

المطلب الأول الاتفاقات التي تخالف النظام العام
روابط القانون العام وروابط القانون الخاص:
حاول بعض الفقهاء حصر النظام العام في دائرة روابط القانون العام، وهذه نظرة فردية متطرفة يكذبها الواقع، فإن النظام العام يدخل دون شك في روابط القانون الخاص، ولا يقتصر على دائرة القانون العام. وقد أريد التمييز في روابط القانون الخاص بين روابط الأحوال الشخصية وروابط المعاملات المالية، فالأولى تعتبر من النظام العام والأخرى لا تعتبر كذلك، وهذه أيضاً نظرة ضيقة للنظام العام، فمن روابط المعاملات المالية ما يحقق مصلحة عامة كما يتبين ذلك من التطبيقات التي سنوردها.

 روابط القانون العام
 أنواع هذه الروابط:
القانون العام ينظم روابط الأفراد بالهيئات العامة وروابط الهيئات العامة بعضها ببعض. وهذا التنظيم ينظر فيه إلى المصلحة العامة، فلا يجوز للأفراد أن يتفقوا على ما يتعارض مع هذه المصلحة تحقيقاً لمصالحهم الفردية.
ويشمل القانون العام فيما يشمله: (1) القواعد الدستورية والحريات العامة. (2) النظم الإدارية والمالية. (3) النظام القضائي. (4) القوانين الجنائية. ونورد أمثلة لكل فرع من هذه الفروع.

 القواعد الدستورية والحريات العامة:
فالقاعدة الدستورية التي تقرر حرية الترشيح والانتخاب تعتبر من النظام العام، ولا يجوز لمشرح أن ينزل عن ترشيحه لمرشح آخر بمقابل أو بغير مقابل، كما لا يجوز لناخب أن يتفق مع مرشح على إعطائه صوته، وكل اتفاق من هذا القبيل باطل لمخالفته للنظام العام. كذلك النائب في هيئة تشريعية حر في تكوين رأيه في المسائل التي تعرض على الهيئة التي ينتمي إليها، فلا يجوز أن يقيد نفسه باتفاق على أن يجعل صوته لرأي معين، كما لا يجوز له النزول عن عضويته.
والحريات العامة التي قررها الدستور هي أيضاً من النظام العام، وذلك كالحرية الشخصية. وما يتفرع عنها من حرية الإقامة، وحرية الزواج، وحرمة النفس والحرمة الأدبية. وحرية الدين والاعتقاد، وحرية الاجتماع، وحرية العمل والتجارة.

فلا يجوز لأحد النزول عن حريته الشخصية (أنظر المادة 49 من القانون المدني الجديد ) . ولا يجوز لأحد أن يتعهد بخدمة آخر طول حياته أو طول حياة المخدوم، فإذا كان عقد العمل لمدة حياة العامل أو رب العمل أو لأكثر من خمس سنوات، جاز للعامل بعد انقضاء خمس سنوات أن يفسخ العقد دون تعويض على أن ينظر رب العمل إلى ستة أشهر ( أنظر الفقرة الثانية من المادة 678 من القانون المدني الجديد ) .

وتنص المادة السابعة من الدستور على أنه ” لا يجوز إبعاد مصري من الديار المصرية. ولا يجوز أن يحظر على مصري الإقامة في جهة ما ولا أن يلزم الإقامة في مكان معين إلا في الأحوال المبينة في القانون ” ومع ذلك يجوز أن يتقيد شخص بتحديد محل إقامته لمدة معينة إذا كان هناك سبب مشروع لذلك، كما يجوز أن يتعهد شخص بعدم الإقامة في جهة معينة إذا وجد مبرر قوي لهذا التعهد. وفي الحالتين يكون جزاء الإخلال بالالتزام هو التعويض لا التنفيذ العيني.

وحرية الزواج من النظام العام. فإذا تعهد شخص إلا يتزوج مطلقاً، كان هذا التعهد في الأصل باطلا، كما إذا تعهدت امرأة لخليلها السابق إلا تتزوج أصلاً. ومع ذلك قد يكون التعهد صحيحاً إذا وجد سبب مشروع يبرره، كما إذا تعهدت زوجة لزوجها إلا تتزوج بعد ترملها وكان لها من زوجها أولاد يريد الزوج أن يكفل لهم رعاية أمهم بعد موته. وإذا كان التعهد صحيحاً، فلا يكون جزاء الإخلال به بطلان الزواج، بل يدفع المتعهد تعويضا عن إخلاله بالتزامه، ويغلب أن يكون الجزاء هو حرمان المتعهد من الهبة أو الوصية التي أعطيت له أو من المعاش الذي رتب له. وإذا تعهد شخص بان يتزوج من شخص معين، فهو غير مقيد بتعهده، ويجوز له العدول عن هذه الخطبة أو عن هذا التعهد، ولا يكون مسئولا بمقتضى العقد وإن جاز أن يلتزم بالعمل غير المشروع لفسخه الخطبة في وقت غير لائق أو لارتكابه خطأ.

وللنفس حرمة لا يجوز انتهاكها باتفاقات تتعارض مع سلامتها. فيكون باطلا كل اتفاق يتعهد بمقتضاه شخص أن يعرض سلامته لخطر لا توجبه الضرورة، كالاتفاق على المبارزة أو الملاكمة أو المصارعة، وأن كان هناك ميل في الوقت الحاضر إلى إباحة التعاقد في الألعاب الرياضية حتى لو كانت عنيفة كالملاكمة والمصارعة لانتشار هذه الألعاب ورضاء الرأي العام عنها . وكحرمة النفس الحرمة الأدبية لا يجوز انتهاكها. فلا يصح أن تنازل مؤلف عن حقه الأدبي في إدخال ما يراه من التعديل على تأليفه ، حتى لو كان قد نزل عن حقوقه المادية في مؤلفه .

ويكون باطلا كل اتفاق يقيد من حرية الشخص في اعتناق الدين الذي يختاره ، وكل اتفاق يقيد الشخص بعقيدة معينة أو بمذهب معين من مذاهب التفكير .

ولكل شخص الحق في أن يجتمع مع غيره، في هيئة أو جماعة، وأن ينتمي إلى ما يشاء من الجمعيات ما دام الغرض الذي تألفت من أجله هذه الجمعيات مشروعاً. وأكثر ما يطبق هذا المبدأ في حالة نقابات العمال، فلكل عامل الحق في الانضمام إلى النقابة التي يختارها، وهو حر كذلك في إلا ينضم إلى نقابة ما . على أنه قضى بصحة اتفاق تعهد صاحب العمل بمقتضاه إلا يستخدم من العمال إلا من كان منضما إلى نقابة، فتقيدت بذلك حرية العامل على نحو ما في أن يبقى بعيداً عن النقابات ( [7] ) .

ولكل شخص الحرية الكاملة في اختيار العمل الذي يتخذه حرفة له وفي القيام بما يشاء من أنواع التجارة. ولا يجوز أن يحرم شخص من هذه الحرية ولو رضى بهذا الحرمان. وأكثر ما ترد القيود الاتفاقية على حرية التجارة والعمل في عقود بيع المتاجر وفي عقود العمل . فإذا باع صاحب المتجر متجره، فهو ملزم بضمان تعرضه الشخصي بمقتضى عقد البيع ذاته . ولا يجوز له بناء على ذلك أن يدير متجراً آخر ينتزع به عملاء المتجر القديم ، وإلا كان متعرضاً للمشتري ووجب الضمان . ولكن المشتري لا يكتفي عادة بهذا الضمان الذي يقرره القانون ، بل يشترط في عقد البيع أن يكف البائع عن العمل في هذا النوع من التجارة . كذلك كثيراً ما يشترط صاحب العمل على من يستخدمه في عمله إلا يلتحق بعمل مماثل إذا انقطع عن عمله الأول ، فيأمن بذلك على اسرار الصنعة أن يستغلها العامل في منافسته بعد أن يكون قد ألم بها عنده . فإذا تعهد شخص بألا يعمل في تجارة معينة أو يلتحق بفعل معين ، فقد قيد بذلك من حريته في التجارة والعمل . وقد يكون هذا القيد مخالفاً للنظام العام . وكان القضاء في فرنسا وفي مصر يبطل القيد لمخالفته للنظام العام إذا كان مطلقاً غير محدود لا بزمان ولا بمكان . أما إذا قدي بزمان ، كأن يتعهد الشخص بأن يمتنع عن العمل أو التجارة مدة معينة ، أو بمكان ، كان يلتزم المتهم بالامتناع عن العمل أو التجارة في مكان معين ، كان التعهد صحيحا ( [8] ) . تم بدا ميل من جانب القضاء إلى العدول عن هذه القواعد الجامدة واستبدال معيار مرن بها ، فلا يكون المدار في الصحة والبطلان أن يتقيد التعهد بزمان أو بمكان أو لا يتقيد ، بل المهم أن يكون التعهد معقولا ( raisonnable ) لا تعسف فيه . ولا يكون هناك تعسف إذا كان التعهد لازماً لحماية الدائن من منافسة المدين غير المشروعة حتى لو كان هذا التعهد مطلقاً من كل قيد في الزمان أو في المكان، ويكون التعهد باطلا إذا ما زاد عن الحد اللازم لهذه الحماية المشروعة حتى لو كان مقيداً في الزمان وفي المكان. فالعبرة إذن بمعقولية التعهد لا بتقييده ( [9] ) . وقد جاء القانون المدني الجديد مؤيداً هذا المعيار المرن، فاشترط لصحة القيد أن يكون مقصوراً من حيث الزمان والمكان ونوع العمل على القدر الضروري لحماية مصالح رب العمل المشروعة ( م 686 ) ، وإذا اتفق على شرط جزائي في حالة الإخلال بالامتناع عن المنافسة وكان في الشرط مبالغة تجعله وسيلة لإجبار العامل على البقاء في خدمة رب العمل مدة أطول من المدة المتفق عليها كان هذا الشرط باطلا وينسحب بطلانه أيضاً إلى شرط عدم المنافسة في جملته ( م 687 ) ( [10] ) .

 النظم الإدارية والمالية:
كذلك النظم الإدارية والمالية تحقق مصلحة عامة، فهي إذن من النظام العام . ولا يجوز للأفراد، باتفاقات خاصة، أن يعارضوا تحقيق هذه المصلحة.
فيحرم على الموظف أن يبيع وظيفته أو أن ينزل عنها لآخر، على أن الوظيفة ذاتها شيء لا يجوز التعامل فيه فلا يصح أن يكون محلا لتصرف ما. كذلك لا يجوز للموظف أن يتعهد لشخص آخر بأن يستقيل من وظيفته، سواء رمى من وراء هذه الاستقالة إلى تحقيق رغبة لدى هذا الشخص، أو قصد منها أن يترك له وظيفته خالية حتى يتمكن من الحصول عليها. وكل عقد يرمي إلى جعل الموظف يستفيد من وراء وظيفته ، كأن يتعاقد على شيء متصل بأعمال الوظيفة فيجني من وراء ذلك ربحاً ، يكون عقداً باطلاً لمخالفته للنظام العام . وليس الأمر مقصوراً على الموظف ، فكل وسيط يبذل وساطته في نظير مقابل يحصل عليه للوصول إلى نتيجة تحتم النزاهة في الإدارة أن يكون الوصول إليها دون مقابل أو وساطة إنما يقوم بعمل غير مشروع ، ويكون تعاقده باطلا . فاتفاق الوسيط مع شخص على جعل يأخذه الوسيط إذا مكن هذا الشخص من الحصول على وظيفة أو على رتبة أو على وسام أو على امتياز من الحكومة أو ” مقاومة ” يرسو ” العطاء ” عليه فيها أو نحو ذلك يكون اتفاقاً باطلا لمخالفته للنظام العام ( [11] ) . كذلك لا يجوز للموظف أن يقوم بعمل تجاري محرم عليه بل إن هناك من المهن، كالطب والمحاماة، ما ينظم تنظيماً إدارياً، ولا يجوز لمن يمارسها أن يخلط بينها وبين أعمال التجارة ( [12] ) .

وإذا فرض قانون ضريبة وجب دفعها دون زيادة أو نقص . فإذا اتفق البائع والمشتري على ذكر ثمن في عقد البيع أقل من الثمن الحقيقي حتى تؤخذ رسوم التسجيل على الثمن المذكور في العقد، ففي مثل هذه الحالة تكون العبرة بالثمن الحقيقي لا بالثمن الصوري المكتوب. ولا يجوز كذلك الاتفاق على جعل الملزم بدفع الضريبة شخصاً آخر غير الذي عينه القانون. لكن يجوز أن يتفق المؤجر والمستأجر على أن يقوم الثاني بدفع الضريبة المفروضة على العين المؤجرة بشرط أن يدخل ذلك في حساب الأجرة. ولا يمنع هذا الاتفاق من أن يبقى المؤجر ، إذا كان هو مالك العين ، ملزماً بأداء الضريبة لخزينة الدولة .
وقد رأينا فيما تقدم أن القوانين التي تنظم النقد والعملة تعتبر من النظام العام ، وأن شرط الدفع بالذهب باطل في المعاملات الداخلية والمعاملات الخارجية على السواء ( [13] ) .

النظام القضائي:
نظم التقاضي تحقق في مجموعها ” مصلحة عامة “، وكثير من هذه النظم لا تجوز معارضته باتفاقات فردية .
فتحديد اختصاص المحاكم – فيما عدا الاختصاص المحلي -يعتبر من النظام العام. ولا يجوز للخصوم أن يتفقوا على اختصاص محكمة تكون غير مختصة بالنسبة إلى ولايتها أو بالنسبة إلى اختصاصها النوعي، فيرفعوا قضية من اختصاص المحاكم الشرعية إلى محكمة من المحاكم الوطنية أو قضية من اختصاص المحاكم الابتدائية إلى محكمة جزئية. وقد كان قانون المرافعات الوطني القديم لا يعتبر مسائل الاختصاص النوعي من النظام العام .

وقابلية الحكم للطعن فيه بطريق المعارضة أو الاستئناف أو النقص أو التماس إعادة النظر أو نحو ذلك قد تعتبر من النظام العام . فلا يجوز للخصوم أن يتفقوا على أن المعارضة جائزة في حكم حضوري ، أو أن الاستئناف جائز في حكم لا يقبله . ولكن يجوز الاتفاق على أن الحكم الذي يصدر من محكمة أول درجة لا يستأنف ولا يعارض فيه حتى لو كان قابلا للاستئناف أو للمعارضة ( [14] ) .

 القوانين الجنائية:
ولا تجوز مخالفة القوانين الجنائية باتفاقات خاصة، لأن هذه القوانين تعتبر من النظام العام. فيعد باطلا الاتفاق على ارتكاب جريمة أو الاتفاق على عدم ارتكاب جريمة لقاء مبلغ من المال . ويعد باطلا أيضاً الاتفاق الذي يلتزم بمقتضاه شخص بان يتحمل عن آخر ما قد عسى أن يتعرض له من مسئولية جنائية، والاتفاق التي يلتزم بمقتضاه شخص بان يدفع الغرامات التي يحكم بها جنائياً على شخص آخر . ولا يجوز بمقتضى اتفاق خاص أن تخلق جريمة ليست موجودة في القانون ، كأن يتفق الدائن والمدين على اعتبار عدم وفاء المدين بدينه تبديداً ، فالتبديد لا يكون إلا في عقود معينة مبينة على سبيل الحصر ( [15] ) .

روابط القانون الخاص
 الأحوال الشخصية والمعاملات المالية:
هذه الروابط أما أن تكون متعلقة بالأحوال الشخصية، أو داخلة في دائرة المعاملات المالية.

 الأحوال الشخصية:
كثير من روابط الأحوال الشخصية يحقق مصلحة عامة ويعتبر من النظام العام، فلا يجوز للأفراد تعديلها باتفاقات فيما بينهم. من ذلك الحالة المدنية للشخص وأهليته وعلاقته بأسرته.

فلا يجوز تعديل الحالة المدنية باتفاق خاص، كان يتفق شخص مع آخر على تعديل جنسيته أو تغيير اسمه أو التنازل عن بنوته لأبيه أو الصلح على شيء من ذلك. بل إن القانون المدني الجديد حمى بنصوص صريحة الحقوق الملازمة للشخصية من أن يعتدى عليها. فنصت المادة 50 على أنه ” لكل من وقع عليه اعتداء غير مشروع في حق من الحقوق الملازمة لشخصيته أن يطلب وقف هذا الاعتداء مع التعويض عما يكون قد لحقه من ضرر “. ونصت المادة 51 على أنه ” لكل من نازعه الغير في استعمال اسمه بلا مبرر، ومن انتحل الغير اسمه دون حق أن يطلب وقف هذا الاعتداء مع التعويض عما يكون قد لحقه من ضرر “. أما إذا أصبح اسم الشخص اسما تجارياً فإنه يكون مالا يجوز النزول عنه وبيعه والتصرف فيه.

وقواعد الأهلية من النظام العام. فلا يستطيع شخص أن ينزل عن أهليته أو يزيد فيها أو ينقص منها باتفاق خاص. وقد نصت المادة 48 من القانون المدني الجديد على أنه ” ليس لأحد النزول عن أهليته ولا التعديل في أحكامها “. وكالأهلية والولاية، فلا يجوز للولي أو الوصي أو القيم أن يزيد أو ينقص من حدود ولايته.
وعلاقة الشخص بأسرته وما له من حقوق وما عليه من واجبات كل هذا يعتبر من النظام العام إذا لم يكن حقوقاً مالية محضة. مثل ذلك الحقوق والواجبات التي تنشأ من عقد الزواج، فلا يجوز الاتفاق ما بين الزوجين على تعديل ما للزوج من حقوق على زوجته في الطاعة والأمانة الزوجية أو تعديل ما للزوجة من حقوق على زوجها من النفقة والرعاية. ولا يجوز للزوج المسلم أن ينزل عن حقه في الطلاق ( [16] ) . كذلك الحقوق والواجبات التي تنشأ من الأبوة تعتبر من النظام العام. فللأب حق تربية أولاده، فلا يجوز أن يقيد نفسه باتفاق يحدد طريقة تربية الأولاد أو يلزمه مقدماً باختيار دين معين لهم كان تكون الأولاد على دين الأم مثلا. والنفقات بمختلف أنواعها، من نفقة الزوجة ونفقة الصغير والنفقة ما بين الأصول والفروع والنفقة ما بين ذوى الأرحام، تعتبر كلها من النظام العام، فلا يجوز تنازل الشخص مقدماً عن حقه في مطالبة من تجب عليه النفقة له، وإن كان يجوز التنازل عن النفقة المتجمدة بعد تجمدها.

 المعاملات المالية:
ومن روابط المعاملات المالية ما يحقق مصلحة عامة فيعتبر من النظام العام. من ذلك الأسس التي يقوم عليها النظام الاقتصادي في البلاد، فهي تارة تفسح المجال للنشاط الفردي، وطوراً تحد من هذا النشاط لحماية الجانب الضعيف. ومن ذلك أيضاً الأحكام التي تكفل حماية الغير حسن النية.
فمن الأسس التي تفسح المجال للنشاط الفردي وتكفل تداول المال واستثماره على خير وجه أن حق الملكية لا يجوز أن يقيد المالك في استعماله بغل يده عن التصرف فيه، وشرط عدم التصرف باطل ما لم يكن مبنياً على باعث مشروع ومقصوراً على مدة معقولة ( م 823 من القانون المدني الجديد ) . ولا يجوز أن يتقيد المالك بالبقاء في الشيوع لمدة تزيد على خمس سنوات ( م 834 من القانون المدني الجديد ) ، لأن الشيوع بعيد عن أن يكون خير الوجوه لاستثمار الملكية .
ومن الأسس التي تكفل حماية الجانب الضعيف ما قرره القانون في صدد عقود الإذعان من جواز تعديل الشروط التعسفية أو الإعفاء منها، ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك ( م 149 من القانون المدني الجديد ) . وما قرره من إبطال العقد أو إنقاص الالتزامات في حالة الاستغلال ( م 129 من القانون المدني الجديد ) . وما قرره من إنقاص الالتزام المرهق في حالة الحوادث الطارئة ( م 147 من القانون المدني الجديد ) . وما قرره من جواز تخفيض الشرط الجزائي ( م 224 من القانون المدني الجديد ) . وما قرره من عدم جواز الاتفاق على سعر للفائدة أعلى من السعر الذي يسمح به القانون (م 227 من القانون المدني الجديد).
ومن الأحكام التي تحمي الغير حسن النية القواعد التي رسمها القانون لشهر الحقوق العينية، فيكون باطلا اتفاق البائع مع المشتري على أن تعتبر الحقوق العينية المترتبة على العين المبيعة سارية في حق المشتري ولو لم تشهر هذه الحقوق على الوجه الذي يتطلبه القانون. كذلك لا يتقيد الدائن باتفاقه مع المدين على تنازله مقدماً عن الطعن في تصرفات مدينه بالصورية أو بالدعوى البوليصية. ولا يجوز لشخص أن يشترط عدم ضمان تعرضه الشخصي أو عدم مسئوليته عن الغش الذي يصدر منه. ولا يجوز الإعفاء من المسئولية التقصيرية سواء كانت مبنية على غش أو على خطأ، ولا الإعفاء من المسئولية العقدية إذا كانت مبنية على غش أو على خطأ جسيم.

المطلب الثاني الاتفاقات التي تخالف الآداب
 العلاقات الجنسية:
كل اتفاق على إيجاد علاقات جنسية غير مشروعة باطل لمخالفته للآداب. كذلك يكون باطلا كل تعهد يلتزم بمقتضاه شخص أن يؤجر شخصاً آخر في مقابل إيجاد علاقات جنسية معه، أو في مقابل استمرار هذه العلاقات، أو العودة إليها إذا كانت قد انقطعت. أما إذا كان المال الذي يتعهد الشخص بدفعه إنما هو على سبيل التعويض لما أصاب الشخص الآخر من ضرر من جراء العلاقات الجنسية، فالتعهد صحيح، بل هو اعتراف بالتزام طبيعي.

 بيوت العهارة:
وكل اتفاق يتعلق باستغلال بيوت العهارة يعتبر باطلا لمخالفته للآداب، ولو كانت هذه البيوت قد حصلت على ترخيص إداري. فبيع بيت يدار للعهارة، وإيجاره، وشراء مفروشات له، واستئجار أشخاص ليقوموا بالخدمة فيه، وإنشاء شركة لاستغلاله، وإقراض مال للإعانة على إدارته، كل هذه عقود باطلة لمخالفتها الآداب. وسنرى عند الكلام في السبب أن هذه العقود تكون باطلة كذلك حتى لو وقعت على بيت لم يكن معداً للعهارة وقت صدورها، إذا تبين أن الباعث لأحد المتعاقدين على التعاقد هو أعداد البيت للعهارة وكان المتعاقد الآخر يعلم بهذا الباعث.

 المقامرة:
ويكون باطلا كل اتفاق خاص بمقامرة أو رهان لمخالفته للآداب، ولمن خسر أن يسترد ما دفعه في خلال ثلاث سنوات من الوقت الي أدى فيه ما خسره ولو كان هناك اتفاق يقضي بغير ذلك ( م 739 من القانون المدني الجديد ) . ويستثنى من ذلك الرهان الذي يعقده فيما بينهم المتبارون شخصياً في الألعاب الرياضية، ولكن للقاضي ان يخفض قيمة هذا الرهان إذا كان مبالغاً فيه، ويستثنى أيضاً ما رخص فيه قانوناً من أوراق النصيب ( م 740 من القانون المدني الجديد ) . ويعد باطلا بيع بيت يدار للمقامرة وإيجاره وكل ما يقع عليه من العقود بقصد استغلاله للمقامرة، سواء في ذلك كان البيع معداً للمقامرة قبل صدور العقد ، ويكون المحل في هذه الحالة مخالفاً للآداب ، أو لم يكن معداً لها ما دام الباعث على التعاقد هو أعداد البيت للمقامرة ، ويكون المخالف للآداب في هذه الحالة هو السبب لا المحل كما رأينا في بيوت العهارة .

 أمثلة أخرى لاتفاقات مخالفة للآداب:
ويعد مخالفاً للآداب كسب المال من طريق غير شريف. فمن يتقاضى أجراً جزاء القيام بعمل كان يجب عليه القيام به دون اجر لا يستحق هذا الأجر ويكون عقده باطلا، كمن يتعهد برد وديعة عنده أو مال اقترضه أو شيء سرقه في مقابل أجر يأخذه. كذلك لا يجوز أن يتقاضى شخص أجراً للامتناع عن عمر يجب عليه الامتناع عنه دون أجر، كمن يتعهد بعدم ارتكاب جريمة في مقابل اجر لذلك. ولا تجوز الخديعة ولا الانحراف عن واجب الذمة في التعامل. فالاتفاق على ألا يعترف شخص بمسئوليته ولو أدى ذلك إلى أن يكذب يكون باطلا لأنه مخالف للآداب. وكان القضاء الفرنسي يبطل الاتفاق الذي يتم ما بين مدير المسرح وجماعة من الناس يسمون بالهتافة (claque) يستأجرهم المدير للتصفيق وترويج ما يعرض على المسرح، لأن مثل هذا الاتفاق من شأنه أن يخدع الجمهور. ثم رجع القضاء عن ذلك، وأصبح الآن يقضي بصحة هذا الاتفاق لأن الهتافة قد يؤدون خدمة للفن بتشجيعهم للممثلين وأصحاب الفن المبتدئين. ولا يعد باطلا اتفاق أحد النسابة (généalogiste) مع وارث على أن يكشف له عن نسبه ليحصل على ميراث يستحقه، مادام النسابة لم يخدع من تعاقد معه، بل كشف له عن سر حقيقي كان يجهله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( [1] ) أما إذا كان الشيء يمكن التعامل فيه ولكن لا مالك له ، فهو مال مباح ، كالطير في الهواء والسمك في البحر ، ويملكه من يستولى عليه ويستطيع أن يتعامل فيه .
( [2] ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 188 من المشروع التمهيدي على النحو الآتي : ” يكون محل الالتزام غير مشروع إذا كان مخالفا للنظام العام أو الآداب ” . وفي لجنة المراجعة عدل النص لإيراد الحكم القاضي ببطلان العقد ، فأصبح مماثلا للنص الذي انتهى إليه القانون الجديد ، وقدم في المشروع النهائي تحت رقم 139 . ووافق مجلس النواب عليه تحت الرقم ذاته . ثم وافقت عليه لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ تحت رقم 135 ، وكذلك وافق عليه مجلس الشيوخ دون تعديل ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 222 – ص 224 ) .
( [3] ) وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” ويلاحظ أن فكرة النظام العام فكرة مرنة جداً . وقد بلغ من أمر مرونتها أن عمد التقنين الألماني إلى إغفال النص عليها عند صياغة المادة 138 . فعلى اثر مناقشات هامة عنيفة جرت بوجه خاص في مجلس الريشتاج انتهى الأمر إلى استبعاد نصوص مختلفة جاء ففيها ذكر العقد المخالف للآداب وللنظام العام كذلك . وكان الاعتقاد السائد أن نظرية النظام العام تنطوي على فكرة عامة مجردة قد تترتب عليها نتائج بالغة الخطورة ، من بينها أن القاضي ربما أباح لنفسه أن يتخذ من النظام العام نظرية فلسفية أو دينية يبينها على مجموعة المبادئ الدستورية أو على سياسة التشريع العامة أو على رأيه الخاص في المسائل الاجتماعية أو الفلسفة الأخلاقية أو الدينية . وقد دافع الحزب الاشتراكي بكل قوته عن النص المقرر لمفكرة النظام العام . وكان يرمي من ذلك إلى اعتبار كل عقد لا يتفق ومبادئ حماية الطبقة العاملة مخالفا للنظام العام . على أن هذه النتائج بذاتها هي التي جعلت غالبية أعضاء الريشتاج تنفر من النص المقرر للنظام العام ومن كل معيار نظري ، وترغب في وضع معيار عملي بحث قوامه العرف والمبادئ المستقاة من الآداب العامة . وعلى هذا النحو لا تكون الاتفاقات التي أشار إليها الحزب الاشتراكي باطلة طبقاً لمذهب من المذاهب الاشتراكية وإنما بناء على التيار الاجتماعي للآداب العامة ( تعليقات على التقنين الألماني الجزء الأول ص 154 – ص 155 ) . ومهما يكن من أمر فليس في الوسع نبذ فكرة النظام العام دون أن يستتبع ذلك اطراح ما توطد واستقر من التقاليد . وقد رؤى من الواجب أن يفرد مكان لهذه الفكرة في نصوص المشروع لتظل منفذاً رئيسياً تجد منهن التيارات الاجتماعية والأخلاقية سبيلها إلى النظام القانوني لتثبت فيه ما يعوزه من عناصر الجدة والحياة . بيد أنه يخلق بالقاضي أن يتحرز من إحلال آرائه الخاصة في العدل الاجتماعي محل ذلك التيار الجامع للنظام العام أو الآداب . فالواجب يقتضيه أن يطبق مذهباً عاماً تدين به الجماعة بأسرها لا مذهبا فردياً خاصاً ” . ( مجموعة الأعمال التحضيرية ج 2 ص 223 ) .
( [4] ) وقد يستعين القانون على جعل القواعد الخلقية تتدخل في الروابط القانونية من طريق الالتزام الطبيعي . فالاعتراف بالجميل قاعدة خلقية لا يجعلها القانون ملزمة ، ولكن إذا أعطى شخص آخر مالا ، لا تكرما منه بل اعترافا بجميل عليه ، فالقانون يعد هذا وفاء لالتزام طبيعي وليس تبرعا . فالقانون إذن قد ينهي بطريق غير مباشر عما تنهي عنه الأخلاق مباشرة ، بان يجعل الاتفاق المخالف للآداب باطلا . وقد يأمر ، بطريق غير مباشر أيضاً ، بما تأمر به الأخلاق مباشرة ، بان يجعل هذا الذي تأمر به التزاما طبيعيا في ذمة المدين .
( [5] ) ومن هنا كان البت فيما إذا كانت قاعدة قانونية تعتبر من النظام العام أو من الآداب مسألة قانون ن تخضع لرقابة محكمة النقض ز
( [6] ) ومما هو جدير بالذكر أنه حيث تتسع دائرة النظام العام يضيق مبدأ سلطان الإرادة ، وحيث تضيق هذه الدائرة يتسع المبدأ . وقد سبق أن بينا أن مبدأ سلطان الإرادة يتقيد بالنظام العام والآداب.
( [7] ) محكمة النقض الفرنسية في 24 أكتوبر سنبة 1916 داللوز 1916 – 1 – 247 وسيريه 1920 – 1 – 17 مع تعليق بنكاز – أنظر في هذه المسألة بلانيول وريبير وإسمان 1 فقرة 248 .
( [8] ) محكمة النقض الفرنسية في 2 يولية سنة 1900 سيريه 1904 – 1 – 175 – حكم ثان في 14 مارس سنة 1904 سيريه 1904 – 1 – 444 – حكم ثالث في 15 يونية سنة 1922 سيريه 1922 – 1 – 200 .
وانظر محكمة مصر الكلية الوطنية في 27 مارس سنة 1912 المجموعة الرسمية 13 رقم 120 ص 250 – محكمة بني سويف في 22 ابريل سنة 1913 المجموعة الرسمية 14 رقم 95 ص 184 – محكمة مصر الكلية الوطنية في 21 يولية سنة 1930 المحاماة 11 رقم 315 من 655 محكمة الاستئناف المختلطة في 12 ديسمبر سنة 1901 م 14 ص 46 – وفي 7 ديسمبر سنة 1921 م 34 ص 42 – وفي 2 فبراير سنة 1933 م 45 ص 156.
( [9] ) محكمة النقض الفرنسية في 17 مايو سنة 1911 سيريه 1913 – 1 – 253 – محكمة الاستئناف المختلطة في 7 ابريل سنة 1920 م 32 ص 260 – وفي 7 ديسمبر سنة 1921 م 34 ص 42 – وفي 28 يناير سنة 1930 جازيت 20 ص 162 رقم 146 – محكمة مصر الكلية الوطنية في 3 نوفمبر سنة 1949 المحاماة 29 رقم 429 ص 790 .
وانظر في هذا الموضوع رسالة لنا باللغة الفرنسية في القيود التعاقدية الواردة على حرية العمل – ليون سنة 1925 – وانظر أيضاً لا باتي ( Labatut ) في القيود الاتفاقية الواردة على حرية التجارة والصناعة والعمل في القضاء الفرنسي – تولوز سنة 1928 .
( [10] ) ولكن التصرف في العملاء يجوز على النحو الآتي : يتعهد طبيب مثلا إلا يباشر مهنة الطب في جهة معينة وأن يقدم الطبيب الجديد – وهو الدائن في هذا التعهد – لعملائه على اعتبار أنه خليفته ، ويصحب هذا التعهد في الغالب تنازل من الطبيب القديم إلى الطبيب الجديد عن إيجار المكان الذي جعل فيه ” عيادته ” . ( أنظر في هذه المسألة نظرية العقد للمؤلف ص 503 هامش رقم 2 ) .
( [11] ) محكمة الاستئناف الوطنية في 13 فبراير سنة 1906 الاستقلال 5 ص 255 ( السعي للحصول على رتبة أو نيشان ) – وانظر أيضاً في المعنى ذاته محكمة مصر الكلية الوطنية في 5 يونية سنة 1901 الحقوق 6 ص 179 – المجموعة الرسمية 3 رقم 85 / 2 .
( [12] ) فلا يجوز للمحامي أن يجعل وسيطا بينه وبين موكليه ويؤجر الوسيط على وساطته ، فهذا نوع من السمسرة يأباه شرف المهنة . ولا يجوز أن يتفق طبيب مع صيدلي على أن يرسل الطبيب عملاءه للصيدلي ليشتروا منه الأدوية اللازمة لهم في مقابل جعل . ولا يجوز للمحامي أن يأخذ في مقابل ” أتعابه ” جزءاً من الحق المتنازع عليه ، فإن هذا نوع من الاتجار بالمهنة واستغلال لضعف الموكل .
( [13] ) أنظر آنفاً فقرة 226 .
( [14] ) أنظر في قواعد الإثبات وهل تعتبر من النظام العام ، نظرية العقد للمؤلف فقرة 487 ص 507 – ص 510 .
( [15] ) ومن ذلك أن يتفق البائع والمشتري – في البيع بالتقسيط – على أن يسميا البيع ايجارا حتى تتوافر أركان جريمة التبديد .
( [16] ) أما إذا تعهد الزوج بتعويض زوجته إذا طلقها ، فليس في ذلك مخالفة لأحكام الشريعة ولا للنظام العام . لكن هذا التعهد ينتفي الالتزام به إذا كان الزوج لم يطلق زوجته إلا بناء على فعل اتته هي اضطره إلى ذلك (نقض مدني في 29 فبراير سنة 1940 مجموعة عمر 3 رقم 35 ص 85). ويكيف التعهد بأنه التزام أصلي معلق على شرط موقف هو وقوع الطلاق بناء على فعل الزوج.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *