هل يجوز للقاضي السعودي أن يرجعَ عن حكمه إذا تبين له مخالفته للصواب؟

هل يجوز للقاضي السعودي إن يرجع عن حكمه إذا تبين له مخالفته للصواب.

هناك استثناءً يَرُدُّ على هذا الأصل؛ إذ إنَّ الفقه الإسلامي قرَّر للمحكوم عليه الطعنَ في الحكم الصادر ضدَّه، متى توافَرَتْ مسوِّغات هذا الطعنِ التي سبَق ذِكرُ أهمِّها.

والجواب أن ذلك جائزٌ، ولكن بضوابطَ لا بدَّ من توفُّرها.

ويدلُّ على رجوع القاضي عن حُكمه في هذه الحالات ما ورَد في كتاب عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – إلى أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – حيث قال فيه: “ولا يَمْنَعَنَّك قضاءٌ قضيتَ فيه اليوم، فراجعتَ فيه رأْيك، فهُدِيت فيه لرُشدك – أن تُراجعَ فيه الحقَّ، فإنَّ الحقَّ قديمٌ، لا يُبطله شيءٌ، ومراجعة الحقِّ خيرٌ من التمادي في الباطل”.

قال السَّرَخْسِي في شَرْحه له: “وفيه دليل أنه إذا تبيَّن للقاضي الخطأَ في قضائه، بأن خالَف قضاؤه النصَّ أو الإجماع – فعليه أن يَنقضه، ولا يَنبغي أن يَمنعه الاستحياءُ من الناس من ذلك، فإنَّ مُراقبة الله تعالى في ذلك خيرٌ له”.

والأصل في القضاء الإسلامي أنَّ القاضي يَحكم بالنصِّ أو الإجماع، لكن إذا تعذَّر وجودُ النصِّ أو الإجماع، فإنه يَنتقل إلى الحُكم بالاجتهاد والنظر، إن كان من أهل الاجتهاد، فيتحرَّى الصواب، ثم يَحكم به؛ وذلك لِما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي، وابن أبي شيبة والبيهقي، أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا أراد أن يبعثَ معاذًا إلى اليمن، قال: ((كيف تقضي إن عرَض لكَ قضاءٌ؟))، قال: أقضي بكتاب الله، قال: ((فإن لَم تَجد في كتاب الله))، قال: فبِسُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((فإن لَم تَجد في سُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا في كتاب الله))، قال: أجْتَهد رأيي ولا آلُو، فضرَب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدرَه وقال: ((الحمد لله الذي وفَّق رسولَ رسولِ الله لِما يُرْضي رسولَ الله)).

ووجه الدَّلالة منه: أنَّ معاذًا – رضي الله عنه – ذكَر اجتهادَ رأيه في القضاء، عند عدم وجود نصٍّ من الكتاب أو السُّنة في القضيَّة التي يَنظرها، فأقرَّه الرسول -صلى الله عليه وسلم- على ذلك، فدلَّ على أنَّ القاضي يَلجأ إلى الاجتهاد عند عدم النص.

ولِما في الصحيحين عن عمرو بن العاص – رضي الله عنه – أنه سَمِع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((إذا حكَم الحاكم، فاجتهَد ثم أصابَ، فله أجران، وإن حكَم فاجتَهد ثم أخطأ، فله أجرٌ)).

ففيه دَلالة ظاهرة على مشروعيَّة الحكم بالاجتهاد؛ حيث أثبتَ له الرسول -صلى الله عليه وسلم- أجْرين في حالة إصابة الحقِّ، وأجرًا واحدًا في حالة الخطأ.

فإذا اجتهَد القاضي وحكَم باجتهاده، فإنَّ هذا الحكم يَنْفُذ، حتى وإن تغيَّر اجتهاد القاضي فيما بعدُ، فإن تغيَّر اجتهاد القاضي بعدَ الحُكم، فإنَّ الحكم الأوَّل يستقرُّ ولا يُنقَض، وقد أجمَع الصحابة – رضي الله عنهم – على ذلك، وعلى هذا جاءَت القاعدة الفقهيَّة: “الاجتهاد لا يُنْقَض بالاجتهاد”.

وكُتب الفقه مليئة بذِكْر الأمثلة على ذلك من فِعْل الصحابة – رضي الله عنهم – ومنها حُكم عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في المُشرَّكة؛ حيث حكَم بإسقاط الإخوة الأشقَّاء، ثمَّ شرَّك بينهم وبين الإخوة لأُمٍّ في قضيَّة أخرى رُفِعتْ إليه، ولَم يَنْقُض حكمَه الأوَّل، وإنما قال: “تلك على ما قَضيْنا، وهذه على ما نَقضي”؛ ا. هـ.

قال ابن القيِّم – رحمه الله تعالى -: “فأخَذ أميرُ المؤمنين في كلا الاجتهادَين بما ظهَر له أنَّه الحقُّ، ولَم يَمنعه القضاء الأوَّل من الرجوع إلى الثاني، ولَم يَنقض الأوَّل بالثاني، فجَرَى أئمَّة الإسلام بعده على هذين الأصلين”؛ ا. هـ.

أمَّا إذا تغيَّر اجتهاد القاضي قبل الحكم، وتأكَّد من مُجانبته للصواب وابتعاده عن الحقِّ في اجتهاده الأوَّل، فإنه حينئذٍ يجب عليه أن يحكمَ بما أدَّاه إليه اجتهادُه الأخير، ولا يَجوز له الحكم باجتهاده الأوَّل؛ إذ لو فعَل ذلك، لكان حاكمًا بما يَعتقد أنه باطلٌ، وهذا لا يجوز في الشريعة الإسلامية، وليس من حقِّ المحكوم عليه أن يطعنَ في هذا الحُكم؛ لمخالفته الاجتهاد السابق.

وجميع ما ذُكِر مُقيَّدٌ بما إذا كان القاضي قد حَكم باجتهاده، ولَم يُخالف فيه نصًّا أو إجماعًا، فإن خالَف باجتهاده شيئًا من ذلك، وجَب نَقْضُ الحكم.

ونَخلُص من ذلك إلى أنَّ للمحكوم عليه في القضاء الإسلامي الحقَّ في الطعْن على حُكم القاضي المبني على الاجتهاد المخالِف للنصِّ أو الإجماع، ومنه يَظهر أنَّ مجال الطَّعن في الحكم الصادر من القاضي المبني على الاجتهاد، مجالٌ ضيِّقٌ ومحدود؛ لأن الغالب في القضاة أنهم يَتحرَّون الاجتهاد الموافق للكتاب أو السُّنة أو الإجماع.

أما إذا حكَم القاضي – فبانَ له خطَؤه في حكمه – فإنه يَلزمه نقضُ حُكمه، ولا يَجوز للمحكوم عليه في هذه الحالة أن يطعنَ في القاضي؛ لأنه لَم يتعمَّد الحكم بخلاف الحقِّ، وإنما وقَع منه ذلك على سبيل الخطأ، وهو غير معصوم منه.

ولكن لو فُرِض أنَّ القاضي حكَم بالجَوْر والظلم عمدًا وعُدوانًا، فإنه حينئذٍ يجب فَسْخُ هذا الحكم، ويَضمن القاضي ما ترتَّب على قضائه بالجَوْر عدوانًا وظلمًا، متى ثبَت عليه ذلك بالإقرار أو البيِّنة، ويُعزَّر ويُعزَل عن القضاء.

المرجع:
(الضمانات القضائية المتعلقة بمراجعة الأحكام في الأنظمة العدلية الجديدة)؛ للدكتور ناصر الجوفان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *