التراضي والتعبير عن الإرادة كركن من أركان العقد – دراسة قانونية تأصيلية

التراضي والتعبير عن الإرادة كركن من أركان العقد – دراسة قانونية تأصيلية

 

للعقد ركنان: التراضي والسبب ( [1] ) .
وأما المحل فهو ركن في الإلتزام لا في العقد . ولكن أهميته لا تظهر إلا في الالتزام الذي ينشأ من العقد .
فإن محل الالتزام غير التعاقدي يتولى القانون تعيينه فليس ثمة احتمال أن يكون غير مستوف للشروط .
أما محل الالتزام التعاقدي فإن المتعاقدين هما اللذان يقومان بتعيينه ، فوجب أن يراعيا استيفاءه للشروط التي يتطلبها القانون . ومن ثم فالمحل يذكر عادة مقترنًا بالعقد .

التراضي
 وجود التراضي وصحته:
يوجد التراضي بوجود إرادتين متوافقتين . وإذا كان وجود هاتين الإرادتين يكفي لوجود العقد ، فإنه لا يكفي لصحته ، بل يجب حتى يكون العقد صحيحًا أن تكون الإرادتان المتوافقتان صحيحتين فنبحث إذن :
1 – وجود التراضي .
2 – صحة التراضي .

وجود التراضي
 التراضي هو تطابق إرادتين:
نصت المادة 89 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
” يتم العقد بمجرد أن يتبادل طرفان التعبير عن إرادتين متطابقتين؛ مع مراعاة ما يقرره القانون فوق ذلك من أوضاع معينة لانعقاد العقد ( [2] ) ” .
فالتراضي إذن هو تطابق إرادتين ( [3] ) . والمقصود بالإرادة هنا الإرادة التي تتجه لإحداث أقر قانوني معين هو إنشاء الالتزام .
71 – أركان الإرادة ( أو العمل القانوني ) :
والإرادة بهذا التحديد هي العمل القانوني ( acte juridique ) . والعمل القانوني كما رأينا أعم من العقد . فكان المنطق يقضي بأن يكون بحث العقد داخلا ضمن بحث العمل القانوني ، لا العكس . ولكن الناحية العملية تتغلب هنا . فالعقد هو العمل القانوني الأكثر شيوعا في التعامل . والقواعد التي تنطبق على العقد هي ذات القواعد التي تنطبق على العمل القانوني ، إذا استثنينا منها تلك التي يقتضيها توافق الإرادتين ، كما سنبين ذلك عند الكلام في الإرادة المنفردة ، أي في العمل القانوني الصادي من جانب واحد . ومن ثم فأركان العمل القانوني هي بعينهها أركان العقد : إرادة صحيحة ، أي إرادة صادرة من ذى أهلية وخالية من العيوب ، تقع على محل مستوف لشروطه ، وتتجه لتحقيق سبب مشروع .

اتجاه الإرادة لأحداث أثر قانوني:
ويعنينا هنا وجود الإرادة والمقصود بهذا أن تصدر الإرادة من صاحبها بنية إحداث أثر قانوني هو إنشاء الالتزام .
ويترتب على ذلك بداهة أن الإرادة لا يمكن أن تصدر من شخص معدوم الإرادة ، كالطفل غير المميز والمجنون ومن فقد الوعي لسكر أو مرض ومن انعدمت إرادته الذاتية تحت تأثير الإيحاء ونحو ذلك .
ولا عبرة بالإرادة التي لم تتجه لإحداث أثر قانوني ، كما في المجاملات الاجتماعية وفي التبرع بتقديم خدمات مجانية وفي الاتفاقات التي تقوم فيما بين أفراد الأسرة ، وقد تقدم بيان هذا .
كذلك لا يعتقد بإرادة الهازل ولا بالإرادة الصورية ولا بالإرادة المعلقة على محض المشيئة ولا بالإرادة المقترنة بتحفظ ذهني ، فإن الإرادة في جميع هذه الأحوال لم تتجه اتجاهًا جديًا لإحداث أثر قانوني ( [4] )

 كيف يتم التعاقد:
والتعاقد يتم بتعبير كل من المتعاقدين عن إرادته على النحو الذي قدمناه ويتوافق الإراتين . وقد يمرا لتعاقد بمرحلة تمهيدية لا يكون العقد فيها باتًا ، ويتحقق ذلك في الاتفاق الابتدائي وفي العربون .
فيخلص إذن للبحث المسائل الآتية :
( 1 ) التعبير عن الإرادة . ( 2 ) توافق الإرادتين ( 3 ) مرحلة تمهيدية في التعاقد : الاتفاق الابتدائي والعربون .

التعبير عن الإرادة
 تعبير الأصيل وتعبير النائب:
قد يصدر التعبير عن الإرادة من الأصيل في التعاقد وقد يصدر من نائب عنه . فنتلكلم : ( أولاً ) في التعبير الصادر من الأصيل ، و ( ثانيًا ) في التعبير الصادر من النائب ، أي النيابة في التعاقد .
1 ـ التعبير الصادر من الأصيل

الإرادة ومظهر التعبير التعبير عنها:
يجب التمييز بين الإرادة الكامنة في النفس والمظهر الخارجي للتعبير عنها .
أما الإرادة الكامنة في النفس فهي عمل نفسي ينعقد به العزم على شيء معين ( [5] ) .
وما دامت الإرادة عملا نفسيًا فإنه لا يعلم بها من الناس إلا صاحبها ، ولا يعلم بها غيره إلا إذا عبر عنها بأحد مظاهر التعبير .

 التعبير الصريح والتعبير الضمني:
نصت المادة 90 من القانون المدني الجديد على ما يأتي :
” 1 – التعبير عن الإرادة يكون باللفظ وبالكتابة وبالإشارة المتداولة عرفًا ، كما يكون باتخاذ موقف لا تدع ظروف الحال شكا في دلالته على حقيقة المقصود ” .
” 2 – ويجوز أن يكون التعبير عن الإرادة ضمنيا إذا لم ينص القانون أو ينفق الطرفان على أن يكون صريحًا ( [6] ) ” .
ونرى من ذلك أن التعبير عن الإرادة ـ وهو مظهرها الخارجي وعنصرها المادي المحسوس ـ يكون تارة تعبيرًا صريحًا وطورًا تعبيرًا ضمنيًا .
ويكون التعبير عن الإرادة صريحا إذا كان المظهر الذي اتخذه ـ كلاما أو كتابة أو إشارة أو نحو ذلك ـ مظهرًا من موضوعًا في ذاته للكشف عن هذه الإرادة حسب المألوف بين الناس . فالتعبير الصريح قد يكون بالكلام ، وذلك بإيراد الألفاظ الدالة على المعنى الذي تنطوي عليه الإرادة . وقد يؤدي اللسان هذه الألفاظ مباشرة وقد يؤديها بالواسطة كالمخاطبة التليفونية وكإيفاد رسول لا يكون نائبًا . وقد يكون التعبير الصريح بالكتابة في أي شكل من أشكالها ، عرفية كانت أو رسمية ، في شكل سند أو كتاب أو نشرة أو إعلان ، موقعا عليها أو غير موقع ، مكتوبة باليد أو بالآلة الكاتبة أو بالآلة الطابعة أو بأية طريقة أخرى ، أصلا كانت أو صورة . وبديهي أن الإثبات بالكتابة يتطلب شروطا أشد مم يتطلبه التعبير بالكتابة . ويكون التعبير الصريح أيضًا بالإشارة المتداولة عرفا ، فإشارة الأخرس غير المبهمة تعبير صريح عن إرادته ، وأية إشارة من غير الأخرس تواضعت الناس على أن لها معنى خاصا يكون تعبيرا صريحا عن الإرادة ، كهز الرأس عموديًا دلالة على القبول وهزها أفقيا أو هز الكتف دلالة على الرفض . ويكون التعبير الصريح أخيرًا باتخاذ أي موقف آخر لا تدع ظروف الحال شكا في دلالته على حقيقة المقصود ، فعرض التاجر لبضائعه على الجمهور مع بيان أثمانها يعتبر إيجابًا صريحًا ( [7] ) .

ووقوف عربات الركوب ونحوها في الأماكن المعدة لذلك عرض صريح على الجمهور . ووضع آلة ميكانيكية لتأدية عمل معين كميزان أو آلة لبيع الحلوى أو لتوزيع طوابع البريد أو نحو ذلك ، كل هذا يعد تعبيرًا صريحًا ( [8] ) .

ويكون التعبير عن الإرادة ضمنيا إذا كان المظهر الذي اتخذه ليس في ذاته موضوعًا للكشف عن الإرادة ، ولكنه مع ذلك لا يمكن تفسيره دون أن يفترض وجود هذه الإرادة ، مثل ذلك أن يتصرف شخص في شيء ليس له ولكن عرض عليه أن يشتريه . فذلك دليل على أنه قبل الشراء إذ يتصرف تصرف المالك . وكالموعود بالبيع يرتب حقا على العين الموعود ببيعها ( 1 ) ، وكالدائن يسلم سند الدين للمدين فهذا دليل على أنه أراد انقضاء الدين ما لم يثبت عكس ذلك . وكالمستأجر يبقى في العين المؤجرة بعد نهاية الإيجار ويصدر منه عمل يفهم على أنه يراد به تجديد الإيجار ( أنظر م 599 ) ، وكالوكيل يقبل الوكالة بتنفيذها ، وكمدير ملعب يعد للتمثيل رواية عرضها مؤلف عليه ( [9] ) .

وأي مظهر من مظاهر التعبير الصريحة أو الضمنية يكفي بوجه عام في التعبير عن الإرادة ، مع مراعاة أن هناك عقودًا شكلية سبقت الإشارة إليها تستلزم أن يتخذ التعبير مظهرًا خاصًا؛ في شكل معين ، ومع مراعاة أن هناك قواعد للإثبات تستوجب الكتابة في كثير من الفروض ، ولكن الكتابة في هذه الحالة الأخيرة مظهرًا للتعبير عن الإرادة بل طريقًا لإثبات وجودها بعد أن سبق التعبير عنها .
ومع ذلك فهناك أحوال يجب أن يكون التعبير عن الإرادة فيها تعبيرًا صريحًا ، ولا يكتفي بالتعبير الضمني . وهي أحوال يراد فيها عادة تنبيه العاقد قبل التعاقد إلى وجه الخطر فيما هو مقدم عليه ، فلا يبرم الأمر إلا بعد التروي وإلا بعد أن تصدر منه إرادة صريحة . وهذا نوع من الشكلية المهذبة . وهذه الأحوال إما أن ينص عليها المشرع أو يتفق عليها المتعاقدان . مثل الذي ينص عليه المشرع حجية الدفاتر والأوراق المنزلية لا تقوم إلا في إحدى حالتين ، أن يذكر المدين فيها صراحة أنه استوفى دينًا أو أن يذكر صراحة أنه قصد بما دونه في هذه الأوراق أن تقوم مقام السند ( أنظر م 398 ) ، وبائع التركة يرد للمشتري ما استولى عليه منها ما لم يكن عند البيع قد اشترط صراحة عدم الرد ( أنظر م 457 ) ، وبراءة ذمة المستأجر الأصلي نحو المؤجر إذا صدر من هذا قبول صريح بالتنازل عن الإيجار أو بالإيجار من الباطن ( أنظر م 597 ) ( [10] ) .

وقد يتفق المتعاقدان على أن يتخذ مظهر التعبير عن الإرادة شكلاً خاصًا أن يكون تعبيرًا صريحًا أو يكون بالكتابة أو بكتابة رسمية ، وفي هذه الأحوال ينفذ الاتفاق فلا يوجد التعبير إلا في الشكل المتفق عليه وقد سبق بيان ذلك ( [11] ) .
وكل ما قدمنا عن التعبير الصريح والتعبير الضمني كان معمولا به قضاء دون نص في ظل القانون القديم ( [12] ) .

 الإرادة الباطنة والإرادة الظاهرة ( [13] )
 تمهيد:
إذا لم تختلف الإرادة الداخلية عن مظهرها الخارجي ، فسيان الأخذ بالإرادة الباطنة أو بالإرادة الظاهرة ما دام الإثنتان متطابقتين . أما إذا اختلفتا ـ كما إذا أمضى شخص عقدًا مطبوعًا يتضمن شرطًا كان لا يقبله لو فطن له ، وكشخص ينزل في فندق على شروط لا يعملها ولكنها مكتوبة ومعلقة في غرفته ، وكمن يوصي على أثاث منزلي بطريق التأشير على بيان مطبوع فإذا به يؤشر على أثاث غرفة نوم وهو يريد أثاث غرفة استقبال ـ فالقاعدة المعروفة في القوانين اللاتينية أن الإرادة الباطنة هي التي يؤخذ بها . ولكنها نظرية حديثة كان للألمان الضلع الأكبر فيها ، تأخذ بالإرادة الظاهرة ، ومن هنا اختلفت المدرسة الألمانية مع المدرسة الفرنسية في العقد كما اختلفتا في الالتزام وكما اختلفتا في نظرتهما العامة للعلاقات القانونية . فالأولى تقف أمام المظاهر المادية المحسوسة فنظرتها موضوعية ( objectif ) ، والأخرى تنفيذ إلى البواطن النفسية فنظرتها ذاتية ( subjectif ) ، فإذا اقتصرنا على العقد رأينا المدرسة الفرنسية تأخذ بالإرادة الباطنة ، وتأخذ المدرسة الألمانية بالإرادة الظاهرة .

نظرية الإرادة الباطنة ( volonte interne ):
وهي تبحث عن الإرادة فيما تنطوي عليه النفس . أما مظهر التعبير عن الإرادة فليس إلا قرينة عليها تقبل إثبات العكس . فإذا قام دليل من جهة أخرى على أن المظهر المادي لا يتفق مع الإرادة النفسية ، فالعبرة بهذه لا بذاك . وإذا تعذر الوصول إلى معرفة الإرادة النفسية عن طريق الجزم ، فما على القاضي إلا أن يتعرفها عن طريق الافتراض . فالإرادة الحقيقة أولاً ، وإلا فالإرادة المفترضة ـ ولكنها ـ حقيقية أو مفترضة ـ هي الإرادة الباطنة لا الإرادة الظاهرة : الإرادة الحرة المختارة في معدنها الحقيقي ، غير متأثرة لا بغش ولا بإكراه ولا بغلط .

 نظرية الإرادة الظاهرة ( Volonte externe, declaration de volounte ):
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بحث من بحثهم إلى أن هذه الإرادة النفسية لا يجوز أن يكون لها أثر في القانون فهي شيء كامن في النفس ، والإرادة التي تنتج أثرا هي الإرادة في مظهرها الاجتماعي ، لا في مكمنها وهي تختلج في الضمير . ولا تأخذ الإرادة مظهرًا اجتماعيًا إلا عند الإفصاح عنها . فالعبرة بهذا الإفصاح ، إذ هو الشيء المادي الذي يستطيع القانون أن يحيط به وأن يرتب أحكامه ، دون حاجة إلى تحسس ما تنطوي عليه النفس من نيات . فإن القانون ظاهرة اجتماعية لا ظاهرة نفسية ، والإرادة الباطنة لا وجود لها إلا في العالم النفسي فإذا أريد أن يكون لها وجود في العالم الاجتماعي ، وجب أن تتجسم في المظهر المادي لها ، وهو ما يستطاع إدراكه . وفي هذا استقرار للتعامل ، وطمأنينة لمن يسكن بحق إلى ما يظهر أمامه من إرادة لا يستطيع التعرف عليها إلا من طريق التعبير عنها ، فلا يحتج عليه بعد ذلك بأن من تعاقد معه كان ينطوى على نية أخرى غير التي تستخلص من الطريق الذي اختاره للتعبير عن هذه النية ( [14] ) .

ولا يشترط أصحاب نظرية الإرادة الظاهرة طريقًا خاصًا لمظهر التعبير ، فأي مظهر من هذه المظاهر يصح عندهم . وقد يكون هذا المظهر تعبيرا صريحًا أو تعبيرًا ضمنيًا ، وقد يكون مجرد السكوت في أحوال خاصة مظهرًا من مظاهر التعبير . والمهم عندهم ألا تقتصر الإرادة على عمل نفسي ، بل تبرز إلى العالم المادي في علامة ظاهرة ، هي التي نقف عندها ، ونقدر الإرادة بقدرها .
وهم لا يكتفون من المظهر الخارجي للإرادة بأن يكون مجرد دليل عليها ـ دليل يقبل إثبات العكس إذا تبين من الظروف أن التعبير الخارجي لا يتفق مع الإرادة الداخلية ـ ولو اكتفوا بذلك لاتفقوا مع أصحاب نظرية الإرادة الباطنة . ولكنهم يذهبون إلى مدى أبعد ، ويعتبرون هذا المظهر الخارجي هو العنصر الأصلي للإرادة ، فيجب الوقوف عنده . وإذا كان لا بد من اعتباره دليل على الإرادة الداخلية ، فهو دليل لا يقبل إثبات العكس . فلا يسمع لشخص يدعي أنه أضمر غير ما أمظهر ، ما دام قد أراد هذا التعبير الذي اختاره لإرادته ( [15] ) .

 موقف القانون الحالي:
وقد سبق القول إن القانون الجديد انحرف انحرافًا بسيطًا عن تقاليد القانون القديم في أمر الإرادة الباطنة والإرادة الظاهرة فلم يجمد في الوقوف عند الإرادة الباطنة ، بل تزحزح قليلا نحو الإرادة الظاهرة حتى يكفل الاستقرار في التعامل ، على أنه لم يبلغ مبلغ القانون الألماني في اقترابه من الإرادة الظاهرة كما سبق أن بينا . وإذا جاز أن يقال إن القانون الألماني قد أكمل نظرية الإرادة الظاهرة بنظرية الإرادة الباطنة ، فإن القانون الجديد يكون قد أكمل نظرية الإرادة الباطنة بنظرية الإرادة الظاهرة .

 متى ينتج التعبير عن الإرادة أثره:
والتعبير عن الإرادة ـ سواء كان صريحًا أو ضمنيًا ـ وسواء اعتد فيه بالإرادة الباطنة أو بالإرادة الظاهرة ـ لا ينتج أثره إلا في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه . وهذا ما تقضى به المادة 91 من القانون المدني الجديد ، فهي تنص على ما يأتي : ” ينتج التعبير عن الإرادة أثره في الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه ، ويعتبر وصول التعبير قرينة على العلم به ما لم يقم الدليل على عكس ذلك ” ( [16] ) ولا نظير لهذا النص في القانون المدني القديم .

ولإيضاح ذلك يجب التمييز بين وجود التعبير وجود فعليًا ووجوده وجودًا قانونيا . فالتعبير يكون له وجود فعلى بمجرد صدوره من صاحبه ، ولكنه لا يكون له وجود قانوني إلا إذا وصل إلى علم من وجه إليه . العبرة في التعبير بوجوده القانوني لأن هذا الوجود وحده هو الذي تترتب عليه الآثار القانونية للتعبير . وهذا هو المعنى المقصود من إنتاج التعبير لأثره ( Efficacite ) .

فإذا كان التعبير عن الإرادة إيجابًا مثلا فإنه لا ينتج أثره إلا إذا وصل إلى علم المتعاقد الآخر الذي يوجه إليه الإيجاب . ومتى وصل إلى علمه أنتج أثره . ومعنى ذلك أن الإيجاب من وقت العلم يعتبر قائمًا لا يجوز العدول أثره . ومعنى ذلك أن الإيجاب من وقت العلم يعتبر قائمًا لا يجوز العدول عنه ، وكان قبل العلم أي قبل أن ينتج أثره يجوز فيه العدول ، ولكن هذا ليس معناه أن الإيجاب الذي أصبح من وقت العلم قائمًا لا يجوز العدول عنه ، هو إيجاب ملزم لا يجوز الرجوع فيه . فإن الإيجاب الذي لا يجوز العدول عنه ، يجوز مع ذلك الرجوع فيه ، ما لم يكن ملزمًا .و حتى يكون الإيجاب ملزمًا . وحتى يكون الإيجاب ملزما يجب توافر شروط معينة سيأتي الكلام فيها . ومن ذلك يتبين أن العدول لا يكون إلا قبل أن يستكمل الإيجاب وجوده القانوني ، أما الرجوع فلا يكون إلا بعد أن يستكمل الإيجاب هذا الوجود بشرط ألا يكون ملزمًا ، فإذا كان ملزما فلا يجوز العدول عنه ولا الرجوع فيه . و إذا كان التعبير عن الإرادة قول مثلا ، فإنه كذلك لا ينتج أثره إلا من وقت علم الموجب به . وأثره القبول أكثر وضوحًا من أثر الإيجاب ، فإن القبول إذا أنتج أثره كان هذا الأثر هو تمام العقد . ومن ذلك يتبين أن القبول إذا صدر فلا يتم به العقد إلا من وقت وصوله إلى علم الموجب ، وهذه هي نظرية العلم التي سنراها في التعاقد بين الغائبين .
وقد جاءت المادة 91 بقرينة قانونية على العلم لما قد ينطوي عليه من خفاء ، فقضت بأن وصول التعبير قرينة على العلم به ، لأن العادة جرت أن الناس إذا وصل إليهم شيء أحاطوا به علمًا وقت وصوله . على أن هذه القرينة القانونية ليست قاطعة ، فيجوز لمن وصل إليه التعبير أن يثبت أنه لم يعلم به بالرغم من وصوله ، وهو الذي يحمل عبء الإثبات ( [17] ) .

ويتبين مما تقدم أن القانون الجديد قطع في أمر كان القانون القديم فيه مترددًا ، غذ جعل التعبير عن الإرادة ينتج أثره من وقت العلم به ، وكان القضاء في القانون القديم يتردد بين وقت إعلان التعبير ووقت تصديره ووقت وصوله ووقت العلم به ، وسنرى ذلك عند الكلام في التعاقد بين الغائبين .

 الموت وفقد الأهلية – أثرهما في التعبير عن الإرادة:
وقد قدمنا أن التعبير عن الإرادة يكون له وجود فعلى من وقت صدوره من صاحبه ، وهذا الوجود الفعلي يبقى له حتى لو مات صاحبه أو فقد أهليته . وهنا اعتبر القانون الجديد أن التعبير عن الإرادة قد انفصل عن صاحبه ما دام قد تم له الوجود الفعلي . فلا يسقط بموت من صدر منه التعبير ولا بفقده لأهليته وفي هذا ضرب من الأخذ بالإرادة الظاهرة دون الإرادة الباطنة التي تبقى كامنة في نفس صاحبها وتموت بموته وتزول بفقده لأهليته . وإذ اعتبر القانون الجديد ذلك . فقد رتب على هذا الاعتبار نتيجة هامة خالف فيها القانون القديم . فجعل التعبير يبقى بعد الموت أو فقد الأهلية ، بل ويستكمل وجود القانوني بوصوله إلى علم من وجه إليه . وهذا ما تقضى به المادة 92 من القانون الجديد ، فهي تنص على ما يأتي : ” إذا مات من صدر منه التعبير عن الإرادة أو فقد أهليته قبل أن ينتج التعبير أثره ، فإن ذلك لا يمنع من ترتب هذا الأثر عند اتصال التعبير يعلم من وجه إليه ، هذا ما لم يتبين العكس من التعبير أو من طبيعة التعامل ( [18] )

وقد كان القضاء المصري في ظل القانون القديم يجري على أن موت صاحب الإرادة أو فقده لأهليته قبل أن تنتج الإرادة أثرها يستتبع سقوط الإرادة ( [19] ) .

ويرجع هذا في رأينا إلى أن القانون القديم لم يكن يستطيع أن يتصور انفصال الإرادة عن صاحبها ، فهو لا يراها إلا إرادة كامنة في النفس تموت بموت صاحبها وتزول بفقده لأهليته . ولا شك في أن حكم القانون الجديد في هذه المسألة يفضل حكم القانون القديم من حيث استقرار التعامل . والمثل الآتي بوضح ذلك : شخص في مصر كتب لآخر في فرنسا يعرض عليه صفقة ، فقلها الآخر ، ولكنه مات قبل أن يصل القبول إلى علم الموجب ، ولم يكن هذا عند وصول القبول إليه يعلم بموت صاحبه . العقد في هذه الحالة يتم وفقًا للقانون الجديد ، وكان لا يتم في ظل القانون القديم . وظاهر أن القول بتمام العقد هو الذي يتفق مع استقرار التعامل ، فإن الموجب لا مأخذ عليه إذا هو اطمأن إلى تمام الصفقة ورتب شؤونه على هذا الاعتبار ( [20] ) ” .

ويجب على ورثة القابل في هذه الحالة ( وعلى القيم في حالة فقد الأهلية ) وقد تم العقد أن يقوموا بتنفيذه في الحدود التي تلتزم بها الورثة بعقود مورثهم ( [21] ) . وغنى عن البيان أن العقد لا يتم في المثل المتقدم إذا تبين من الإيجاب أو من طبيعة التعامل أن شخص القابل هو محل الاعتبار . فإذا قصد الموجب ـ وبان هذا القصد في إيجابه صراحة أو ضمنًا ـ أن العقد لا يتم إلا مع القابل بالذات ، أو كان الأمر المعقود عليه تستعصى طبيعته أن يقوم بتنفيذه غير القابل شخصيًا ، كما إذا كان هذا فنانًا وعرض عليه القيام بعمل يدخل في فنه ، فإن القبول يسقط بموت القابل ( [22] ) .

كل هذا بخلاف من وُجِّه إليه القبول ، فإنه إذا فقد أهليته أو مات قبل وصول القبول إلى علمه فإن العقد لا يتم ، لأن القبول في هذه الحالة لا يمكن أن ينتج أثره ، إذ هو لن يصل إلى علم من وجه إليه بعد أن مات ، فيبقى الإيجاب دون قبول ولا يتم العقد ( [23] ) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

( 1 ) يجب على التراضي أن يكون في شكل مخصوص كما في العقود الشكلية التي سبق ذكرها . ففي هذه الحالة يكون هذا الشكل المخصوص ركنا من أركان العقد .

 ( 1 ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المشروع التمهيدي في المادة 135 منه على الوجه الآتي : ” يتم العقد بمجرد أن يتبادل الطرفان التعبير عن إرادتين متطابقتين ، ما لم يقرر القانون أوضاعًا معينة لانعقاد العقد ” . وجاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” قطع المشروع بإيثار مذهب افرادة الظاهرة بصورة واضحة في هذا النص ، فلم يتطلب لانعقاد العقد توافق إرادتين ، بل استلزم تبادل التعبير عن إرادتين متطابقتين ” وهذا القول الذي ورد في المذكرة الإيضاحية يوهم أن القانون الجديد قد انحاز إلى نظرية الإرادة الظاهرة انحيازًا تامًا . والواقع غير ذلك . فقد رأينا أن القانون الجديد في وضعه النهائي قد سلك مسلكا وسطا بين نظريتي الإرادة الظاهرة والإرادة الباطنة ، بل هو قد جعل الإرادة الباطنة هي الأصل ، ولم يعدل عنها إلى الإرادة الظاهرة إلا إذا اقتضى استقرار التعامل هذا العدول . ولما تتلى النص الذي نحن بصدده في لجنة المراجعة ، أضيف إليه عبارة ” فوق ذلك ” ، فأصبح كما يأتي : ” يتم العقد بمجرد أن يتبادل الطرفان التعبير عن إرادتين متطابقتين ما لم يقرر القانون فوق ذلك أوضاعا معينة لانعقاد العقد ” . ولما تتلى النص الذي نحن بصدده في لجنة المراجعة ، أضيف إليه عبارة ” فوق ذلك ” ، فأصبح كما يأتي : ” يتم العقد بمجرد أن يتبادل الطرفان التعبير عن إرادتين متطابقتين ما لم يقرر القانون فوق ذلك أوضاعا معينة لانعقاد العقد ” . وقد أصبح مفهوما بهذا التعديل أن اشتراط أوضاع معينة لانعقاد العقد لا يغني عن تطابق الإرادتين . ثم قدمت المادة بالنص الآتي : ” يتم العقد بمجرد أن يتبادل طرفان التعبير عن إرادتين متطابقتين مع مراعاة ما يقرره القانون فوق ذلك من أوضاع معينة لانعقاد العقد ” . وقد وافق مجلس النواب عليها دون تعديل تحت رقم 91 . وفي لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ تليت هذه المادة فوافقت اللجنة عليها كما هي بعد المناقشة وأصبح رقمها 89 . ووافق مجلس الشيوخ على النص كما أقرته لجنته . ( أنظر في كل هذا مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 8 ص 13 ) .

 ( 2 ) والذي يقع عادة أن الإرادتين المتطابقتين تتعاقبان ولا تتعاصران ، فيصدر الإيجاب أولا ، ثم يليه القبول مطابقا له . ومع ذلك قد تتعاصر الإرادتان المتطابقتان ، كما في الرجان على سباق الخيل ، إذ يدفع عدد من المتراهنين المبالغ التي يراهنون بها في وقت واحد . وقد جاء في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” وفي الغالبية العظمى من الأحوال يبدأ أحد المتعاقدين بالإيجاب ، ثم يتلوه قبول المتعاقد الآخر . ولكن ليس من الضروري أن يلى القبول الإيجاب ، فقد يتم العقد يتلاقى تعبيرن متعاصرين عن إرادتين متطابقتين ، كما هو الشأن كما هو الشأن في الرهان على سباق الخيل ” . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 10 )

( 1 ) وقد قضت محكمة النقض بأن المقصود بالرضاء الصحيح هو كون المتصرف مميزا يعقل معنى التصرف وبقصده ، والغرض من كونه مميزًا يعقل معنى التصرف أن يكون مدركا ماهية العقد والتزاماته فيه . أما كونه يقصده فالغرض منه بيان ألا بد من إرادة حقه منه لقيام هذا الالتزام . فالإرادة إذن ركن من الأركان الأساسية لأي تصرف قانوني ( وكان المتصرف وقت تحرير العقد مريضًا عصبيًا أفقده الإرادة وانتهى بالانتحار ) ( نقض مدني في 8 مارس سنة 1934 مجموعة عمر 1 رقم 169 ص 329 ) .

وقد اشتمل المشروع التمهيدي على نصين في هذا الموضوع حذفا في المشروع النهائي فكانت المادة 127 من المشروع التمهيدي تنص على ما يأتي : ” يكون التعبير عن الإاردة باطلا إذا صدر من شخص وهو في حالة غيبة أو هو مصاب باضطراب عقلي ولو كان الاضراب وقتيا ، بحيث يكون هذا الشخص فاقد التمييز ” . وورد في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” يقصد من هذا الحكم إلى مواجهة حالات الاضطراب العارض التي لا تكفي لفقد الأهلية بوجه دائم وإن استتبعت فقد الإرادة ما بقى الاضطراب قائما ، كما هو الشأن في الغيبة والسكر والتنويم المغناطيسي ( أنظر التقنين الألماني تعليقات 1 ص 103 ) . ويفرق القانون الإنجليزي بين الصترفات التي تنعقد بإرادة منفردة والعقود التي لا تتم إلا بإرادتين . ويجعل من الاضطراب العقلي والسكر سببا لبطلان الأولى دون الثانية . والظاهر أن هذه التفرقة ترجع إلى مغالاة هذا القانون في الحرس على استقرار المعاملات ( جنكس م 64 و 69 ـ وولنستون 1 ص 111 ) ” ولما تليت المادة 127 في لجنة المراجعة اقترح حذفها لوضوح حكمها ولعدم الحاجة إليها ، فوافقت اللجنة على ذلك .

وكانت المادة 128 من المشروع التمهيدي تنص على ما يأتي : ” لا يكون التعبير عن الإرادة باطلا لمجرد أن صاحبه قد أضمر غير ما أظهر ، ولكنه يكون باطلا إذا كان من وجه إليه يعلم بهذا التحفظ الذهني ” . وورد في المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي في هذا الصدد ما يأتي : ” يتناول هذا النص مسألة التحفظ الذهني ، وهي تثير من فورها أمر البحث في المفاضلة بين مذهب الإرادة الباطنة ومذهب الإرادة الظاهرة ، فإذا لم تطابق الإرادة الظاهرة الإرادة الباطنة فبأيهما يؤخذ ؟ أخذ المشروع بالمذهب الجرماني ، مؤثرا الإرادة الظاهرة ، وليس شك في أن هذا المذهب أكفل بتحقيق الاستقرار في نطاق الروابط القانونية وأكثر استجابة لمقتضيات الائتمان . وهو يصادف ، فضلا عن ذلك ، سندًا قويا في الشريعة الإسلامية ، غذ هي تعتد اعتدادا بينا بالإرادة الظاهرة ، متأثرة في ذلك بنزعة مادية واضحة ، فإذا كان من وجه إليه التعبير عالما بالتحفظ الذهني المتعلق بهذا التعبير ، فلا محل لعدم الأخذ بالإرادة الحقيقة إذ لم يعد في الأخذ بها إخلال بتأمين المعاملات . وقد ذهب القضاء المصري إلى إيثار المذهب الذي اتبعه المشروع في الفروض النادرة التي طرحت عليه بشأن التحفظ الذهني ( استئناف مختلط 20 فبراير سنة 1896 م 8 ص 132 ) ” ولما تليت المادة 128 في لجنة المراجعة اقترح حذفها ” لأن فيها إمعانا في الدقة لا حاجة لنا به ” فوافقت اللجنة على ذلك .

( أنظر في كل هذا مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 29 ـ ص 30 في الهامش ) .

 ( 1 ) ويقرر علماء النفس أن الإرادة يسبقها عملا تحضيريان ويليها عمل تنفيذي . فأول مرحلة هي اتجاه الفكر إلى أمر معين ، وهذا هو الإدراك ( conception ) . ثم يلى ذلك مرحلة التدبر ( deliberation ) فيزن الشخص الأمر وبتدبره . ثم تأتي المرحلة الثالثة وهي إمضاء العزيمة في هذا الأمر والبت فيه ، وهذه هي الإرادة ( volition ) . فإذا انعقدت لم يبق بعد ذلك إلا مرحلة رابعة وهي مرحلة التنفيذ ( execution ) . وهذه المرحلة الأخيرة هي عمل خارجي ، أما المراحل الثلاث الأولى فهي مراحل داخلية نفسية : اثنتان منها ترجعان إلى التفكير والثالثة هي الإرادة المقصودة .

وتميز علماء النفس هذه المراحل بعضها عن بعض حتى لا تختلط الإرادة بالرغبة ، وهذا شيء سابق ، ولا تلتبس بالتنفيذ ، وه وشيء لاحق . وإلا فإن النظريات الحديثة في علم النفس لا تسلم بالتمييز فيما بين المراسل المختلفة هذا التمييز الدقيق فإنه يصعب القول بأن العمل النفسي ، وهو بطبيعته عمل معقد ، يمر على مراحل متميزة بعضها عن بعض تميزا فيه كل هذا الوضوح ومن الصعب الجزم بأن الإنسان لا يدخل في مرحلة التدبر إلا بعد أن يتم مرحلة الإدراك . فإن الإدراك والتدبر ينفعل أحدهما مع الآخر التدبر لا يزن فيها الإنسان الأمر على هذا النحو المادي ، فيستخلص أسبابا للإقدام على العمل وأخرى للإحجام عنه ، فإن العمل النفسي أكثر تعقيدا وأقل وضوحًا . فإذا انتهينا إلى مرحلة الإرادة خيل لمن يتتبع التحليل المتقدم أن هناك قوة نفسية مستقلة ، غير قوة الإدراك وقوة التدبر ، هي التي تتولى البت في الأمر وتكون حكا لا تعقيب على حكمه ، مع أن الإرادة ليست إلا ما ينتهي إليه الإدراك والتدبر ، فهي ليست مستقلة عنهما ، وما هي إلا امتداد طبيعي لما أودع في الإنسان من تكفير وتمييز وتبصير .

 ( 1 ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المشروع التمهيدي ( م 124 ) على الوجه الآتي : ” 1 – يجوز التعبير عن الإرادة بالألفاظ وبالكتابة وبالإشارة المتداولة عرفا ، كما يجوز ذلك أيضًا باتخاذ موقف يكون من شأنه تعبا للظروف ألا يدع شكا فيما يشتمل عليه هذا التعبير . 2 – ويجوز أن يكون التعبير عن الإرادة ضمنيا إذا لم يقض القانون أو ينفق الطرفان على أن يكون صريحًا ” . فأدخلت لجنة المراجعة عليه تعديلات لفظية أصبح بعدها مطابقًا للنص الوارد في القانون ، وأخذ رقم المادة 92 من المشروع النهائي . ووافق مجلس النواب على النص دون تعديل تحت رقم 92 . ولما تليت المادة في لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ دارت مناقشات طويلة حولها انتهت إلى أن أغلبية اللجنة رأت حذفها ، ثم رجع عن هذا الرأي في جلسة أخرى وأقرت بقاءها ، وأصبح رقم المادة 90 . ووافق مجلس الشيوخ على النص كما أقرته اللجنة ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 14 و ص 15 ـ ص 19 ) .

 ( 1 ) وقد كان المشروع التمهيدي يشتمل على النص الآتي ( م 134 من المشروع ) : ” 1 – يعتبر عرض البائع مع بيان ثمنها إيجابا 2 – أما النشر والإعلان وبيان الأسعار الجاري التعامل بها وكل بيان آخر متعلق بعرضو أو طلبات موجهة للجمهور أو للأفراد ، فلا يعتبر عند الشك إيجابًا ، وإنما يكون دعوة إلى التفاوض ” فاقترح حذف هذا النص في لجنة المراجعة لعدم الحاجة إليه إذ يسهل على القضاء تطبيق هذا الحكم دون نص عليه ” فوافقت اللجنة على ذلك . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 41 في الهامش ) .

 ( 2 ) وقد يكون السكوت تعبيرًا صريحًا عن القبول كما سيجيء ( قارن حكما لمحكمة النقض ـ الدائرة المدنية ـ في 21 إبريل سنة 1949 مجموعة عمر 5 رقم 410 ص 760 ، وقد استخلصت المحكمة قبول المنذر إليه قبولا ضمنيا من سكوته عن الرد على ما تضمنه الإنذار ) . .

 ( 1 ) أما إذا استأجر العين من الواعد فهذا دليل على رفض الوعد بالبيع . وقد استخلصت محكمة النقض عدول الموعود بالبيع عن الشراء من طلبه من الواعد أن يؤجره أطيانا تشمل العين الموعود ببيعها ( نقض مدني 6 يونيه سنة 1946 مجموعة عمر 5 رقم 90 ص 188 ) . ولم تر محكمة النقض أن تستخلص إيجابا ضمنيا بالهبة من أن المورث فتح حسابا خاصا في البنك لولديه أودع فيه باسمهما المبلغ المتنازع عليه ، وقالت في هذا الصدد ما يأتي : ” إذا كان كل ما قاله الحكم لإثبات الهبة أن المورث قد فتح حسابا خاصا في البنك لولديه أودع فيه باسمهما المبلغ المتنازع عليه وأنه فتتح هذا الحساب الخاص مع وجود حساب باسمه هو في ذات البنك ، فهذا الذي قاله الحكم ليس فيه ما يدل على صدور إيجاب بالهبة من المورث لأن نية الهبة لا تفترض ، وفعل الإيداع ليس من شأنه بمجرده أن يفيدها إذ هو يحتمل احتمالات لا يرجح أحدها إلا بمرجح ” . ( نقض مدني 8 أبريل سنة 1948 مجموعة عمر 5 رقم 298 ص 590 ) .

 ( 2 ) وقد لا يصل المشرع إلى حد أن يتطلب تعبيرًا صريحًا ، ولكنه يتطلب مثلا اتفاقا خاصًا ( أنظر م 309 و م 445 وم 781 ) ، أو ينص على أن الإرادة لا نفترض ( أنظر 279 وم 354 وم 360 ) ، أو يستوجب أن يكون تغير الإرادة تفسيرًا ضيقًا ( أنظر م 555 ) وفي جميع هذه الأحوال لا يشترط التعبير الصريح ، ولكن تجب الحيطة والتشدد في استخلاص التعبير الضمني .

 ( 1 ) أنظر آنفا فقرة 48 في الهامش .

( 2 ) وقد جرى القضاء المصري على الاعتداد بالتعبير الضمني عن الإرادة كما يعتد بالتعبير الصريح ( استئناف مختلط في 13 فبراير سنة 1896 م 8 ص 118 ـ وفي 12 مارس سنة 1930 م 42 ص 352 ) . وذهب كذلك إلى أن مسلكا معينًا أو ضربًا من ضروب التصرف قد يعتبر إفصاحًا عن الإرادة ( استئناف مختلط في 16 مايو سنة 1929 م 41 ص 401 ) .

 ( 3 ) بعض المراجع الرئيسية : سالي في الإعلان عن الإرادة ـ بنكاز تكملة بودري جزء 2 ـ ديموج في الالتزامات جزء أول ـ بلانيول وريبير وإسمان جزء أول ـ ديريه ( Dereux ) رسالة في تفسير الأعمال القانونية سنة 1905 ، وانظر أيضًا مقالا له في المجلة الانتقادية سنة 1901 ـ مقال الأستاذ مينال ( Meynial ) في الإعلان عن الإرادة في مجلة القانون المدني الفصيلة سنة 1902 ص 545 ـ ص 573 ـ مقال الأستاذ هوريو ( Hauriou ) والأستاذ جيليوم دي بيزان ( Guillaume de Bezin ) في الإعلان عن الإرادة في القانون الإداري الفرنسي في مجلة القانون المدني الفصلية سنة 1913 ص 543 ـ 586 ـ نظرية العقد للمؤلف ص 150 وما بعدها ـ أصول الالتزامات للدكتور حلمي بهجت بدوي بك ص 82 وما بعدها ـ نظرية الالتزام للدكتور أحمد حشمت أبو ستيت بك ص 70 وما بعدها .

 ( 1 ) وقد تأثر القانون الألماني بالفقه الألماني ، فأخذ إلى حد كبير بنظرية الإرادة الظاهرة وطبق القانون الإنجليزي هذه النظرية في كثير من الفروض ( أنظر جنكس م 77 : إذا استعمل شخص طرقا للتعبير عن إرادته بحيث يكون من المعقول تبعًا للظروف أن يفهم منها معنى معين ، فلا يجوز له أن ينكر هذا المعنى في مواجهة شخص تصرف عن حسن نية تصرفا يتلاءم مع هذا المعنى . وانظر أيضًا بولوك في العقد طبعة تاسعة ص 5 ـ ص 6 ـ وولتن في العقد جزء أولى فقرة 94 ) .

أما الشريعة الإٍسلامية فلو أن القاعدة فيها أن العبرة بالمعاني أي بالإرادة الحقيقية للمتعاقدين ، إلا أن الفقهاء في كثير من الفروض يقفون عند المعاني الظاهرة من الألفاظ التي استعملها المتعاقدان ، فلا يتعدونها إلى المعاني الكامنة في السريرة . ولعل هذا يفسر تحليلهم الدقيق لبعض العبارات والألفاظ ، ووقوفهم طويلا عند شرح ما تتضمنه هذه العبارات من المعاني ، وما يستتبعه اختلاف التعبير من اختلاف الأحكام فليس هذا منهم في رأينا استمساكًا باللفظ ، بل هو تغليب للإرادة الظاهرة على الإرادة الباطنة . هذه إلى أن هناك ثلاثًا جدهن جد وهزلهن جد ، أي أن الإرادة الظاهرة تتغلب فيها حما على الإرادة الباطنة ، وهي الزواج والطلاق والعتاق ( التلويح والتوضيح جزء 2 ص 787 ـ 789 ) .

( 1 ) ذلك أن أنصار الإرادة الظاهرة لا يغفلون الإرادة الباطنة على نحو مطلق . فهم يشترطون أن يكون وراء مظهر التعبير إرادة كامنة ، ولكن هذه الإرادة تكون مقصورة على أن يقصد بالإرادة الظاهرة أن تتخذ مظهرها الخارجي لتحدث أثرها القانوني ( Volonte de declarer ) فمن يعبر عن إرادته بالكتابة لا يقصد بهذه الإرادة المكتوبة أن تتخذ مظهرها الخارجي في الكتابة لتحدث أثرها القانوني إلا وقت أن يوقع على هذه الكتابة ، بل هو في الغالب لا يقصد ذلك إلا بعد أن يسلم الورقة المكتوبة ، أو بعد أن يقوم بتصديرها . ويترتب على ذلك أن أفعال الطفل أو المجنون لا يصح أن تؤخذ مظهرًا ماديا يعتد به في التعبير عن الإرادة ، لأن إرادة الطفل أو المجنون معدومة ، فلا يصح أن يقال إنه قصد أن تتخذ إرادته هذا المظهر الخارجي لتحدث أثرها القانوني ( أنظر المادتين 127 و 128 من المشروع التمهيدي وقد مر ذكرهما . وانظر في هذا المعنى فون تور Von Tuhr ص 132 ـ سالي في إعلان الإرادة ص 2 ـ رسالة الدكتور الشيني المقدمة لمعهد القانون المقارن بجامعة باريس في تكوين العقد وتفسيره في القانون المدني المصري الجديد ص 64 هامش رقم 3 ) .

ولا بد من وجود الإرادة الظاهرة وجودًا حقيقيًا ، فالإرادة المكتوبة لا وجود لها إذا كانت مزورة ، أما إذا لم تكن مزورة فهي موجودة حتى لو وجهت إلى غير الشخص المقصود ، بأن وجهت خطأ إلى شخص آخر يحمل اسم الشخص المقصود ( فون تور von tuhr ص 136 ـ رسالة الدكتور الشيني المشار إليها ص 84 فقرة 75 ) .

هذا والنتائج العملية للتمييز بين مبدأي الإرادة الباطنة والإرادة الظاهرة محدودة ، وهو لا تظهر إلا إذا أمكن تقديم دليل على أن الإرادة الظاهرة تختلف عن الإرادة الباطنة ، وقاما يستطاع إثبات ذلك ، وفي الأحوال القليلة التي يمكن فيها تقديم هذا الدليل بتقارب المبدآن من ناحية أخرى . ذلك أن مبدأ الإرادة الباطنة لا يترك المظهر الخارجي الخاطئ دون جزاء ، بل يرتب عليه الحق في التعويض ، على أساس المسئولية التقصيرية ، لمن اطمأن لهذا المظهر حماية للثقة المشروعة .

ومهما يكن من الأمر فلا يزال هناك فرق بين المبدأين لا يجوز إغفاله ، فنظرية الإرادة الظاهرة تنظر إلى الإرادة باعتبارها ظاهرة اجتماعية . أما نظرية لإرادة الباطنة فتنظر إلى الإرادة باعتبارها ظاهرة نفسية . وهذا الفارق يترتب عليه نتيجتان عمليتان : ( 1 ) عند تفسير العقد إذا أخذا لقاضي بمبدأ الإرادة الظاهرة فهو لا يكون ملزمًا أن يتحسس الإرادة الداخلية فيما تجته سريرة المتعاقدين ، بل هو يقف عند المظهر الخارجي للتعبير عن الإرادة ، فيفسره تفسيرًا اجتماعيًا لا نفسيًا ، مستندًا في ذلك إلى العرف الجاري وإلى المألوف في التعامل . ( 2 ) إذا أخذ القاضي بمبدأ الإرادة الظاهرة فإن مسألة تفسير العقد تصبح مسألة قانون تخضع لرقابة محكمة النقض ما دام الغرض ليس هو تفسير نية المتعاقدين بل تفسير نص العقد ، فيكون حكم ذلك حك تفسير نص القانون . أما إذا كان التفسير يتجه إلى بحث الإرادة الباطنة ، فهذه مسألة واقع لقاضي الموضوع فيها الرأي الأعلى ، وسنتناول هذه المسألة بتفصيل أوفى عند الكلام في تفسير العقد .

 ( 1 ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المشروع التمهيدي ( م 125 ) على الوجه الآتي :

” 1 ـ ينتج التعبير عن الإرادة أثره في الوقت الذي يصل فيه إلى من وجه إليه بحيث يتمن هذا من العلم به . ولا يكون له أثر إذا وصل عدول عنه إلى من وجه إليه التعبير عن الإرادة قبل أن يصل إليه هذا التعبير أو في الوقت الذي وصل إليه فيه 2 ـ إذا وصل عدول بعد وصول التعبير عن الإرادة ، وكان قد صدر بحيث كن يصل في الظروف المعتادة ، قبل وصول التعبير عن الإرادة ، وكان قد صدر بحيث كان يصل ، في الظروف المعتادة ، قبل وصول التعبير عن الإرادة أوفي الوقت ذاته ، فيجب على من وجه إليه العدول أن يخطر الطرف الأخر فورًا بهذا التأخر ،فإذا تهاون في الإخطار اعتبر وصول العدول في وقت غير متأخر ” ولما تلى النص في لجنة المراجعة ، اقترح حذف الجزء الثاني من الفقرة الأولى لعدم الحاجة إليه ، وكذلك الفقرة الثانية جميعها لأنها تقرر حكا تفصيليا لا يحسن أن يقرر بنص تشرعي ، فوافقت اللجنة على ذلك . ثم ناقشت الجزء الباقي من المدة ، واستقر الرأي على أن التعبير عن الإرادة ينتج أثره بالعلم ، ولكن لما كان العلم أمرًا متعذر الإثبات فيحسن أن يؤخذ الوصول قرينة عليه لأنه أكثر انضباطًا . على أن تكون هذه القرينة قابلة لإثبات العكس ” والطرف الذي وجه إليه التعبير عن الإرادة هو الذي يتحمل عبء إثبات العكس . وأصبحت المادة في صيغتها النهائية ( م 93 من المشروع النهائي ) كما يأتي : ” ينتج التعبير عن الإرادة أثره في الوقت لذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه ، ويعتبر وصول التعبير قرينة على العلم به إلا أن يقام الدليل على عكس ك ” . وقد وافق مجلس النواب على المادة دون تعديل تحت رقم 93 ثم عرضت على لجنة القانون المدني بمجلس الشيوخ ، فرأت الأغلبية حذفها ، ثم أعادت اللجنة النظر فيها فأقرت بقاءها ، وأصبح رقمها 91 . ووافق مجلس الشيوخ عليها بعد ذلك ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 19 ـ ص 28 ) .

ونذكر هنا أن القانون المدني السوري الجديد الذي صدر بعد القانون المدني المصري الجديد بزمن قليل ـ وعين لنفاذه تاريخ سابق على التاريخ الذي عين لنفاذ القانون المصري نفسه ـ سار على نهج القانون المصري في الغالبية العظمى من نصوصه وأحكامه . ومن الفروق النادرة ما بين القانونين أن القانون السوري لم ينقل عن القانون المصري نص المادة 91 . ويبدو أنه أراد بذلك أن يجعل التعبير عن الإرادة لا يتأخر إنتاجه لأثره إلى الوقت الذي يتصل فيه بعلم من وجه إليه . ويعزز هذا التفسير أنه جعل التعاقد فيما بين الغائبين يتم في المكان الذي صدر فيه القبول ( م 98 من القانون السوري ) لا في المكان الذي علم فيه الموجوب بالقبول ( م 97 من القانون المصري ) . وسيأتي تفصيل ذلك عند الكلام في التعاقد ما بين الغائبين .

 ( 1 ) لم تورد المذكرة الإيضاحية للمادة 125 من المشروع التمهيدي ( وهي المقابلة للمادة 91 من القانون الجديد ) الأمر على النحو الذي بيناه في المتن . فهي قد بنت إنتاج التعبير لأثره عند وصوله إلى علم من وجه إليه على فكرة أن الإيجاب ملزم بوجه عام ، فقبل العلم يكون الإيجاب موجودًا وجودًا فعليا ووجودًا قانونيًا ولكن يجوز الرجوع فيه إلى وقت العلم ، ومنذ هذا ا لوقت يكون ملزمًا لا يجوز الرجوع فيه ، وكان هذا النظر يتمشى مع المشروع التمهيدي الذي جعل الإيجاب ملزمًا ( م 129 من هذا المشروع ) . وهذا ما ورد في المذكرة الإيضاحية في صدد المادة 125 من المشروع التمهيدي : ” تتناول هذه المادة تعيين الوقت الذي يصبح فيه التعبير عن الإرادة نهائيًا لا يجوز العدول عنه ( اقرأ : الرجوع فيه ) . فمن الواجب التمييز بين وجود التعبير ، وهذا الوجود يتحقق وقت صدوره إذ يصبح عملا قانونيًا قائمًا لا يتأثر وجوده بوفاة من صدر منه أو يفقد أهليته ، وبين استكمال هذا التعبير لحكمه وتوفر صفة اللزوم له تفريعًا على ذلك ، وهذا لا يتحقق إلا في الوقت الذي يصل فيه التعبير إلى من وجه إليه ” . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 19 ـ ص 20 ) .

ولما كان المشروع النهائي ، ومعه القانون الجديد ، قد عدل عن جعل الإيجاب ملزمًا بوجه عام ، فحذف المادة 129 من المشروع التمهيدي ، كان من الواجب أن يدخل تعديل في الاعتبارات التي من أجلها لا ينتج التعبير أثره إلا من وقت العلم به ، على النحو المبسوط في المتن .

( 1 ) تاريخ النص : ورد هذا النص في المادة 126 من المشروع التمهيدي على الوجه الآتي :

” لا يؤثر في صحة التعبير عن الإرادة أن يكون من صدر منه أو من وجه إليه هذا التعبير قد مات أو فقد أهليته ، ما لم يتبين العكس من إرادة الطرفين أو من طبيعة التعامل ” ولما عرض النص على لجنة المراجعة دارت مناقشة طويلة حوله وكان هناك من يرى أن التعبير يسقط إذا مات صاحبه أو فقد أهليته قبل العلم به . وبعد المناقشة جعل هذا الحكم مقصورًا على موت من وجه إليه التعبير أو فقده لأهليته . وانتهت المناقشة إلى تعديل النص على الوجه الذي استقر في القانون الجديد ، وأصبح رقم المادة 94 في المشروع النهئي . ووافق مجلس النواب على المادة دون تعديل تحت رقم 94 . وكذلك وافقت لجنة القانون المدني لمجلس الشيوخ على النص تحت رقم 92 ، وجاء في تقريرها ما يأتي : ” اقترح الاستعاضة عن المادة 92 بالنص الاتي : ” ينقض التعبير عن الإرادة بموت صاحبه أو بفقد أهليته قبل أن يتصل التعبير بعلم من وجه إليه ، لأن نص المشروع في هذه المسألة يخالف المستقر والمألوف في صمر وفرنسا ، ولأنه قد يفضي إلى الإضرار بورثه المتوفى أو فاقد الأهلية ، إذ قد لا يتيير للورثة أو ممثل فاقد الأهلية الإحاطة في الوقت المناسب بتصرفات من عبر عن الإرادة ولم تر اللجنة الأخذ بهذا الاقتراح لأن التعبير عن الإرادة متى صدر صريحًا ارتبطت به مصالح لا يجوز إهدارها بسبب حادث طارئ هو موت من صدر منه هذا التعبير أو فقده لأهليته ، ولا يبقى بعد ذلك من سند للاقتراح إلا الإبقاء على المألوف ، ولكن اللجنة راعت أن هذا المألوف لا يستند إلى أساس ففهي أو منطق سليم ، بل الفقه والمنطق يقضيان بالاعتراض للتعبير عن الإرادة بكيان ذاتي ، ومثل هذا الوضع أكثر ضمانًا لاستقرار المعاملات وحماية المصالح ط . وقد وافق مجلس الشيوخ على المادة كما أقرتها اللجنة . ( مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 29 ص 35 ) .

 ( [19] ) انظر محكمة الاستئناف الوطنية في 9 مارس سنة 1930 المحاماة 4 ص 44 ) – محكمة طنطا في 6 ديسمبر سنة 1930 المجموعة الرسمية رقم 32 ص 305 – وكانت المادتان 50 / 72 من القانون القديم تطبقان هذا المبدأ في عقد الهبة فتنصان على ما يأتي : ” تبطل الهبة بموت الواهب أو بفقد أهليته للتصرف قبل قبول الموهوب له ” .

 

 ( 1 ) هذا ولو اعتبرنا الإيجاب ملزمًا كما كان الأمر في المشروع التمهيدي ، لأمكن القول أيضًا بتمام العقد في الفرض الآتي : شخص في مصر كتب لآخر في فرنسا يعرض عليه صفقة ، ومات الموجب قبل أن يصل الكتاب إلى الطرف الآخر ، ولم يكن هذا عند وصول الكتاب إليه بعلم بموت الموجب ، فقبل الصفقة .

والسبب في أن الصفقة لا تتم في هذا الفرض إذا لم تعتبر الإيجاب ملزمًا هو أن القبول لا يصل إلى الموجب إلا بعد موته ، ومن ثم فلا ينتج أثره . أما إذا اعتبرنا الإيجاب ملزمًا ومات الموجب ، فإن التزامه بالبقاء على إيجابه ينتقل إلى ورثته ، فإذا وصلهم القبول أنتج أثره وعلى هذا الأساس الأخير سارت المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدي إذ كان الإيجاب ملزمًا في هذا المشروع .

 ( 1 ) ولما كان القانون الجديد قد استحدث هذا الحكم ، فلا يكون له أثر رجعي . فلو أن القابل مات أو فقد أهليته قبل نفاذ القانون الجديد ( أي قبل 15 أكتوبر سنة 1949 ) ، فإن قبوله يسقط بالموت أو يفقد الأهلية طبقًا للقانون القديم . لكن إذا صدر القبول قبل نفاذ القانون الجديد ومات القابل أو فقد أهليته بعد نفاذه ، فإن القبول لا يسقط بالموت أو فقد الأهلية طبقًا للقانون الجديد ، وذلك تطبيقًا لنظرية الأثر الفوري ( effet immediate ) .

 ( 1 ) وقد سارت المذكرة الإيضاحية للمادة 126 من المشروع التمهيدي ( وهي التي تقابل المادة 92 من القانون الجديد ) على الأساس الذي سارت عليه في المادة السابقة ، فاعتبرت أن عدم سقوط التعبير للموت أو فقد الأهلية إنما جاء نتيجة منطقية لكون الإيجاب ملزمًا ، فورد في هذا الصدد ما يأتي : ” ” يقضى النص بأن التعبير عن الإرادة لا يسقط بموت من صدر منه أو بفقد أهليته ، وهذا الحكم ليس إلا نتيجة منطقية للزوم التعبير عن الإرادة . فالالتزام بالإبقاء على التعبير ، أو بعبارة أدق بالارتباط به ، يظل قائمًا بعد الموت أو فقد الأهلية ، شأنه في ذلك شأن أي التزام آخر . فإذا كان التعبير عن الإرادة إيجابًا وفقد الموجب أهليته قبل صدور القبول ، وجه القبول بداهة إلى نائبه لا إلى شخصه ” .

وهذا التعليل إذا صلح في قانون يعتبر الإيجاب ملزمًا بموجه عام كما كان الأمر في المشروع التمهيدي ، فهو لا يصلح تعليلا في قانون لا يعتبر الإيجاب ملزما إلا في حالات خاصة . على أن المذكرة الإيضاحية سارت إلى مدى أبعد في تقرير عدم سقوط التعبير بالموت أو فقد الأهلية حتى لو لم يكن التعبير ملزما ، إذا قالت : ” ووجود التعبير ، حتى قبل أن يصبح لازما ، لا يتأثر هو أيضًا بالموت أو بفقد الأهلية … ” وغنى عن البيان أن حق العدول ينتقل إلى ورثة الشخص أو ممثليه إذا حدثت الوفاة أو طرأ فقد الأهلية قبل وصول التعبير ” . وهذه الفقرة من المذكرة الإيضاحية تصلح تفسيرًا صحيحًا للقانون الجديد ، ويضاف إليها أن حق الرجوع في الإيجاب ينتقل هو أيضًا إلى ورثة الشخص أو ممثليه إذا حدثت الوفاة أو طرأ فقد الأهلية بعد وصول التعبير ، وذل كفي الحالات التي لا يكون فيها الإيجاب ملزمًا .

( أنظر في كل ذلك مجموعة الأعمال التحضيرية 2 ص 31 ) .

 ( 2 ) وكان المشروع التمهيدي ( م 126 ) يقرر غير ذلك ، على الوجه الذي بيناه فيما تقدم ولكن المشروع النهائي عدل النص على الوجه الذي رأيناه في القانون الجديد كما أسلفنا القول وقد كان القانون القديم يستثنى عقد الهبة من المبدأ القاضي بأن موت من وجه إليه التعبير أو فقده لأهليته بسقط التعبير ، فكانت المادتان 51 / 73 من هذا القانون تنصان على أنه ” يسوغ أن يحصل قبول الهبة من ورثة الموهوب له إذا كان قد توفى قبل القبول ، وفي حالة الهبة لمن ليس أهلاً للقبول يصح قبولها من يقوم مقامه ” ولم يرد لهذا النص القديم مقابل في القانون الجديد ، فلا يؤخذ الآن بهذا الحكم الاستثنائي إذ لا نص عليه .

هذا ، ويجب التمييز بين المبدأين أخذ بهما القانون الجديد ، فهو من جهة قرر أن التعبير عن الإرادة لا يسقط بموت صاحبه . وهو من جهة أخرى قرر أن هذا التعبير لا ينتج أثره إلا إذا وصل إلى علم من وجه إليه . ولكل من هذين المبدأ نطاقه الخاص . ويترتب على الجمع بينهما ما يأتي : ( 1 ) إذا صدر تعبير من الموجب ، ومات هذا قبل أن يصل الإيجاب إلى علم الطرف الآخر ، فإن التعبير يبقى قائما ولهذا الطرف الآخر أن يقبل الإيجاب ولكن هذا القبول لا ينتج أثره إلا إذا وصل هو أيضًا إلى علم الموجب ، وهذا قد مات فلا يتم العقد ( 2 ) إذا صدر قبول من الطرف الآخر ومات هذا ، بقى قبوله قائمًا ، ومتى وصل إلى علم الموجب تم العقد . لكن إذا مات الموجب قبل أن يصل القبول إلى عامه ، فإن القبول لا ينتج أثره ولا يتم العقد .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *